الطفولة.. استردادها وتمثيلها عبر الكتابة
أحفظ الكثير من الصور عن طفولتي وأنسى الكثير. بعض ما أحفظه تحول إلى أيقونات حددت الكثير من أبعادي التي أتحرك داخلها الآن، في حين تلاشت الكثير من الصور مُفرجة عن معالم وعوالم جديدة للشخص نفسه. في هذه المرحلة تحديدا تدخلت الكتابة، وأخذت مع مرور الوقت موقعها المتنقل من حياتي بفضل قدرتها على تمرين هوايتي في التذكر والحنين. ابتسمت في سري وقد أصبح لدي أخيرا ما أخشى من النسيان عليه، فاتخذت التذكر كأسلوب مقاومة مضاد للتناسي، وسمة نبيلة طورتها علاقتي بالكتابة الأدبية، وكلما كانت الذاكرة محتشدة بمقتنيات الماضي فإنها تعطي لصاحبها أحقية ما في النضال من أجل التعبير.
إننا ننظر غالبا إلى سيرنا الطفولية وكأنها سرد لزمن مقتطع من حياتنا، عِشناه لكننا لم نكن نحن اللاعبين فيه. كنا ضيوفا عليه أو متفرجين، أو على الأقل هكذا يحلو لنا أن نتخيله لنعفي أنفسنا من عبء مسؤولية تسقط بالتقادم. ربما لأن الطفولة مبنية على أفعال البديهة في حيزي الزمان والمكان المتاحين، تتمدد فيها مساحة المفروضات على هامش الاختيار، بدءا من الولادة بوصفها أولى الإكراهات وصولا إلى أسمائنا التي تُملى علينا وتتبعها محددات النظام الأسري، إلى جانب الشروط الطبقية التي ننشأ فيها بلا اختيار منا وبلا قدرة فعلية على تغييرها أو اختراقها في أعمارنا المبكرة، وبلا وعي بها في الغالب أصلا. ولأن الماضي يصبح «بلدا أجنبيا» كما يقول الروائي البريطاني ليسلي بولز هارتلي، تبدو حياتنا الجديدة خارج الطفولة أشبه بحالة لجوء لا تعترف بأنها مؤقتة، لكن الكتابة تتقدم على الصفحة البيضاء بوصفها أكثر الوسائل التعبيرية قدرة على الاختراق وإعادة ترتيب المكان الأول بتحريض من الشعور المتنامي بالحنين إلى الجهة الخلفية، تحت سطوة الواقع والقلق من المستقبل، لتجعل من ذلك البلد الأجنبي وطنا مأهولا.
إن أشد اللحظات التي تربك موضوعية الكاتب وتُشككه في حياد أدواته هي اللحظة التي يصبح فيها أخيرا جريئا بما يكفي لاقتحام طفولته. يحدث هذا عندما يذهب أحدهم لكتابة الفصول الأولى من مذكراته أو سيرته الذاتية، فضلا عن التسلل إلى جهة «البراءة» تلك عن طريق كتابة الشعر أو الرواية، حيث تمارس الكتابة حريتها في إغواء الكاتب والقارئ، في نفس اللحظة، بضمير الغائب، في محاولة لتمويه الذات. ويبقى تلقينا للطفولة عبر الأدب أشبه بالتحديق في المرآة الجانبية لسيارة تتحرك، حيث المشاعر والأشياء قد تبدو أقرب أو أبعد على المرآة مما هي عليه في الحقيقة.
ويعرفنا الأدب، أدب السيرة الذاتية والمذكرات بشكل خاص، على أساليب مختلفة في معالجة الطفولة كتابيا بعد التدقيق في ملامحها الغامضة واستنطاقها المضني الذي قد يأخذ العمر كبله دون الخروج بجملة مفيدة. ولكن بطبيعة الحال فإن الأمر لن يكون سهلا إلا بالوقوف على مسافة كافية عن أماكن الصبا وزمانها المتقطع، حيث تصبح الرؤية أكثر جلاء وشفافية. هنا، لا تغيب عن بالي طفولة جابرييل جارسيا ماركيز في سيرته البديعة «عشت لأروي». كان ماركيز مؤمنا بأن «الحياة ليست ما نعيشه، بل ما نتذكره، وكيف نتذكره، لنرويه» وعلى هذا القول بنى علاقته بطفولته كينبوع حكايات لا ينضب، لا يؤرقه في كتابتها سوى سؤاله: كيف أروي ما حدث؟ لأن قارئ ماركيز يستطيع أن يحس في هذه السيرة بغياب شقاء التحليل المعتاد الذي يصاحب الاقتراب من تلك المناطق الحساسة في الطفولة، كالفقر والفشل والعلاقات مع النساء، حيث يواصل ماركيز سرد طفولته كسائح أجنبي يزور منطقة الكاريبي عابرا متخففا من أي ضغينة أو حساسية مفرطة تجاه ما كان، بل على العكس، فإن امتنانه للتجربة هو الغالب عليه، كامتنانه لنساء العائلة اللواتي لا ينسى حنانهن الملهم، لاسيما جدته التي أثثت خياله بالخرافات وقصص الموت والأشباح.
بالكتابة وحدها يستطيع المرء أن يسترد طفولته من الماضي ليحولها إلى فعل مضارع. يستطيع أن يطورها وأن يرمم مشاهدها الناقصة بفعل الآثار الجانبية للنسيان وتعرية الزمن، اعتمادا على ذاكرة تتبدل طبقاتها كقشور البصلة، التشبيه الذي بنى عليه الأديب الألماني جونتر جراس مذكراته تحت عنوان «تقشير البصلة» التي قدمها كشهادة عن نفسه وعن الطفل الذي كانه، خلال سنوات حاسمة من التاريخ الألماني ستغير وجه أوروبا كلها، بل القارات السبع كلها، وكأنه طفل يعيشه مراهقة العالم! كما جاءت مذكراته كاعتراف متأخر ظل يرواح فيه بين ضمير الغائب والمتكلم، بموهبة عالم أركيولوجيا في اقتفاء الأثر، ومخيلة ثاقبة تعيد اكتشاف الزمان والمكان، معيدا تموضعهما على جغرافيا اللغة بالطريقة التي تحلو للكتابة. ومن الجلي للقارئ أن غراس لم يكتب طفولته أو ماضيه الشخصي والاجتماعي بشكل عام إلا بعد حوار سري طويل مع الذات والطفولة، عاشه مع نفسه الأديب الألماني، النازيُّ التائب والحائز على جائزة نوبل.
ومثلما تُعنى الكتابة بالبناء فإنها تنشغل بالمحو أيضا، وتلك إحدى ألاعيبها الساحرة في استضافة الماضي الشخصي للإنسان. فليست الطفولة دائما كما درجت الكلاسيكيات على وصفها بأنها «الفردوس المفقود» الذي يظل حنيننا المضطرب يناشدنا بالقبض عليه مكتوبا على الورق قبل انقضاض النسيان. ففي حالات متضاربة تستيقظ الطفولة في وعي الكاتب لتكون جحيمه الأرضي الذي تستحق النجاة منه احتفالا يليق بالحياة الجديدة، ولتندفع الكتابة لتكون أداة محو لا تدوين، وبطريقة انتقامية أحيانا: كتابة تمحو! لكن التصالح مع الطفولة يبقى حُلما أو هما مؤرقا طوال العمر، وهو ما يحرض على إعادة كتابتها بطريقة لا تستند إلى صورتها الحقيقية الكامنة في رضوض الذاكرة بالأبيض والأسود، بل إلى صورتها المشتهاة والمتخيلة.
* سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
