السحر في قصة «حكاية ابنة الأشجار» بين غرائبية الحكاية والإثارة المتخيلة

25 أغسطس 2025
25 أغسطس 2025

المرجعية في الأدب العُماني «11»

ضمن إصدارات الجمعية العُمانية للكُتّاب والأدباء الصادرة هذا العام ٢٠٢٥م وبالتعاون مع منشورات جدل صدرت المجموعة القصصية الجديدة (الرقص مع السراب) للقاصّ أحمد الحجري، التي تتضمن ثماني قصص قصيرة تتنوع في موضوعها وفكرتها ومعالجتها الفنية. 

وبالنظر في قصة (حكاية ابنة الأشجار) نجد أنها تناولت موضوعًا ليس بالجديد على الكتابة السردية العُمانية؛ إذ إن الموضوع له ارتباط بالتراث والحكاية والشعبية التي جعلت من شخصية الساحر شخصية مخيفة مرتبطة بالخوارق والعجائب، نجد ذلك في غير موضع من كتب التراث ومن كتب الأدب شعراً ونثراً. 

تقوم القصة على موضوع السحر، وافتتان الساحر بأكل الناس وتغييبهم، ثم امتلاكهم فيما بعد امتلاكاً قائماً على السيطرة والتملك. لقد اشتغلت القصة على المرجعية التراثية عن شخصيةٍ تدور ألسنة الناس حولها، مانحين إياها خوارق كبيرة لا يسعها العقل البشري، فتقدم القصة وصفاً للساحر كما في قول الراوي: «ذات يوم حين كانت قافلةً في طريق عودتها من الكُتّاب، اعترض طريقها رجل ذو هيئة غريبة، يلبس أسمالا بالية، ويرتدي عمامة لفها على زاوية من رأسه، ولديه عصا طويلة قدّت من جذع ليمونة يابسة. توقف فجأة وصوّب تجاهها نظرة خاطفة حادة هزت كيانها، ومزقت أحشاءها، وخدشت قلبها بجرح غائر. ارتعبت غصون وهربت وما هي إلا أيام حتى طرق ذلك الرجل الغريب باب بيتهم. سمعت الفتاة الصغيرة همسات ووشوشة سرت إليها من حديث دار بينه وبين أمها». (ص31) 

لم تكن صورة الساحر أعلاه إلا وصفاً يسيراً لما سيسرده الراوي بعد ذلك من أوصاف متخيّلة غائبة عن العين البشرية، وما هي إلا حكايات نقلت شفهياً على ألسنة مدة طويلة من الزمن مشكّلين مرجعية يستند عليها السرد في بنائية الحكاية القصصية هنا، يأتي الوصف مكمّلاً الصورة المتخيّلة للساحر، إذ يقول في موضع آخر على لسان الساحر: «في ذلك المساء التقيت بجماعتي وأعواني. وعدتهم (بحفلة زار) لن يشهدوا لها مثيلا إذا اجتمعوا عندي. أرسلت لإخواني السحرة الآخرين بأن يبعثوا بمغيبيهم ليكونوا لي جنودا، ناديت المردة والشياطين لحضور حفلة الجنون هذه، وبعثت أيضا للممسوسين وأصحاب العاهات بدعوات حضور. أتيت بالمشروبات التي ستجعلنا نحلم وننتشي، واقتلعت عددا من أشجار السمر المعمرة؛ لنشعل فيها نيران الاحتفال جلبت الطبول والدفوف لتقرع على وهج النيران، وأحضرت الضباع والثعالب والكلاب البرية. 

بدأت مراسم (حفلة الزار) في الليلة السابقة لذلك اليوم الذي سمعت فيه بأنها ستنتهي من دراستها البغيضة. قرعت الطبول والدفوف، وأشعلت النيران في الحطب، قضم المدعوون الجمر، وشربوا وغنوا ورقصوا. استمرت الحفلة إلى ما بعد منتصف الليل، هزّت الرؤوس، ونُقشت الشعور، وسقط البعض في حالة من الإغماء واللاوعي. في اليوم التالي حين اقتربت الشمس من المغيب، دعوتهم لمشاركتي حفل زفافي بالفتاة التي اخترتها بنفسي. كنت مصممًا على اختطاف فتاتي دون إذن والدتها التي رفضت مرارا تزويجي بها. هذا هو مصير من يقف في طريقي، سأغيبها كما غيبت فتيات أخريات من قبلها، ثم سأستعبدها وأجعلها زوجة وخادمة في بيتي». (ص35) 

في صورة الساحر أعلاه نجد تخيّلا واضحاً للمشهد مرده إلى الحكايات الشعبية المتناقلة على ألسنة الناس وقد شكّلت لنا صورة سردية للساحر، وحدثاً متخيلاً، وغرائبية في الوصف، ولعل هذا المشهد الغرائبي للساحر نجد له مثيلاً في السرد في رواية (حفلة الموت) لفاطمة الشيدي، وقد استطاعت الرواية تخيّل الحفلة التي يقيمها الساحر في العالم المتخيّل من حيث القدور والنار والأجساد المعلقة والدماء وغيرها. 

إذن فصورة الساحر في المخيال الشعبي تقترن بالأوصاف البشعة، وفعل الشر، والرغبة في القتل، وهذا ما تظهره القصة في وصف الساحر؛ إذ تقوم على إظهار افتتان الساحر -الكبير في السن- بالطفلة غصون، وهذه الأخرى مرجعية تدور على لسان الناس في الحكايات الشعبية عن تغييب الساحر لمن يختارهم للحياة الأخرى معه مقدماً لحومهم لسائر السحرة. ويظهر فيها افتتان السحرة بالفتيات الصغيرات في غير موضع من السرد، ربما أشرت في مقال سابق لأنموذجين مختلفين: الأول رواية (حفلة الموت) لفاطمة الشيدي وقد أظهرت الرواية افتتان شيخ الكُتّاب بالطفلة أمل، ورواية (درب المسحورة) لمحمود الرحبي الذي تشير إلى افتتان الساحر بالطفلة الصغيرة لحظة رؤيتها. 

في قصة (حكاية ابنة الأشجار) للحجري يظهر الأمر ذاته، فالشيخ الكبير/ الساحر يفتتن بالطفلة غصون، ويرغب بالزواج منها لكن أمها ترفض ذلك. في هذه القصة تأخذ المرجعية اتجاهين في سرد الأحداث، اتجاه غرائبي يقدمه السارد لنا منذ لحظة العثور على الطفلة وهي بين الأغصان إلى غرائبية الأحداث التي نراها في حوادث الأشجار مع الطفلة لا سيما في معركة الصراع الحاصلة بين جيش السحرة، وبين الأشجار المدافعة عن الطفلة، نجد ذلك مثلاً: «صحوت من نومي على إيقاع يوم خريفي بديع، ثم غدوت لأحتفل مع صديقاتي بختام الدراسة. تأخرت في العودة إلى بيتنا إلى وقت العصر بعد أن قضيت النهار بطوله في اللعب مع صديقاتي. في الطريق إلى البيت هبّت رياح الكوس الباردة، بعثرت خصلات من شعري، وألقتها على وجهي. لوهلة بدا أن سُحُبا مثل أكوام من قطن أبيض منفوش ترقص على بحيرة زرقاء عملاقة، شرعت السحب والغيوم تقترب وتبتعد كأنها في حفل راقص. وقفت مشدوهة من جمال المنظر. الوادي مليء بأشجار وحشائش صحراوية من كل صنف ونوع، وإذ بشجيرات الثداء بأزهارها المروحية الشكل تدور بفرح وسعادة، وبالقرب منها طفقت شجيرات الثرمد بأوراقها العصارية تتراقص وتدور أيضا حول نفسها ببهجة وحبور نظرت حولي فوجدت شجيرات الآرى تهتز بأزهارها البيضاء المنقطة بالزهري بغبطة وطرب كأنها بلورات من ضباب. بعدها أخذت أشجار السمر تتحرك، وتمد أغصانها وتخفضها كأنها أيدي نساء منقوشة بالحناء تلوّح لأزواجهن العائدين من سفر غنت أشجار الأشخر فاردة أوراقها الخضراء الباهتة، وتفتحت أزهارها البنفسجية، وبدأت تدور أيضا كأنها في حفل شعبي راقص. 

انتفضت شجيرات الحرمل وزحفت أغصانها، وتلوت مثل ثعابين سحرة فرعون استجابت نباتات الرمرام على تلال الرمل القريبة من الوادي وأخذت تلوح بأغصانها المورقة مثل قنافذ برية. كنت في حالة لا توصف من الاستغراب والاندهاش. شعرت أن الكون بأكمله يرقص لي بجذل وسرور. وأخيرا اقتلعت الغافة الكبيرة نفسها واقتربت مني. امتدت أغصانها وأمسكت بيدي وأخذ تدور بي وترقص معي، ورقصت جميع الأشجار والحشائش والنباتات معا كأننا في حفل زفاف تقليدي، ضحكت وفرحت لأن الجميع مبتهج درنا عدة دورات كأننا كواكب ومجرات. وانتشرت في الهواء أزهار صفراء صغيرة وأخرى بيضاء تناثرت من أثر الرقص. انتشى الجميع وابتهج لذلك المشهد الساحر، كأنني في حلم جميل وسط جنة من أزهار وبساتين، ثم بعد لحظات توقف كل شيء عن الرقص والدوران». (ص33) 

أما الاتجاه الآخر، فنجده في عنصر التخيل والتشويق والرعب في سرد الأحداث وتقديم الشخصيات والحركة الحاصلة في اتساع السرد وانتهاء الأحداث؛ إذ إن الحكاية تسير في خط تخيلي يشدّ القارئ على مواصلة الحركة إلى النهاية. 

لقد قدّم الاتجاهان صورة سردية متصارعة بين عالم الطفولة والبراءة وبين عالم السحر والشعوذة؛ إذ تمثّل الأشجار فيه عالم الطبيعة البكر الذي يحنو على الأرض ويحفظ لها جمالها، أما الساحر فهو نقيض البراءة؛ فهو يقود جيشًا من السحرة والمغيبين لسلب ما لا يملك. 

لقد استطاعت الحكاية تفضيل عالم الطفولة والأشجار على الساحر والانتصار عليه خلاف ما عليها الحكايات والأساطير القديمة من تقديم الساحر وإبراز سطوته وقوته بأنه شخصية لا تقهر. إن قوة الخير تفوقت على الشر، واستطاعت الأشجار حماية الطفلة غصون، إلا أن السرد في تخيله امتد إلى زاوية أخرى غير مرتبطة بتخيل عالم السحرة، بل في تحول الطفلة غصون من فتاة صغيرة إلى شجرة!!.