التفكير بذاكرة صُوَرِيّة

14 ديسمبر 2022
14 ديسمبر 2022

بات الماضي قريبا والمستقبل وشيكا، فذلك الماضي الذي نتذكر منه شذرات ضبابية لكونها كانت من الماضي وانقضت بعده سنين طويلة حتى فقدت الأشياء ألوانها، فأصبحت كذكرى هلامية ضبابية يحاول عقلك الإمساك بها، لكي لا تنفلت من الذاكرة لكونها بعيدة بعيدة جدا.

أصبحت لحظات الماضي في عصر اليوم المتسارع قريبة جدا، لأن التغيرات الفكرية تجعل من الأشياء تدخل بوابة الماضي المنسي، إلا ما بقي متمسكا بجدران الذاكرة، وها هو ذا المستقبل الذي كان يلوح لنا سابقا، كنجم بعيد في الأفق ها هو قريب منّا إلى الحدّ الذي يجعله يتطابق في معناه مع الغد، وتلك التوقعات المستقبلية أصبحت وشيكة جدا، والتحولات الفكرية والتقنية ليست بحاجة إلى نقلات بخطوات العصور القديمة.

آن الأوان لنتعامل مع التفكير كونه ليس عملية فطرية، فبات التغير يطال كل شيء، كون العلم أخذ يطرق كل أبواب جدران المجالات المغلقة، فأصبح لكل شيء تخصص ومجال، وله علماؤه والقائمؤن عليه، فتفرّعت المهن وتعمقت العلوم وتشابكت الأفكار، والتدخلات المعدلة باتت تلامس كل تفاصيل حياتنا، فأصبح كل شيء يسير وفق نظام عصري مطوّر، انجرف إلى منظومة التطور التقني المتسارع، بداية من أجسادنا وما كان لأهل الطب والاختصاص من سلطة على محاولة إبقائه بأفضل حال، ليزداد متوسط حياته إلى الضعف عن ذي قبل إلى تلك المباني التي تبدلت من كهوف في الجروف الجبلية، إلى ناطحات سحاب تُدار بأكملها بأنظمة الذكاء الاصطناعي.

وحريّ بالتفكير الذي صنع كل ذلك، وكان له الدور الأهم في كل التغيرات الفكرية والتقنية، أن تطاله أيضا يد التعديل أيا كان نوعه ليسير بالتوازي مع سرعة العصر.

سواء أكان ذلك التعديل تهجينا، وتدخلا وراثيا في جينات الإنسان الأولى، أم أنه في البرامج وطرائق التفكير المتقدمة، وأساليب تدريبه ومرانه، للوصول به إلى أعلى مستويات كفاءته، إلى الاستعانة بالشرائح المبرمجة التي أُعلنت عنها مؤخرا لزراعتها في أدمغة البشر، لتزيد من إمكانياتهم الفكرية وليختزل الجهد في جهد وطاقة الكمبيوتر المبرمج، وبذلك لا نترك ذلك الجزء الحيوي الهام في جسم الإنسان للفطرة لتكون النتائج بالفطرة.

ذلك الجزء الهلامي المحاط بالجمجمة، يمتلك في محتواه ما يقارب مائة مليار خلية عصبية، ومائة ألف تفاعل كيميائي، ومسارات عصبية طولها أكبر ١٤٥ مرة من محيط الكرة الأرضية، ناهيك عن لا نهائية القدرات والمساحات التخزينية.

لنركّز على المسافة الفاصلة ما بين الفكرة التلقائية، ومحاولة قولبتها لفكرة إبداعية، ولا تجعل تلك اللحظة تمر على نحو عشوائي، ذلك التفكير والذي اعتبرناه لأزمان طويلة عملية تلقائية تختلف باختلاف الأشخاص، ليتبين لاحقا بأنه يمكن تمرين العقل، ليصبح بقدرات نشطة، ولتعرف بعدها وعلى نحو متوسع المدارك، وحسب ما أظهرته دراسات الطب الحديث بأن الدماغ من الممكن إعادة تأهيله وتمكينه، مهما بدا متأثرا من جراء صدمات وأعراض.

بل إننا نمتهن دور المصور للحظة، ونحاول إبطاء مرور تلك اللحظة، كمن يحاول دبلجة ومونتاج مقطع تصويري ما، لنقف لحظة وفي اللحظة التي تفكر فيها، وتتفكر في ذلك التفكير قبل إصدار الأحكام حول ما تفكّر فيه.

وما هو شكل التفكير الذي سأقوم به يا ترى؟ هل هو يسير على نحو حلزوني من الفكرة الأوسع إلى الفكرة الأدق، أم أنه على شكل شبكة عنكبوتية تشابه توزع الخلايا العصبية في أنحاء الدماغ، وأيا كان شكل التفكير أو تأثيره على نبضات الخلايا الحسية، وما يحدثه من وميض فهو بحاجة إلى تصور شكل مبدئي منك أولا، وإلى خيط سير يمشي عليه لكي يتهادى في متاهات الحيرة والتساؤلات غير الممنهجة، وهي قد تكون أجزاء من الثانية، لا تستطيع بداية أن تتصور بأنك قادر على الإمساك بها، وبمعالجة ذلك التفكير ولذلك ظل التفكير آخر الأشياء التي نخضعها للمعالجة والمران، كونها تحدث على نحو سريع، فنعتبر ذلك موازيا ومرادفا لكونه فطريا، وأن تقف للحظة تحمل من الصعوبة الشيء الكثير، إلا أنه مع المران سيكون الأمر أسهل، فقبل أن نفكر أننا نحن بحاجة إلى التفكير في ذلك التفكير، وقبل أن تفكر في الأمر الشائك لمحاولة الوصول إلى النتيجة توقف قليلا وفكر في طريقة تفكيرك ولا تتركها للتلقائية، الأمر بحاجة إلى إبطاء اللحظة ليتسارع بعدها ويسلك مساره الصحيح، الأمر أشبه ما يكون بمرونة المادة القادرة على المط والاستطالة، في حين تكون قادرة على التشكل واستعادة شكلها من جديد.

الشكل الحقيقي للتفكير والذي يجب أن يكون سائدا وشائعا، هو أن يكون على نحو تلقائي وليس مركزا يضغط على أعصاب الدماغ، محدثا انزعاجا ومجهودا عصبيا قد يأخذ التفكير إلى مسارات أخرى، كالتفكير الخاطئ أو الابتعاد نهائيا عن التفكير واستخدام الدماغ، والعودة مجددا إلى نقطة البداية الأولى، وهو رَكْن عملية التفكير إلى كونها عملية تلقائية فطرية لا يمكن العبث معها، إلا أنه وفي ظل التطور المتسارع المتنامي باتت حركة الزمن كونها قيمة مجردة أسرع عن ذي قبل، فلا وقت مهدور ضائع كالسابق.

الأمر بالنسبة للتفكير أشبه بضغط الزناد، والذي لن تنطلق الرصاصة إلا عبر تلك الضغطة التي تتلقى إشارتها من الدماغ أولا، أو شد خيط الرمح لينطلق السهم بعيدا، أو بتعبير أصح بمثال أكثر واقعية، هو وقفات لانطلاقات أسرع، وهو ما يمكن أن نسميه التفكير في التفكير.

فبينما تبدو ملامحك هادئة وأنت تفكر على نحو تلقائي سلس مسترسل، يعيقك أمر ما، فتركز ذهنك لتتخطى الأمر، فيتبدّل انبساط ملامحك إلى شكل تركيز الذهن، وما يصاحبه من لزمات وملامح، التي تختلف من شخص لآخر، محاولا أن تضع خطة لأن تفكر على نحو مخالف، أو أسرع أو بقدرات أعلى من تفكيرك السابق.

نختار من بين كل البدائل المتاحة والخبرات المتراكمة لديك، نستثيرها من مكامنها ونستنهضها من سباتها لتكون جيشك للحظة، تعينك على التخطيط للحظة في مرحلة تفكير قادمة، كيف سأفكّر للتفكير في حل الأمر؟

تنبسط أسارير وجهك بعدها، فها أنت عرفت وِجهتك جيّدا، الأمر بحاجة إلى مرونة فكرية ليحقق في الأخير النتيجة ذاتها، تلك المرونة ما بين تركيز وانبساط ليظهر مصطلح التفكير فوق التفكير.

لكن كيف لك أن تعرف التفكير فوق التفكير بدون أن ترى تصورا ذهنيا لحظة سير عمليتك الفكرية، لتمتلك مرة بعد مرة ذاكرة تصورية رائعة.

نحن كبشر نرى الأشياء ذاتها، ونمر بذات التجارب وتتشابه حكاياتنا، لذا نجد تقاربا كبيرا في أفكارنا، والافتراضات القريبة على الغالب مضللة وشبيهة لما يسمى التبرير الذاتي، ولذا نتمكن من الانفلات منها إلا بمحاولة إيجاد رؤية جديدة للأشياء بخيارات أعمق، وتسير بالتوازي مع التفكير من زاوية خاصة جدا متفرّدة، تغرّد بعيدة عن السّرب، وتخرج عن تفكير القطيع النمطي التتابعي، ولتنتقل من التفكير التقليدي إلى التفكير الإبداعي، فللابتكار أفكار جديدة خلاّقة جرّب أن ترى الأشياء بطريقة مختلفة، ومهما بدت الفكرة صعبة لكون عملية التفكير تحدث في ومضة فكرية يصعب الإمساك بها، إلا أنه وحسب قول الطبيب الأمريكي دانيال جريجوري: «لم يكن هناك أي شيء خفيف في الأثر المستدام»، ومحاولاتك مع مرور الوقت ستصبح خبرة متفرّدة لا يمكن الاستهانة بها.

في التفكير اللحظي نبتعد عن السّرَحان غير الممنهج، الذي يزاحم أفكارنا الهادفة، فيكون أشبه ما يكون بالحديث المتداول بين الفكرة والأخرى، تنتقل برشاقة وخفة ما بين أنماط التفكير، لتعرف متى تقف عند مرحلة راحة التفكير، ومتى تشّد على أعصاب ذهنك وكأنك تعتصرها لتفكر، فالأمر أشبه باستحضار الصور الذهنية في دماغك، وكلما كانت الصورة أوضح كنتَ أقدر على التفكير المنطقي، وكما يقول الكاتب كرت فنجت: «سرّ النجاح في أي مسعى إنساني يكمن في التركيز الكامل»، ويقول الفيلسوف والشاعر الأمريكي رالف والدو: «التركيز هو سرّ القوة»، وليس من قبيل التحيّز أن أنحاز إلى صفّ من يمتلكون مهارات فنّية بحاجة إلى ذاكرة تصورية، تعزز تفكيرهم كذاكرة الرسّام أو ذاكرة الموسيقي الفنّان.

ممن يكونوا قادرين على استحضار الصور الفنية، إلى أن يتمكنوا أخيرا من تمرين الدماغ على التفكير التصوري، فحقيقة الأمر من يمتلكون حسا فنيا فهم بذلك لا يشحذون فقط قوة عقلهم الباطن، وتنمية مهاراتهم الجمالية فهم وبنظرة بعيدة المدى يعملون على تقوية الذاكرة التصورية، التي تستحضر الصور فيسهل عليها فيما بعد استحضار الأفكار للتفكير فيها وإعادة تشكيلها.