إنّهم يتلاعبون بالدوبامين!

10 مارس 2024
10 مارس 2024

من سيوقفُ إصبع السبابة التي ترسلُ رسائل مُضللة إلى الدماغ بأنّها ستتوقفُ عمّا قريب عن الضغط على شاشة الهاتف؟ لكنها في الحقيقة لا تفعل، بل تستمرئ في النقر المستمر، لتنقلنا -بشكل لا واعٍ- من إحساس كثيف بالغضب إلى الضحك إلى الإمتاع إلى الجوع إلى الرغبة في البكاء أو الغناء؟

عندما تحدثتُ مع ابني حول ذلك، قال لي ضاحكا: «إنّهم يتلاعبون بالدوبامين، ولذا فمشاعرنا شديدة التوهج والتناقض، لكن لأمد قصير جدا»!

ولا أدري حقًا إن كان «الدوبامين» هو ما يجعلنا نعيش بين شعورين قاسيين متناقضين. ما إن يشرئب أحدهما برأسه حتى يقفز الآخر من مكان سحيق، الأول: ذلك الشعور الحاد بالخزي والعار والتخلي، الذي يدفعنا إلى مزيد من احتقار الذات المتمرغة في النعم إزاء ما يحصل في عالمنا العربي المُنهك، ثمّ ذلك الشعور المناقض والمعبأ بالإنكار والرغبة في التمتع بالحياة الطبيعية المألوفة لنا -لا سيما وأنّ رمضان بأجوائه الحميمية يطرقُ أبوابنا- أضف إلى ذلك الرغبة في الحصول على تأكيدات مستمرة بأنّ حياتنا المحصنة والمنيعة هي حقنا الأصيل. هكذا يعيش أغلبنا منذ ٧ أكتوبر في تخبط وبين أمل ويأس!

هنالك من سقط في قعر الدوامة فتملكه العجز إزاء الطرق المسدودة، وهنالك من عزل ذاته لحمايتها مما يدور، وكأنّنا مجرد متابعين لفيلم بائس، يمكن بضغطة زر واحدة تغيير وجهة المشاهدة!

نتزاحم على محال البيع لشراء قوائم الأطعمة، فينصرفُ تفكيرنا في الأطباق التي سنحضرها لإفطار سعيد في رمضان. نفكرُ بدفء المساء ولمّة العائلة التي لا يوازيها شيء.

لكننا في غمرة التحضيرات، توجعنا خناجر الحقيقة لأيام، لساعات، لدقائق، لثوانٍ، عندما نتذكر وجود آلاف النازحين دون طعام كافٍ، دون شعور بالأمان، ولعلنا نفكر آنذاك: هل يمكن لتبرعاتنا أن تُرمم الخيبة؟ هل يمكن للمقاطعة أن تصنع فرقا ضئيلا؟ هل يمكن للخشوع والصلوات والدعاء أن يُنسينا ما عبروه من مآزق مفصلية في التاريخ البشري المتحضر؟ وهل يمكن للمسلسلات الكوميدية وبرامج التسلية أن تنزع جثثهم وصراخهم وما قالوه قبل الموت من رؤوسنا؟

يقول سبينوزا: «كل شيء يسعى نحو الاستمرارية في كيانه الخاص»، ونحن أيضا نرغبُ في أن نلتحم بحياتنا الطبيعية وتفاصيلها، أن نتجاهل التوحش العارم الذي يعرضه الإعلام لنا لحظة بلحظة، فنسعى إلى قليل من النأي. لكن ثمّة ما يُعيدنا، ثمّة ما يُبعثر اطمئنانا، ما يخدش انسجامنا مع أكثر لحظاتنا توهجا! إذ يتبدى لنا أنّ الانسلاخ من معاناة الإنسان الدامية، تلك الآلام غير المُحتملة التي تنهشُ بأجسادهم وأرواحهم، هو جحودٌ يعيد صورتنا المعاصرة إلى قرون الإبادات المنهجية والمتعمدة.

السؤال الذي لا يهدأ في أدمغتنا: ماذا يمكثُ تحت قشرة الحرب؟ وكيف تتعفن جذورنا العميقة والأشواط التي قطعتها البشرية في سبيل أن تتغلب على إنسانها البدائي الهمجي، ذلك الذي رأيناه على نحو شديد الفجاجة، يغرسُ سُميته القاتلة في صلب كل ما ظنناه متينًا وعميقًا كالشرائع والقوانين والمبادئ الكبرى؟

هنالك من يتلاعب بالدوبامين طوال الوقت، هذا ما أشعرُ به بكثافة هذه الأيام. وبما أنّ الكتابة هي محاولة صغيرة لركل حجر صغير في المياه الآسنة، لتعرية ما يعبرنا من كآبة وقلق في وقت يصعب على أحدنا أن يجد «أناه» الذائبة في «الكل»، فإنني سأتذكر ما قاله الروائي والشاعر الإنجليزي توماس هاردي: «إذا كان هنالك سبيل نحو الأفضل، فإنّ علينا أن نلقي نظرة شاملة على الأسوأ»، فما الأسوأ الذي نخشاه؟ الحرمان من رفع مشاهدات الحسابات على سبيل المثال؟ الحرمان من الجوائز الزائفة؟ من الاستثمارات الأجنبية في البلاد؟ ألا تبدو هذه المخاوف هي الأكثر تطرفا والأكثر غرائبية إزاء مصير الإنسان في حرب غير متناظرة؟ وفي أمد زمني غير معلوم؟

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى