أنساغ.. «أنت رجل شائق»: الجندر والإمبراطورية والرغبة في فيلم «لورنس العرب» «3»

17 سبتمبر 2023
17 سبتمبر 2023

من المنطلقات التي أوردتها في الحلقتين السابقتين فإن وجهة نظري حول الفيلم ستحاول الانكباب على «النُّقطة العمياء» في هذا العمل السِّينمائي «الباهر»؛ إذ أعتقد أن ما ينبغي بحثه هو التَّضمينات السِّياسيَّة للطَّريقة التي يصوِّر -بل حقاً يَنْقُلُ- بها الفيلم لورَنس ومحيطه الجغرافيَّ والإنسانيَّ على نَحْوٍ جنسيٍّ وأيروسيٍّ في خضم التَّجربة الكولونياليَّة والإمبرياليَّة؛ أي أسئلة الهويَّة الخاصَّة بالأنا وبالآخر، والنَّظرة المُحَدِّقة (gaze) التي تلتقط تحولات الرَّغبة المتمخِّضة عن تلك الأسئلة. وهكذا فإن تجاوز المنطوق الكولونياليِّ/السِّياسيِّ المباشر لنصِّ «لورَنس العرب» السِّينمائي وصولا إلى التَّحبيك (من «الحَبْكَة») المُرَكَّب للنَّص باعتباره تبادلات متداخلة ومعقَّدة للإمبراطوريَّة، والجَنْدَر، والرَّغبة هي ما أنا بصدد محاولة سبر غوره في مسعاي هذا (14).

الجَنْدَر، والأيروسيَّات، وسياسات النَّظرة المُحدِّقة

تلاحظ أيلا شُحْط Ella Shoht أن ميلاد السِّينما قد تزامن مع بلوغ الكولونياليَّة الأوروبيَّة ذروتها في نهاية القرن التَّاسع عشر. وبذلك فإن شُحْط تلفت انتباهنا إلى أن نقد الكولونياليَّة في الدِّراسات السِّينمائيَّة والنَّظريَّة النسويَّة للسِّينما لم يتوصَّل بعدُ إلى تحليل موضوعات الجَنْدَر في سياق «التَّناقضات والتَّساوقات التي تثيرها التَّرتيبات السُّلطويَّة في الحالة الكولونياليَّة، وما بعد الكولونياليَّة». ولذلك فإن شُحْط تقترح دراسة السِّينما الغربيَّة «بوصفها نتاجًا لنظرةٍ مُحَدِّقة غربيَّة مُجَنْدَرَة هي تراكُبٌ انعكاسيٌّ تكافُليٌّ لعلاقات بين النِّظام البطريركيِّ والصِّياغة الكولونياليَّة للاختلاف». تستلهم شُحْط مقولة إدوَارد سعيد: إن «الشَّرق» يُمَثَّلُ بوصفه «أنثى»، فتذهب إلى أن «المهمَّة الأوروبيَّة في حَضْرَنَة (مِن «الحضارة») العالم الثَّالث مُسْقَطَةٌ بوصفها سرديَّات متقابلة ومرتبطة ببعضها البعض في الآن ذاته للاختراق الغربي لمشهديَّةٍ طبيعيَّةٍ عُذْرِيَّة تُراوِد عن نفْسِها، ولكنها تقاوِم الطَّبيعة اللَّبيديَّة بالمعنى الفرويدي للمصطلح » (15). وفي هذا السِّياق فإن السِّينما الغربيَّة، كما في حالة فيلم «لورَنس العرب» تعتمد على شخصَّية «المُسْتكشِف»: «تَحِلُّ الكاميرا محلَّ حركة البطل الدِّيناميكيَّة عبر فضاء سالب وجامد، وبذلك فإن الكاميرا تُعَرِّي الأمكنة من «غموضها» في الوقت الذي يظفر فيه المتفرِّج الغربي بالولوج إلى المفاتن الشَّرقيَّة من خلال عيني المستكشِف - البطل» (16).

وفي الحقيقة فإن فيلم «لورَنس العرب» يُلمِح إلى سؤال النَّظرة المُحَدِّقة فيه بصورةٍ جماليَّةٍ رشيقةٍ في مُفْتَتَحِهِ بلقطةٍ تظهر في نهاية مشهد حادث الدرَّاجة الناريَّة الذي يموت بسببه لورَنس (وأظن أن ذلك واحد من أعظم «المَشاهد التَّأسيسيَّة» establishing scenes في تاريخ السِّينما الحديثة)، حيث إن تلك اللقطة المُقَرَّبة الثَّابتة والطَّويلة long static CU (مدَّتها خمسُ ثوانٍ بالضَّبط) تُرينا نظَّارة لورَنس الواقية متدليَّة من أماليدِ شجرة وهي «تحدِّقُ» في المُشاهِد، إن جاز القول. علاوة على ذلك فإن لقطة النَّظارة الواقية تليها مباشرة لقطة مُقَرَّبة متوسِّطة MCU لتمثالٍ نصفيٍّ للورَنس في بداية المشهد التَّأبيني التِّذكاري في كاتدرائيَّة سانت بول. ومرَّة أخرى فإن تمثال لورَنس النِّصفي «يحدِّقُ» في الجمهور في الوقت الذي تَزُومُ فيه الكاميرا (zoom out) مبتعدةً ببطء، خالقةً بذلك انطباعًا بنظرة تَدَرُّجيَّة، مُتَفَحِّصة، اختراقيَّة، وكاسحة.

إنني إنَّما أقترحُ، في هذا الإطار النَّظري، قراءة فيلم «لورَنس العرب» باعتباره مثالاً نموذجيَّا لِجَنْدَرَةِ النَّظرة المُحَدِّقة الغربيَّة. وبصورة خاصَّة فإن الفيلم يُبرهن لنا على الكيفيَّة التي تقطع دروبها هكذا نظرة الحدودِ الجَنْدَرِيَّة في الوقت الذي تتمسَّك فيه بهيمنةٍ ثقافيَّة أوروبيَّة سرديَّة (في موازاة للهيمنة السِّياسيَّة). ما أعنيه بذلك أن نقاشا حول هويَّة لورَنس الجنسيَّة الملتبِسَة إنما يسلطُّ الضَّوء على الأساسات الأيروسيَّة المِثليَّة، والسادو-- مازوشيَّة التي تحكم صُوَر انتقالات التَّمثيلات الجَنْدَرِيَّة، هذا وإن كان الفيلم، في نهاية المطاف، ينحاز لرؤيةٍ ذكوريَّة للرَّغبة. هذا التَّفاعل هو إسهام سينمائيٌّ في كتابة الإمبراطوريَّة باعتبارها ممارسة ومؤسَّسة نصيَّة للرَّغبة بوصفها تشكيلا أوديبيَّا إلى حدٍّ بعيد.

تلائمنا وتفيدنا هنا محاججة لورا مَلْفي Laura Mulvey في بحثها الأكاديمي المُعَمَّد «اللذَّة البصريَّة والسِّينما الرّوائيَّة» في فهم الدَّور الذي تلعبه النَّظرة المُحَدِّقة والعلاقة بالذَّات الأوديبيَّة في مقاربة فيلم «لورَنس العرب» (17). تقول مَلْفي إن لاوعي المُشاهد واقع تحت تأثير النِّظام البطريركي المُسيطِر. وهكذا فإن السَّرد السِّينمائي ينحاز إلى الذُّكور من الجمهور عبر منحهم متعة النَّظر (scopophilia) التي تُشَيِّئُ إناث الشَّاشة باعتبارهن «صورًا موضوعة للنَّظر» بغرض التَّأثير الأيروسي. لذلك فإن ملفي تحدِّد ثلاثة أنواع من النَّظرة المُحَدِّقة: نظرة الشخصيَّة الذَّكر إلى الشَّخصية الأنثى في الفيلم، ونظرة الذُّكور من الجمهور إلى الشخصيِّات الإناث في الفيلم، ونظرة الكاميرا التي تَخلِقُ الجمهور المُذَكْرَن (من الذُّكوريَّة). لكن إصرار مَلْفي على الطَّبيعة الذُّكوريَّة للنَّظرة المُحَدِّقة السِّينمائيَّة قد تُحُدِّيَ واختُلِفَ معه بصورة جريئة؛ فعلى سبيل المثال يحاجج ستيف كوهِن Steve Cohen في تحليله لفيلم «نُزهةٌ ووجبَة» (Picnic) من إخراج جوشوا لوغَن Joshua Logan (الولايات المتَّحدة، 1955) أن «الفيلم يبوح بصورة خاصَّة... بمثال على استثمار سينما هوليوود في إبهاريَّة (spectacle) جسد الذَّكر؛ فالفيلم... مُجَيَّرٌ في مَن يتوجَّه إليه من جمهور، وفي سرده، حول أسئلة النَّظر إلى جسد البطل الذَّكر» (18).

--------------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقتين السَّابقتين:

(14): من المثير للاهتمام حقَّاً أنّ النَّقد السينمائي العربي لهذا لفيلم، حتى بعد مضي أكثر من نصف قرن على إنتاجه، لا يزال أسيراً مُمَغْنَطاً للانطباعيَّة الصحفيَّة المنبهرة، والانخطاف السَّاذج بـ«الطريقة الرائعة»، و«المشاهد المذهلة»، و«الانتقالات الجميلة» التي صُوِّرت بها الصحراء العربيَّة في الفيلم، وذلك من دون محاولة النّفاذ إلى نقد سينمائي أعمق يخص تمثيلات الذَّات، والهويَّة، والتاريخ، والمصير (وإني أعتبرُ هذا من الأعراض المؤسفة لحال النقد السينمائي العربي الإنشائي). ولا شك أن طريقة تعاطي النَّقد السِّينمائي العربي مع الفيلم تتطلَّب وقفة مستقلَّة سواء من جهة غيري أو من جهتي.

(15): Ella Shohat, Gender and Culture of Empire: Toward a Feminist Ethnography of the Cinema in Visions of the East: Orientalism in Film, ed. Matthew Bernstein and Gaylyn Studlar (New Brunswick, N. J., Rutgers University Press, 1997), 19, 20.

(16): نفس المصدر السَّابق، 27.

(17): Laura Mulvey, Visual Pleasure and Narrative Cinema in Feminism and Film Theory, ed. Constance Penley (New York: Routledge, 1988), 57-68.

(18): Steve Cohen, Masquerading as the American Male in the Fifties: Picnic, William Holden and the Spectacle in Hollywood Film Camera Obscura 25-26 (1991): 44.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني