«أنا لم أقاطعك فاخرس ودعني أُكمل»

09 مارس 2024
09 مارس 2024

هذه العبارة في عنوان المقال نطق بها مصطفى البرغوثي، أمين عام المبادرة الوطنية الفلسطينية، المعروف في العادة بهدوئه الشديد، وقدرته على التحكم في أعصابه، في وجه آلان ديرشوفيتز؛ محامي إسرائيل في محكمة العدل الدولية، خلال استضافتهما من قبل الإعلامي البريطاني بيرس مورجان في برنامجه «بلا رقابة»، وهي - أي العبارة- يُمكن أن نعدّها عنوان هذه المرحلة الدقيقة من عمر القضية الفلسطينية، التي طفح كيل متابعيها المنصفين من هذا الانحياز الصارخ والصفيق من قبل الإعلام الغربي لسردية إسرائيل، وتبرير جرائمها، وإدانة كل من يقف في وجه جبروتها.

وهذه هي المرة الأولى التي أشاهد فيها مصطفى البرغوثي خارجا عن هدوئه المعتاد، وهو الذي لم يغضب حتى على تلك المذيعة البريطانية الوقحة التي تنمرتْ عليه ووصفته بأنه «غير معتاد على وجود امرأة تتحدث»! وفي الحقيقة فإنه في نظري خروج محمود، فقد بات مملًّا ومثيرًا للقرف هذا الانحياز الفاضح لإسرائيل في تغطية حرب غزة، ومقاطعة الضيوف الذي يمثلون وجهة النظر الفلسطينية، ليس فقط من قبل المذيع، بل حتى من الضيوف الآخرين الذي يمثلون وجهة النظر الإسرائيلية. وهذا ما فعله المحامي الأمريكي سيئ السمعة آلان ديرشوفيتز كما سنرى.

بدأ البرغوثي حديثه متوجهًا إلى مورجان بأنه غير متفاجئ من أن ندَّه في هذا الحوار هو ديرشوفيتز الذي يدافع عن الجيش الإسرائيلي القاتل، مذكِّرًا المشاهدين أن هذا المحامي استخدم شهرته وخبرته للدفاع عن القتلة في المحاكم الأمريكية، بل واشتهر بدفاعه عن تجار الجنس مثل «إبستاين»، قبل أن يبدأ البرغوثي بالحديث عمّا يجري في قطاع غزة قائلًا: «إن ما تراه في غزة الآن هو إبادة جماعية تسببت بقتل نحو اثني عشر ألف طفل وهؤلاء الأطفال ليسوا بعمر التاسعة عشرة، بل بعمر الخامسة والسادسة، وبعمر الثالثة والثانية»، مشدِّدًا أنه «لا شيء في العالم يبرر أن يُقتل اثنا عشر ألف طفل فلسطيني بسبب مقتل ثلاثين طفلًا إسرائيليًا». وأضاف أن ثلاثين ألفًا من المدنيين الفلسطينيين استُشهِدوا وجرح نحو اثنين وسبعين ألف شخص بسبب العدوان الإسرائيلي. هنا قاطع المحامي الأمريكي البرغوثي زاعمًا أن عدد الثلاثين ألفًا لا يقتصر على المدنيين فقط بل يشمل الجميع، ويقصد المدنيين ومقاتلي حماس، فرد عليه البرغوثي موبخًا: «انتظر. أنا لم أقاطعك لذلك اخرس ودعني أكمل».

وأكمل البرغوثي أن 4.5% من سكان قطاع غزة استشهدوا أو جُرحوا، وأن هذا الأمر لو كان قد حصل في الولايات المتحدة لكنا نتحدث اليوم عن اثني عشر مليون قتيل وجريح خلال أربعة أشهر فقط! وأضاف متسائلًا: «هل هذا مقبول؟ معظم الضحايا من المدنيين، 70% منهم مدنيون»، موضِّحًا أن الإبادة الجماعية للفلسطينيين لا تقتصر على قصفهم فقط بل إنهم يُقتَلون أيضًا بتجويعهم. هذه الأرقام المُفحِمة هي ما يميز الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية في حواراته لوسائل الإعلام الغربية، وقد واصل استعراضها قائلًا إن ما يجري في غزة اليوم هو «حصار جائر يخنق نحو 50 ألف امرأة حامل لا يجدن مكانًا مناسبًا للولادة، و64 ألفًا من النساء المرضعات لا يستطعن تغذية أطفالهن، فيما يتضور 700 ألف شخص الآن جوعاً لأن إسرائيل تمنع الحليب والطحين والطعام عن سكان مدينة غزة وشمال قطاع غزة».

المثير للاشمئزاز أنه بعد كل ما ذكره البرغوثي يقفز المحامي الأمريكي على كل هذه الحقائق، ويطرح السؤال السخيف التالي: «هل تدين حركة حماس لاستخدامها الأطفال والنساء دروعًا بشرية؟» ليرد البرغوثي على الفور أن حماس لا تفعل ذلك، ولا تختبئ خلف الأطفال، وأن «هذه الادعاءات كذبة أنت فقط من يرددها»، مضيفًا: «إنها بروباغندا إسرائيلية وبالنسبة لي فإن الطفلة اليهودية آنا فرانك التي قتلت على يد النازيين لا تختلف عن هند رجب وهي طفلة فلسطينية تبلغ من العمر ست سنوات حوصرت إلى جانب ستة من أفراد أسرتها في السيارة وقتلوا بعد استهداف الدبابات الإسرائيلية لهم وسط الصراخ وصيحات النجدة وبدلا من مساعدتها أطلقوا النار على سيارات الإسعاف التي جاءت لإسعافها».

وكما نعلم، فإن هذه ليست المرة الأولى التي يُفحِم فيها البرغوثي مضيفيه من الإعلام الغربي بما يعرضه من حقائق وأرقام في هدوء لافت، وبلغة إنجليزية سليمة، حدّ أن المذيعة البريطانية جوليا هارتلي بروير - التي أشرنا إليها بـ «الوقحة» قبل قليل - خرجت عن طورها أثناء حوارها معه عن حادثة اغتيال الشهيد صالح العاروري - نائب رئيس المكتب السياسي لحماس في بيروت - فصرخت في وجهه، وسخرت منه، ولم تعطه الفرصة للإجابة عن أسئلتها المنحازة لإسرائيل. وقد كان غضبها لأن البرغوثي لم يكن لقمة سائغة في يدها، كما هم معظم الضيوف المعبرين عن وجهة النظر الفلسطينية الذين يُؤتى بهم لهذه القنوات الغربية المنحازة لمجرد ذر الرماد في العيون والزعم أنها تعطي فرصة للرأي الفلسطيني. فقد كان كثير من هؤلاء يتلعثم لمجرد مجابهته بالسؤال المكرور في بداية أي حوار: «هل تدين ما فعلته حماس في السابع من أكتوبر؟» أما البرغوثي فردّ على بروير بسؤال مباغت: «وهل تدينين طرد 70% من الفلسطينيين وتدمير 500 قرية فلسطينية؟». وطبعًا لم تستطع الإجابة.

ذات يوم وصف الناشط الحقوقي الأمريكي مالكوم أكس وسائل الإعلام بأنها الكيان الأقوى على وجه الأرض، لأن لديها القدرة على جعل الأبرياء مذنبين، والمذنبين أبرياء. ولأن هذا بالفعل ما نراه في الإعلام الغربي منذ سنين طويلة فيما يخصّ قضية فلسطين العادلة، فإن ظهور أصوات نزيهة وبليغة ومعبّرة عن الحق الفلسطيني، وقادرة على اختراق هذا الجدار الصلد، هو أمر بالغ الأهمية. ومصطفى البرغوثي بلا شك هو أحد هذه الأصوات النادرة.