أغنية للطريق

31 يوليو 2023
31 يوليو 2023

قبل سنوات، في عام 2014 على الأرجح، وقبل أن تكون هناك منصة (عين) الافتراضية التابعة لوزارة الإعلام التي أصبحت مكتبة مهمَّة للكتاب الصوتي العماني، ابتدعت اللجنة الوطنية للشباب فكرة تسجيل نصوص أدبية لأدباء عمانيين في أقراص ممغنطة، وأطلقت على السلسلة التي دشنتها في دورة معرض مسقط الدولي للكتاب لذلك العام اسم «وردة للطريق»، وهو عنوان آسر من تسمية الشاعر صالح العامري، الذي أشرف على تسجيل تلك السلسلة وشارك بنصوص له سجّلها بصوته، إلى جانب آخرين ممن كتبوا أو اختاروا نصوصا وقرأوها بأصواتهم، فكانت ورودا للطريق يستمع إليها من حظي بنسخِهِ من تلك الأقراص. (هل بوسعنا اليوم اقتراح إتاحة تلك السلسلة للجميع بضمّها إلى مواد منصة عين؟ أرجو أن يكون ذلك ممكنا). تذكرت ذلك المشروع وأنا أضع عنوان هذا المقال «أغنية للطريق». وهل الأغنية إلا وردة من ورود الطريق يأنس بها السائق والراكب في المشاوير الطويلة في السيارة؟

في السادس من يوليو 2023م، نشر علاء الدين الدغيشي مقالا في جريدة عمان بعنوان «400 ساعة»، وهو مجموع عدد الساعات التي نبهه عدّاد سيارته إلى أنه قضاها في مشاويره المتعددة بموازاة عدد الكيلومترات التي قطعها، ولكنه صُعق بعدد الساعات أكثر مما فعل عدد الكيلومترات المقطوعة، وراح في مقاله ذاك يتحدث عن الاستثمار الأمثل للوقت المهدر من أعمارنا في المسافات والطرقات، مقترحا مواد يستمع إليها المرء بينما يقود سيارته وحيدا. يقول: إن «من لا يحب الاستماع إلى كتاب مقروء وهو يقود سيارته، يستطيع تعلم لغة جديدة عبر مهارة الاستماع وحدها. ومن يكمل دراسته الأكاديمية، يستطيع الاستماع إلى محاضراته والشروح المصاحبة لها وهو في الطريق. ومن يحب الشعر يمكنه الاستماع إليه صوتيا بإلقاء عدد من المجيدين ذوي اللغة الفصيحة السليمة». وأضيف إلى ما أورده الدغيشي ما كنت بدأتُ به: «الكتاب الصوتي العماني» في مكتبة منصة عين التي ما فتئت تضيف عددا جديدا من الإصدارات العمانية المتنوعة كل مرة؛ فعلى مدى أيام استمتعتُ وحيدة خلال المشوار اليومي من البيت إلى العمل بالإنصات إلى كتاب «مذكرات أميرة عربية» بصوت الإعلامية رشا البلوشي، مثلما استمتعتُ أثناء حصص المشي اليومي في حي التضامن بالمعبيلة بأصوات القارئين المتعددين لرواية «تبكي الأرض يضحك زحل» للروائي الراحل عبدالعزيز الفارسي، على غرار الرواية التي كانت أول رواية عمانية تعتمد تقنية تعددّ الأصوات. وأنصتُّ إلى فاطمة إحسان وهي تقرأ مجموعة بشرى خلفان القصصية «حبيب رمان»، وإلى عايدة الزدجالي وهي تقرأ كتاب «شبابيك زيانة» لبشاير حبراس، ورواية «الصبي والبحر» لأزهار أحمد، وغيرها من الكتب.

أتأمل صوت الراوي أو السارد المفترضَين في قصة أو رواية عبر كتاب مسموع، وقد تحوّل إلى صوت محسوس ينفخ في اللغة المكتوبة روحا ستلازمه عند كل قراءة جديدة لاحقة. وما أظنه هو أن القارئ الذي تعوّد عقد صلات بين الكاتب وشخصياته، أو بين الكاتب وبطل روايته بنحو خاص، سيجد أن الكتاب الصوتي قد خلق عازلا ذهنيا بين المؤلف وبطله أو باقي شخصياته، فليس خالد بخيت بطل رواية «تبكي الأرض يضحك زحل» هو نفسه خالد بخيت بعد الاستماع إليه بصوت الإعلامي والمذيع أحمد الكلباني. ثمة من لَبَس الشخصية إذن في الكتاب المسموع بالنيابة عن الكاتب، وأعطاها من روحه وانفعالاته وسكتاته وصرخاته وصوته إذ يغنّي أغاني الشاعر الزحلي، فأوجد المسافة التي تبعد وهم التطابق بين الشخصية وكاتبها. لا يشبه هذا ما يفعله الممثل عندما يتقمص إحدى شخصيات الرواية في فيلم أو مسلسل درامي إذاعي أو تلفزيوني؛ لأن الكتاب الصوتي يأتيك كاملا كما هو، بلا معالجات درامية قد تُذهب بجزء من الرواية كبيرا أو يسيرا. كما أن من سمع كتاب «مذكرات أميرة عربية»، لن يقرأه ورقيا بعد ذلك من دون أن يستعيد صوت رشا البلوشي وأداءها المميز مع كل سطر يقرأه بانفعالاتها وتنويعاتها الصوتية وهي تسرد الأحداث والمواقف.

ما سبق يفضي إلى ملاحظة جديرة بالتأمل، وهي أن الكتب السمعية التي كتبتها نساء قرأتها غالبا نساء. قد يكون هذا بدهيا في النصوص السردية التي يتساوى فيها صوت السارد مع صوت المؤلف كما في كتب السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات وأدب الرحلات، أو النصوص التي تكون شخصياتها نساء، ولكن ماذا عن النصوص السردية المحايدة المكتوبة بأقلام النساء، أو نصوص كتبتها نساء ولكن أبطالها رجال؟ المسافة اللازمة لهدم وهم التطابق بين المؤلف والشخصية ضرورية في الأعمال التخييلية، وقد بدا أن الكتاب الصوتي يسهم في خلقها إلى حد بعيد.

***

يتعذر الاستمتاع بعبير ورود الطريق الآنفة عندما لا يكون المرء وحيدا، ولكن ورودا أخرى لا تقل أهمية تحلو بمشاركتها مع الآخرين، كأغنية تحيي ذكرى قديمة أو تستعيد زمنا مضى، تتشاركها مع رفيق سفر لا تسمع معه ما يعبّر عن ذائقتك وحسب، ولكن ما تستجيب له ذائقته أيضا. أليس اختيار أغنية لرفيق سفر شكلا من أشكال الضيافة؟ فقد دأبتُ على اختيار قائمة من الأغنيات للمشاوير الطويلة التي قد تأخذنا بعيدا خارج مسقط عندما يكون برفقتي ضيف أتى من خارج عُمان، نسمعها بين فينة وأخرى تتخلل أحاديثنا الطويلة، كاستراحة فنية قبل أن نستأنف الحديث الذي سينطلق غالبا من الأغنية نفسها، فالاستماع إلى أغنية جميلة لا ينفصل عن برنامج السياحة المقترن برؤية أماكن جديدة، فأخمّن أن الضيف لا يحتاج لسماع ما يجدر به سماعه وحيدا، أو ما تعوّد على سماعه من أغنيات، بل سيكون من الأجدى أن يستمع إلى شيء يربط ذاكرته بالمكان الذي يزوره، فأسارع إلى ربط هاتفي ببلوتوث السيارة قبل أن يصدح اليوتيوب باختياراتي الغنائية. ففي إحدى الجولات مع الناشرة المصرية الدكتورة فاطمة البودي -خلال أيام معرض مسقط الدولي للكتاب في فبراير 2023- اخترتُ لها أغنية «راعية الليسو» التي أُطلقت قبل أشهر فقط من ذلك اليوم، في نوفمبر 2022، وأدّتها بروحها المرحة الفنانة الكويتية آلاء الهندي، فحصدت أكثر من مليون مشاهدة في غضون أيام فقط. ورحت أحكي لفاطمة البودي دلالات الكلمات السواحيلية وقد وظّفها الشاعر حميد البلوشي في هذه الأغنية مجسدا التنوع اللهجي والثقافي الذي تحفل به عمان، وعن الكانغا الأفريقي وامتداده إلى الجزيرة العربية، وفن المكوارة الذي أحيته الأغنية وأعادته إلى الواجهة، فضلا عن رموز وكلمات ما زالت تستخدمها شريحة واسعة من العمانيين في حياتهم اليومية. أحبت فاطمة البودي هذه الأغنية ذات الإيقاع السريع مُعلِّقة «لذيذة جدا».

لم تتوقع البودي أن الزحمة في شوارع مسقط قد تتسبب في توقف الحركة تماما في ساعات الذروة، فهل أتركها تستسلم لشعور الزحمة؟ قلت لها: نسمع شيئا آخر (كما يقول سليمان المعمري في برنامجه الإذاعي الذي يحمل هذا العنوان اقتباسا من عبارة أدبية). فأسمعتها واحدة من أكثر أغاني صلاح الزدجالي تردادا في رأسي كلما عنّ لي أن أدندن بشيء، وهي أغنيته الهادئة «أعيشك». تعلّق البودي بين كوبليه وآخر: «الواد ده لطيف جدا»، قبل أن تتأثر بأغنيته الأخرى «حكاية ناي» حد التعاطف مع الشاب المحروم من حلمه بالزواج من حبيبته بسبب قلة ذات اليد.

لم أستغرب أنها لم تسمع شيئا من هذه الأغنيات من قبل، ولكنها في ذلك اليوم على الأقل عرفت حميد البلوشي واحدا من أبرز كتّاب الأغنية العمانيين في وقتنا الحالي، وعرفت صلاح الزدجالي الذي شكّل مع حميد لفترة من الوقت ثنائيا استطاع تسويق الأغنية العمانية خارج محيطها، وهو -أي صلاح- الذي ظننتُ لأول وهلة عندما أطلق أغنيته «عسى ما يوحشك غالي» في عام 2011م أني أستمع لعبدالمجيد عبدالله، قبل أن يجمعهما بعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ الملحن السيد خالد بن حمد معا (عبدالمجيد وصلاح) في أغنية واحدة وطنية عمانية سعودية في 2021م.

رحلة أخرى، بينما كنا في طريق عودتنا من قرية العين في إمطي بولاية إزكي، التي تبعد عن مسقط قرابة ساعة ونصف، حضّرت للكاتب البحريني حسن مدن باقة ورود للطريق، بدأتها بأغنية «شويّخ من أرض مكناس» بصوت البحريني أحمد الجميري أولا، وقد اتفقنا كلانا أننا نحب هذه الأغنية بأصوات كلّ من غنّوها، فرُحنا نعيدها بصوت خالد الشيخ مرة، وصوت رجاء محمد مرة ثالثة. ونؤخذ في كل مرة بالكلمات التي ارتحلت من مكناس المغربية على لسان أحد متصوفتها، ليغنيها الخليجيون وكأنما كُتبت بلهجتهم. تتبع هذا المزاج الصوفي في العادة واحدة من أجمل الأغنيات العمانية التي سبقت زمانها كلمة ولحنا وأداء، فتشوّق حسن مدن وأنا أقدّم له على طريقة البرامج الغنائية أغنية «لك يوم» لسالم علي سعيد؛ الأغنية التي جمعت ثلاثيا شكّل بصمة في صناعة الأغنية العمانية لفترة من الزمن: الشاعر الراحل عوض بن بخيت، والملحن السيد خالد بن حمد، وسفير الأغنية العمانية سالم علي سعيد. صَمَت حسن مدن تماما بينما يستمع إلى رائعة سالم علي سعيد هذه، ولكنه كان يكرر بين حين آخر كلمات بعض كوبليهاتها. مؤخرا علمت أن الشاعر عوض بن بخيت ترك ديوانا شعريا ضم 100 قصيدة، غُنيت منها 51 قصيدة. أما سالم علي سعيد فهو خيار ثابت في كل الرحلات، ولا أتردد في اقتراحه لأصدقائي العرب عندما يسألون أن أختار لهم أغنية عمانية، فتخطر على البال في الحال: «مسافر»، و«أنا باعاتبك يا زين مرة»، و«عش سعيد»، إلى آخر تلك القائمة من الأغنيات التي يزداد وهجها مع الوقت، من دون أن نجزم أنها كذلك في منصاتنا السمعية. أفكر أحيانا ماذا لو كانت لدينا إذاعة خاصة بالأغنيات العمانية (على غرار إذاعة صوت عمان1 وصوت عمان2 حيث تبث الأولى أغنيات وطنية فقط، وتبث الثانية منوعات عربية)؟

أرتب في كل مرة باقة ورود للطريق تضم أغاني عمانية أكثر، وعربية وأجنبية أقل. أحرص أن تكون فيها «يا مركب الهند» لعبدالله الحتروشي، و«إلى متى بوصلنا تبخل» و«عندي رجاء» و«يا حبيبي ما الهوى» لأحمد الحارثي، و«هذا عرينك»، و«يا مغشّية» لأيمن الناصر، و«ماذا يضيرك» و«أرجوك راضيني» لمحمد المخيني. أحب أن يعود الضيف بصدى أغنية من هذا المكان، مثلما سيعود بكثير من الحكايات وروائح البخور واللبان. ولكن الباقة تتغير تماما عندما أكون بصحبة هدى حمد! لا شيء يشبهنا بعد ساعات من الحكايات سوى أغنيات مسلسلات الكرتون ننشدها معا في الرحلات الطويلة، ترافقنا فيها بيرين، وجودي أبوت، وبوليانا، وفتاة المراعي، ونساء صغيرات، والنمر المقنع، وسلاحف النينجا، ومدينة النخيل. نستعيد ذكريات طفولة عذبة نرفض أن تفرّ من أرواحنا، فنستعيدها غناءً عاليًا مع رشا رزق، وعايدة أبو نوار، وآخرين.

أغنية الطريق قد لا تكون سوى أحاديث ذاتك وهدير أفكارك وانثيالات خواطرك في تداعيها الحر، كسفر مواز تقطعه في مسافات الصمت. نحن المحكومين بالمسافات والزحام نقاوم الصمت داخل علبة السيارة بحيوات شتى نستدعيها غالبا، ونفترضها أحيانا، ولكننا نستسلم لها دائما، ولو نطقت العلبة لأفشت أسرار الدروب الطويلة، والأصوات التي نرتق بها الفواصل في فجوات العمر.

د.منى حبراس كاتبة وأديبة عمانية