«الرسالة القشيرية» في السير على الطريق!

25 مايو 2024
25 مايو 2024

إيهاب الملاح

(1)

يمثل تراث المتصوفة المسلمين (عربًا كانوا أم غير عرب) تراثًا مهمًّا وملهمًا (وربما كان من أثمن وأقيم ما قدمه المسلمون عموما إلى الحضارة الإنسانية، والتراث الإنساني)، يزخر بالكنوز والجواهر والنصوص العارمة بأفكارها وتأملاتها ومجازيتها ورمزيتها، سواء على مستوى موضوعاته وقضاياه التي تعرض لها أو بلغته الإشارية الرمزية النافذة، أو بحكايات الأولياء وكرامات أهل المحبة التي تعرض لجانب مهم وفريد من التجربة الروحية في الإسلام.

خصوصًا وأن جوهر التجربة الصوفية يُرسخ ويُؤكد أن الطريق إلى الحقيقة ومعرفة الله تتعدَّد بتعدُّد السالكين، هكذا يقول الصوفية؛ ويضيف ابن عربي: إنها «تتشكل وتتلوَّن مثل الماء والإناء».

هؤلاء المتصوفة (منذ ظهور ابن ذي النون المصري في القرن الثاني للهجرة، مرورًا بالجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي، وصولًا إلى ابن عربي، وابن سبعين، ثم أصحاب الطرق المشهورين، وغيرهم) صاروا أعلاما على ما يسمى بالعشق الإلهي والفناء في المحبة، هم العاشقون العارفون؛ هم أهل المحبة وأصحاب الحظوة، المخصوصون بالكشف، المختصون بالمكاشفة، قالوا: «إن المحبة هتك الأستار وكشف الأسرار»، وبعضهم قال: «حقيقة المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء»، وقال آخر: «المحبة أن تغار على المحبوب أن يحبه مثلك»..

وما أجمل ما يقولون ويكتبون وما أصفى ما يعرضون!

(2)

تكاد تقوم تجربة المتصوفة في مجملها على نشاط ملكة «الخيال»؛ ويكادون ينفردون بنظريات وتصورات مخصوصة وخطيرة عن اللغة التي تجسد تجاربهم (وقد أشار المرحوم الناقد الكبير شكري عياد في غير مناسبة إلى رغبته في أن تتهيأ الظروف له أو لغيره كي يبحث في موضوع نظرية الفن عند المتصوفة؛ وهو من الموضوعات التي يتكشف يومًا بعد يوم مدى روعة وقيمة المنجز الذي خلفه المتصوفة في هذا الإطار)، فالخيال المبدع لدى المتصوفة وسيلة لإحداث التغيير الروحي، والحب شرط له.

الحب هو جوهر القيمة الروحية، وتجب العناية بالتمييز بينه وبين طلب شيء، أو «إرادة» شيء، كما تجب العناية بالتمييز بينه وبين «التوهم» أو أحلام اليقظة، وأساس التمييز أن هذه جميعًا -الطلب والإرادة والتوهّم- أفعال واحدة أو ناظرة إلى الذات، ويمكن أن يقوم بها الإنسان بنفسه، في حين أن «الخيال» المبدع مثل المغناطيسية يحتاج إلى قطبين حتى يوجد قطب موجب وقطب سالب، فهو ليس فعلًا واحدًا بل متبادلًا: إعطاء، وتلقٍ، وهو يحتاج إلى «توتر» يصل بين المعطي والمتلقي، والفن أحد أشكال ذلك التوتر.

ستكون لحظة فارقة ورائعة عندما تقارب بعضًا من نصوص هؤلاء المتصوفة وسردياتهم البديعة التي لم يكشف بعد عن كل مخطوطاتها ونصوصها فضلا عما تعرض للحرق والمصادرة في فترات الانغلاق والتعصب والتطرف (رغم كثرة الجهود التي بُذلت في القرنين الأخيرين من تحقيق كتبهم، ونشرها نشرًا دقيقًا وتوفر باحثين وأساتذة أجلاء لدراسة هذه المتون وكتابة دراسات وافية عن أصحابها، إلا أن الكثير من مخطوطات هؤلاء لم يصل إلينا ومنها ما لم يتيسر إخراجه ونشره بعد).. لكن ما وصلنا ليس بالقليل، وبعضه يستحق أن تفرد له مساحة خاصة، قراءة وتأملًا وتحليلًا..

(3)

ومنذ أصدرت مؤسسة دار المعارف العريقة، الطبعة الكاملة والمحققة من النص الصوفي الفريد «الرسالة القشيرية في علم التصوف» في مجلدين، من تأليف الإمام العلامة أبي القاسم عبد الكريم القشيري، وبتحقيق المرحوم الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر والأستاذ محمود بن الشريف، وهو يحتل مكانة كبيرة جدًّا في المكتبة العربية والإسلامية، باعتباره أحد أهم وأبرز مصادر التصوف المعتبرة.

لكن بالتأكيد، ومع تطور الدراسات النصية والجمالية، واكتشافات السرديات الحديثة، أصبحت هناك قيمة أخرى مضافة لهذا الأثر الفريد، فضلًا على مكانته ووضعيته ضمن مصادر التصوف الإسلامي، ذلك أن الكتاب يمثل مصدرًا خصبًا لسردية عربية إسلامية تتميز بجماليتها النصية، ومجازيتها المكثفة، وإشاريتها الرمزية ضمن ثروة نصوصنا التي وصلتنا في مضمار التصوف، والمناجاة الذاتية، والعشق الإلهي.

وبسبب الإقبال الشديد والمتزايد على هذا النص الفريد (ثم قيمة التحقيق المضافة بفضل الاسمين الجليلين اللذين تصديا لإخراجه)، أصبح كتاب «الرسالة القشيرية» من بين الأكثر طباعة ونشرا في سلسلة «ذخائر العرب» العريقة؛ تلك السلسلة التي تمثل تاريخا مشرفا وذهبيا للثقافة العربية وللتراث العربي في القرن العشرين.

وبالنظر للأهمية الكبيرة التي احتلتها هذه الرسالة فقد توفر على تحقيقها عَلمَان كبيران من علماء التصوف والفكر الإسلامي، هما المرحوم الشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر وأحد كبار علماء التصوف ومؤلفيها في القرن العشرين، والأستاذ محمود بن الشريف الذي ساهم في تحقيق الكتاب، وإخراجه على أكمل وجه، وقد صار هذا النص الفريد بالتحقيق الذي قدَّماه «هو النسخة المعتمدة» في أوساط الباحثين والدارسين والمتخصصين فضلًا على عموم القراء من المهتمين بالتصوف عمومًا أو بنصوصه من منظور جمالي.

وبالتالي فقد أصبح هذا الكتاب على رأس الكتب المطلوب طباعتها وإعادة نشرها في إطار مشروع طموح لإعادة نشر ما نفد من أعداد وكتب السلسلة التي تحظى باهتمام ومتابعة كل عشاق التراث العربي والإسلامي، واستجابة للطلب المتزايد على كتبها السابقة.

(4)

«الرسالة القشيرية» نص تأسيسي بمعيار أنه يشكل حجر أساس في التعرف على مذهب «الصوفية» المعتدلة (على خلاف بين الباحثين والدارسين والمتخصصين في تعيين وتحديد معنى «معتدلة» هذه! ومن أي زاوية وبأي معيار!!) وشرح ألفاظها ومصطلحاتها فيما بينهم، إضافة إلى التعرض لمجموعة وافرة من «التعابير» و«الكنايات» و«الرموز» التي تدور على ألسنة الصوفية والمتصلين بهم..

كما شرحت أيضًا ما يعرف بـالأحوال والمقامات والتجليات التي يصعب أحيانًا على القارئ العادي أن يفهمها، ولكن أسلوب القشيري وسلاسة لغته قرّبت هذه المفاهيم «الصعبة» إلى العقول والقلوب معًا.

وفضلًا على ما سبق، فقد اشتملت «الرسالة» على كم وافر -ربما لم يتسن لمصدر آخر إيراده- لتراجم كبار المتصوفين، كما نقلت الكثير من أقوالهم، وبينت أحوالهم.. إلخ.

وقد قسمت الرسالة إلى قسمين: الأول؛ في «سير أعلام التصوف»، وبعض أقوالهم وأفعالهم، كنماذج للمريد يسير على هديها. أما القسم الثاني؛ فقد عبّر عنه الإمام القشيري بقوله: «ذكرت فيه بعض سير شيوخ هذه الطريقة في آدابهم وأخلاقهم ومعاملاته وعقائدهم بقلوبهم، وما أشاروا إليه من مواجيدهم، وكيفية ترقيهم من بدايتهم إلى نهايتهم، لتكون لمريدي هذه الطريقة قوّة»،

وقد امتازت هذه الرسالة عن كثير من كتب التصوف، في كونها تقدم تلخيصًا وافيا ودقيقًا لتطور الصوفية منذ فجرها الأول، وحتى زمن القشيري. وتم هذا عبر نقل أقوال رموز وأقطاب التصوف وسلوكياتهم، وكيف يمكن أن تشكل نموذجًا يُحتذى به في المكابدة الروحية، والترقي الروحاني في درجات ومراتب المحبة الإلهية.

وقد عرض القشيري قائمة بثلاثة وثمانين نموذجًا من نماذج السلوك البشري التي تكاد تفوق في أغلبها طرق الإدراك الحسي الطبيعي. كما أفرد القشيري فصولًا أخرى تتضمن مسائل تتصل بمسألة التصوف كإثبات كرامات الأولياء، ومعنى الوليّ، وما إذا كان معصومًا من عدمه، وما ينبغي للمريد في التعامل مع مشايخه، ومع المسلمين والفقراء، وغير ذلك من الآداب والخصال التي يُطلب من المريد التحلي بها بغية الوصول إلى أعلى الدرجات في سلم السالكين.

(5)

ولقد أجمع الباحثون والمختصون في تاريخ التصوف الإسلامي، أنه لا يمكن أن يقوم أي بحث أصيل في خدمة التصوف الإسلامي، الذي يتفق مع أصول الإسلام وشرائعه، لا يستطيع أن ينهض دون رجوع الباحث أو الدارس إلى مؤلفات الإمام القشيري بعامة، و«الرسالة القشيرية» بخاصة، ولهذا اعتبرت (أي الرسالة القشيرية) «من أعظم وأخلد ما ترك المتصوفة الكبار من آثار»، و«أفضل وثيقة علمية، وتاريخية في موضوعها لا يدانيها في مستواها كتاب آخر»..