توغل إسرائيل في سوريا قد يقودها إلى الهاوية
24 ديسمبر 2025
ترجمة: بدر بن خميس الظفري
24 ديسمبر 2025
«تبدو القوات الإسرائيلية قد بلغت حد الإنهاك المفرط، لا سيما إذا كانت كل هذه الجبهات ستظل مشتعلة بشكل دائم،.
مرّ عام على سقوط الرئيس السوري بشار الأسد.
كان كثير من اللاعبين السياسيين الأجانب في الشأن السوري يحضرون «منتدى الدوحة» حين راحت حلب وحمص وحماة ودمشق تتهاوى تباعًا، مثل بيت من ورق، أمام تقدّم قوات المتمردين.
وقد كنت أراقب سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، وهو يتابع الأخبار على شاشة التلفاز. ذلك الرجل الذي طالما اشتهر بجمود ملامحه وسيطرته على انفعالاته، لم ينجح هذه المرة في إخفاء صدمته. بدا وجهه وقد انكسر فجأة، كأن وقع الخبر سقط عليه دفعة واحدة. وعندما اعتلى المنصة بوصفه أحد المتحدثين الرئيسيين، بدا لافروف متبرّمًا من الأسئلة المتصلة بما يجري، سريع الضيق بها، وأصرّ على تحويل الحديث إلى ملف أوكرانيا بدلًا من الخوض في التطورات الأخرى.
وما إن خلع الرئيس السوري أحمد الشرع بزّته العسكرية، حتى أصبح الرئيس الذي يرفع شعار السلام. وإدراكًا منه أنه صاغ اسمه الحركي، أبو محمد الجولاني، على وقع تاريخ والده بوصفه لاجئًا من الجولان المحتلّ من قبل إسرائيل، وإدراكًا منه أيضًا أنه قال يومًا، حين كان مقاتلًا: «لن نصل إلى دمشق فقط؛ فالقدس تنتظرنا»، حرص الشرع على أن يبعث برسائل واضحة مفادها أن إدارته لن تشكّل تهديدًا لإسرائيل.
بل إن محافظ دمشق الجديد ماهر مروان ذهب أبعد من ذلك في مقابلة مع الإذاعة الوطنية الأميركية (إن. بي. آر)، حين قال: «لا نخشى إسرائيل، ومشكلتنا ليست مع إسرائيل. ولا نريد التدخل في أي شيء يهدد أمن إسرائيل أو أمن أي دولة أخرى... نحن نريد السلام، ولا يمكن أن نكون خصمًا لإسرائيل ولا خصمًا لأحد».
قيلت هذه التصريحات في ذروة ما يجري في غزة من إبادة جماعية. وقد صدمت فلسطينيين كانوا يتوقعون أن تقف سوريا إلى جانبهم. غير أن النظام الجديد كان يعكس، في جانب منه، إرهاق شعب أنهكته أطول حرب أهلية وأكثرها دموية في المنطقة خلال أربعة عشر عامًا.
بعد عام واحد تبدّل مزاج السوريين على نحو لافت، ففي عرض عسكري حضره الشرع مؤخرًا، هتف الجنود: «غزة، غزة، غزة، شعارنا ليلًا ونهارًا، قصفًا وخرابًا. قادمون إليكِ يا عدونا، قادمون، قادمون إليكِ، ولو كنتِ جبلًا من نار، سأجعل من دمي ذخيرة، ومن دمكِ أنهارًا». وبعد ذلك بقليل، ألمح وزير في الحكومة الإسرائيلية إلى احتمال اندلاع حرب مع سوريا.
وكانت أيام قليلة قد سبقت ذلك على حادثة كادت تتحول إلى كارثة عسكرية. ففي أواخر نوفمبر، شنّت طائرات مروحية ومدفعية إسرائيلية هجومًا على بلدة بيت جنّ، الواقعة على بعد خمسين كيلومترًا جنوب غرب دمشق، بينما اقتحم جنود منازل السكان واعتقلوا ثلاثة من أهل القرية، وفق ما ذكرت وسائل إعلام محلية.
ثم اندلع اشتباك مسلح حين خرجت القرية بأكملها لمحاولة صدّ الجنود المقتحمين. واضطرت المقاتلات الجوية إلى التدخل بعدما وجد الإسرائيليون أنفسهم محاصرين. وعند انسحابهم، كان 13 سوريًا قد قُتلوا وأصيب 25 آخرون، بينما أصيب ستة جنود إسرائيليين، ثلاثة منهم بإصابات خطيرة.
ما الذي جرى خلال عام واحد حتى تغيّر المزاج في سوريا؟
كان أمام إسرائيل خيار حين وصل الشرع إلى السلطة، فكان بإمكانها أن تتعامل بإيجابية مع التغيير السياسي، وأن تكسب حليفًا جديدًا في سوريا، ولا سيما لو عرضت مساعدة الشرع في واشنطن. لكن إسرائيل اختارت بدلًا من ذلك أن تطلق حملة قصف كثيفة، دمّرت خلال أيام سلاح الجو السوري، وأغرقت أسطوله، وسوّت رادارات دفاعه الجوي بالأرض. ثم بدأت القوات الإسرائيلية توغلًا بريًا في جنوب سوريا؛ وكان هدفها الأول السيطرة على جبل الشيخ، لكنها وسّعت لاحقًا نطاق السيطرة لتحتل مساحة تزيد على مساحة قطاع غزة.
ودافع وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس عن الغزو بوصفه «ضروريًا لحماية مجتمعات الجولان والجليل من التهديدات»، مستشهدًا بهجوم «حركة حماس» في 7 أكتوبر 2023 بوصفه الدافع الرئيس.
غير أن مثل هذه المبررات موجّهة للاستهلاك العام، فإسرائيل لطالما راودتها خطط لإضعاف سوريا على نحو دائم عبر تقسيمها إلى كانتونات شبه مستقلة، وتحويلها إلى نسخة من ليبيا.
وكما ذَكرتُ حين سقط الأسد في ديسمبر الماضي، فإن سرعة انهيار نظامه فاجأت الأصدقاء والخصوم على حد سواء. وقد أفسد ذلك على تل أبيب خططًا كانت تسعى من خلالها إلى بناء علاقات عسكرية واستراتيجية مع الأكراد في الشمال والدروز في الجنوب، بحيث يبقى الأسد ضعيفًا إلى الأبد.
وكان ذلك سيحقق أربع غايات: قطع خطوط إمداد السلاح الإيراني إلى «حزب الله»، وإضعاف سوريا بصورة دائمة، وإقصاء تركيا عن شمال سوريا، وإقامة ممر جوي فوق جنوب سوريا وشمال العراق، يسمح لإسرائيل بقصف إيران بانتظام.
وقد لمح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر إلى الخطة قبل شهر من انهيار الأسد، حين قال إن على إسرائيل أن تنفتح على الأكراد والدروز في سوريا ولبنان، مشيرًا إلى «اعتبارات سياسية وأمنية» ينبغي أخذها في الحسبان. وقال ساعر: «علينا أن ننظر إلى التطورات في هذا السياق، وأن نفهم أنه في منطقة سنظل فيها أقلية دائمًا، يمكن أن تكون لنا تحالفات طبيعية مع أقليات أخرى».
وكان اللعب بورقة الدروز غطاءً لإخفاء اندفاعة إسرائيل نحو الهيمنة الإقليمية. والدروز أنفسهم لم يطلبوا في البداية احتلالًا إسرائيليًا. فبعد أسابيع من وصول الشرع، قال الشيخ حكمت الهجري، أحد أبرز زعماء الدروز، في مقابلة مع موقع (ميدل إيست آي): «الغزو الإسرائيلي يقلقني وأنا أرفضه».
وأضاف الزعيم الديني الدرزي أن الاتصالات بين الدروز والسلطات الجديدة في دمشق كانت إيجابية، لكنه قال: «نحن ننتظر إنجازات من الحكومة الجديدة، لا مجرد كلمات طيبة».
غير أن الهجري غيّر موقفه هذا الصيف، بعد اشتباكات ذات طابع طائفي بين مقاتلين دروز وبدو، أسفرت عن مقتل أكثر من 500 شخص وأجبرت القوات الحكومية على الانسحاب. عندها تبنى الهجري أجندة انفصالية صريحة، فسمّى السويداء باسمها العبري «جبل باشان»، وناشد الأمم المتحدة والجامعة العربية التدخل.
إن احتلال إسرائيل لجنوب سوريا، وغاراتها الجوية المتواصلة ـ إذ قصفت سوريا أكثر من 600 مرة منذ وصول أحمد الشرع إلى السلطة ـ قوبل بحالة من الجمود التام من جانب دمشق وأنقرة معًا، علمًا بأن الاستخبارات العسكرية التركية كانت قد ساعدت قوات المعارضة على السيطرة على حلب.
وقد تمحور الاشتباك غير المباشر بين تركيا وإسرائيل حول الجهة التي ينبغي أن تهيمن على المجال الجوي السوري، في موقعين شمال دمشق: قاعدة التيفور الجوية ومطار تدمر العسكري، اللذين استهدفتهما إسرائيل مرارًا لمنع أنقرة من نصب منظومات دفاع جوي متقدمة هناك.
وفي أبريل، تحركت تركيا للاستيلاء على قاعدة التيفور في إطار اتفاق دفاعي مع دمشق. غير أن شيئًا لم يحدث، وقررت أنقرة بدلًا من ذلك الدخول في محادثات «تفادي التصعيد» مع تل أبيب، وهي محادثات اصطدمت بدورها بجدار مسدود. واتضح لاحقًا أن الاتفاق الدفاعي لم يكن سوى تفاهم محدود لتدريب القوات السورية.
ورغم تكثف زيارات مسؤولين أتراك كبار إلى العاصمة السورية، ودخول أنقرة في محادثات لنشر قوات تركية بدور استشاري، فإن رد الفعل التركي على التوغل العسكري الإسرائيلي غير المبرر في السويداء ظل أقوى في الخطاب منه في الفعل.
وكان مكتب الادعاء العام في إسطنبول قد أصدر 37 مذكرة توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين، بينهم بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يسرائيل كاتس، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وغيرهم، بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية في غزة. ومع ذلك، اتسم الموقف العسكري التركي بحذر بالغ، أتاح لإسرائيل ملء الفراغ وفرض شروطها بشأن شكل «السلام» لاحقًا.
وليست تركيا وحدها التي تتجنب مواجهة القوة بالقوة، رغم أنها الدولة التي أسقطت في السابق طائرة مقاتلة روسية فوق شمال سوريا.
أما أول رد فعل من جانب الرئيس أحمد الشرع تجاه التهديد الإسرائيلي فكان التوجه إلى السعودية. وقد رد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وفق ما نُقل عنه، بالقول إن المملكة خسرت سوريا مرة، ولن تخسرها مرة أخرى.
وقد قام الشرع بزيارة لاحقة إلى البيت الأبيض، مهدت لفك «عقوبات قيصر»، وهي حزمة العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام السوري، ما سمح بعودة تدفق رؤوس الأموال الأجنبية إلى دمشق.
كانت أفكار ترامب بشأن سوريا، وكذلك أفكار مبعوثه توم باراك، داعمة للشرع بوضوح. بل إن ترامب نفسه دفع بقوة نحو رفع عقوبات قيصر، معتبرًا أن الحكومة السورية تعمل بجد «لبناء دولة حقيقية ومزدهرة». غير أن هذا الدعم تعرض لاختبار بالغ القسوة في نهاية الأسبوع قبل الماضي، حين قُتل جنديان أمريكيان ومترجم مدني في هجوم لتنظيم (داعش) وسط سوريا.
ومع ذلك، لم ينقلب ترامب على الشرع، المقاتل السابق في تنظيم القاعدة، بل أقر بغضب القيادة السورية إزاء الهجوم، وبأن دمشق لا تسيطر على المنطقة التي وقع فيها. وتعهد ترامب برد قاسٍ، لكنه وجهه ضد تنظيم داعش، لا ضد دمشق، رغم أن ذلك كان خيارًا مطروحًا بسهولة.
وفي ظل غياب أي رد عسكري مضاد، بدأت إسرائيل تشعر بإحباط متزايد من ترامب على الصعيد الدبلوماسي.
وقد عبّر عن هذا التفكير العسكري الإسرائيلي بوضوح المقدم أميت ياغور، الذي كتب في صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أن توم باراك لا يمكن الوثوق به لأنه متأثر بشدة بالدولة التي يقيم فيها حاليًا، أي تركيا. وقال ياغور إن سوريا «ليست دولة تاريخية»، بل «تجمّع من طوائف جُمعت قسرًا لخدمة مصالح الانتداب الفرنسي».
وأضاف أن لإسرائيل أربع مصالح مركزية: ضمان توقف سوريا عن العمل بوصفها وكيلًا لتركيا، ومنع «الميليشيات الجهادية» التابعة للشرع من الوصول إلى الحدود الإسرائيلية، والحيلولة دون تكرار أي مجزرة بحق الطائفة الدرزية، ووقف تحول سوريا إلى «دولة إسلامية تحكمها الشريعة».
في المقابل، صعّد الشرع من نبرته الخطابية. ففي «منتدى الدوحة» هذا العام، قال إن إسرائيل تصدّر الأزمات إلى دول المنطقة لصرف الأنظار عن المجازر المروعة التي ترتكبها في غزة.
ومع ذلك، لا يزال الرئيس يعوّلُ على ترامب للتوسط في انسحاب إسرائيلي من الأراضي السورية. لكن نتنياهو نفسه تعهد بعدم الانسحاب من جنوب سوريا، وذهب أبعد من ذلك في خطاب ألقاه خلال «قمة ديلبوك» التي تنظمها صحيفة نيويورك تايمز، حيث وصف الحروب التي أطلقها بأنها «حروب لا تنتهي».
وقال نتنياهو: «ربحنا هذه الحرب، لكنها لا تنتهي. الأمر أشبه بالسرطان؛ إذا استأصلته قد يعود، لكن إن لم تستأصله تموت». وهو تشبيه يفضح الذهنية التي تحكم الصراع، رغم ما يحمله من قسوة أخلاقية شديدة، فكما سيقول أي طبيب، يعود السرطان لأن خلاياه تصبح أقوى وأكثر مقاومة للعلاج، فيما يضعف جسد المريض. وفي نهاية المطاف، قد يقتل العلاج نفسه المريض. وبهذا التشبيه، يعترف نتنياهو، من حيث لا يدري، بأن إسرائيل لن تنتصر في هذا الصراع؛ بل ستنتهي إلى السقوط فيه.
ففي اعتقاد القوات الإسرائيليّة أنها هزمت حزب الله وإيران، والآن حركة حماس؛ وفي انتهاكها العلني لاتفاقات وقف إطلاق النار التي وقّعتها؛ وفي فرضها السيطرة العسكرية على جنوب لبنان وجنوب سوريا، تبدو هذه القوات وقد بلغت حد الإنهاك والتوسع المفرط، لا سيما إذا كانت كل هذه الجبهات ستظل مشتعلة بشكل دائم.
وقد تثبت سوريا في نهاية المطاف أنها نقطة التحول في طموحات إسرائيل العسكرية المتصاعدة. وقد تتحقق نبوءة نتنياهو على نحو يجعلها حقيقة قائمة بذاتها - وعندها لن يكون زمام الأمور بيده.
