فرانز فانون.. دفاعًا عن العنف
20 سبتمبر 2025
20 سبتمبر 2025
يَفتتحُ فرانز فانون كتابه «معذبو الأرض» بمقولة شاخصة لا مهرب منها كلما عرضنا العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر للنقاش، فيقول: «سواءً قلنا تحريرًا وطنيًا، أم نهضة قومية، أم إرجاع الأمة للشعب، أم اتحادًا بين الشعوب، وكيفما كانت العناوين المستعملة والمصطلحات الجديدة؛ فإن محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائمًا». (دار الفارابي، الطبعة الأولى، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي). ثمة عنف حتميٌّ يرسم مسار العلاقة بين المستعمِرين والمستعمَرين حسب فانون؛ عنف مؤجل حتى يستوفي شروطه وصولًا إلى لحظة الانفجار التي يُحوِّل فيها المقهورون قهرهم اليومي تحت الاستعمار إلى طاقة ثورية.
في مقالة سِيَرية عنه على موقع الموسوعة الفلسفية (Internet Encyclopedia of Philosophy) تشير تريسي نيكولز الباحثة المهتمة بدراسات ما بعد الاستعمار إلى أن فرانز فانون المولود عام 1925 في مستعمرة مارتنييك الفرنسية كان قد عاش طفولته في تمزق نفسي حاد بين عالمين؛ بين عائلته ذات المكانة المرموقة في المجتمع الكاريبي ضمن «البرجوازية السوداء» الطبقة الميَّالة للتماهي والاندماج مع الثقافة الفرنسية البيضاء من جهة، وتطلعاته اللاحقة للتحرر الزنجي من النظرة العنصرية المعادية للسود من جهة أخرى، والتي سيعاني منها لاحقًا خلال دراسته للطب النفسي في جامعة ليون الفرنسية؛ الحالة التي تفسر شعوره بالاغتراب وقد عاد إلى منطقة البحر الكاريبي بعد أن أنهى دراسته.
نعلم من كُتَّاب سيرته أن بقاءه في الوطن لم يدم طويلًا؛ فقد اندفعت حياته القصيرة دفعة واحدة نحو الجزائر التي وصل إليها قبل فترة وجيزة من اندلاع ثورة التحرير ضد الاستعمار الفرنسي عام 1954؛ حيث سيعمل الطبيب الشاب في جناح للطب النفسي معالجًا للاضطرابات النفسية التي بدأت ملامحها تظهر على الضباط والجنود الفرنسيين بعد خروجهم من حفلات تعذيب الثوار الجزائريين أو من يشتبه بانتمائهم إلى جبهة التحرير الوطني.
في الوقت ذاته كان فانون على تماسٍّ حقيقي مع ضحايا ذلك التعذيب من الجزائريين، وهي التجربة التي أتاحت له مقابلة الوجهين ببعضهما: وجه المستعمِر في وجه المستعمَر مقابَلةً مقارنة تعكس حالة «التنافي المتبادل» بين وجهين لا يلتقيان؛ إذ لا مجال لتقاطع نظراتهما إلا ويَفنى أحدهما بقوة الآخر. إنه التنافي المتفاني الذي لا يحسمه سوى العنف في تجلياته القصوى؛ حيث وجود المستعمَر على أرضه مشروط بفناء مُستعمِره، أو العكس. وهو يؤكد أن «المستعمَر شخص مضطهَد يحلم دائمًا أن يصبح مضطهِدًا»!
بعد فترةٍ من اندلاع الثورة الجزائرية أقدم فانون على ما كان متوقعًا منه: قدَّم للإمبريالية الفرنسية استقالته احتجاجًا على وحشية قواتها التي أخذت في التصاعد مع ازدياد الزخم الثوري. ومن تونس انخرط بسرعة في قضية التحرر الجزائرية، فنشرَ مقالاته في صحيفة «المجاهد» التي أسهم في تحريرها، وتحدّث في أحيان كثيرة باسم الجبهة كناطق رسميّ.
لا وسط ولا وسيط في الحالة الاستعمارية وفقًا لفانون؛ فالفضاء المُستَعمرُ محكومٌ قطعًا بثنائية مُصمَّمَة بإتقان استعماري مدروس وصارم. إنه عالم مانويٌّ لا يسمح ولا يقبل بالاندماج بين شطريه المتضادين؛ عالم يحدد معالمه «الخط الفاصل» بين مدينة المستعمِر النظيفة المتخمة الكسولة، وريف السكان الأصليين الفقير الموصومِ «مكانًا سيئ السمعة يسكنه أناسٌ سيئو السمعة». غير أن ذلك الفصل التعسفيَّ اليوميَّ بين العالمين الداخل في تفاصيل تفاصيل حياة الشعب المُستعمَر هو المنجمُ الغني للأحقاد الدفينة التي تقضُّ مضاجع الغرباء المترفين في ليل العاصمة المُستعمَرة. والمُستعمَر كما يخبرنا فانون شخص «حسود» ينظر لأضواء المستعمرة الأجنبية بشهوة عنيفة مُنتقمة: «ما من مستعمَرٍ إلا ويحلم لمرةٍ في اليوم على الأقل أن يأخذ مكان المُستعمِر».
لطالما كانت تلك البسالة العاطفية التي تتمتع بها أفكاره سر انجذاب حركات المقاومة والنضالات العالمية لفانون الشخص والنص؛ جاذبية الفيلسوف الذي يُعرّضُ نفسه لآلام الشعوب المضطهدة، ويدمج جسده الذي يتعذَّب بسرطان الدم في سياق المقاومة ونضال المقهورين في كل مكان: «آه يا جسدي؛ اجعل مني دومًا إنسانًا لا يتوقف عن التساؤل»!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
