في إعادة الاعتبار للحقائق البسيطة

30 أغسطس 2025
30 أغسطس 2025

أي حديث عن إمكانية لجم الوحش الإسرائيلي بوسيلة أخرى غير القوة بات إلهاءً ومضيعةً للوقت، ولا جدوى منه سوى التمديد أطولَ لمشروعِ الإبادة الماشي بتصميم في قطاع غزة. ولكن كيف نقنعُ بهذه الحقيقة من يعتقد دائمًا بأن كلامًا كهذا فيه من «التبسيط» ما لا يرضي هوسه بـ«التعقيد»؟ كيف نقنعُ المثقف العربي المصاب بوسواس التعقيد القهري بأن التبسيط لا يجافي حقائق الأشياء والوقائع دومًا، ما دامت حقيقة العدو الصهيوني تضحك ملء شدقيها بتفاهة الشر؟ 

من يراقب أخبار سير مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة ليس من الصعب عليه أن يدرك بأن «تعقيد» الحقائق البسيطة هو جزء لا يتجزأ من السياسة الصهيونية في إدارة المفاوضات مع العرب تاريخيًا. تعمد إسرائيل إلى سياسة «تعقيد المشهد» دائمًا كاستراتيجية لخلط الأوراق وكسب المزيد من الوقت وتشتيت النقاش والتملص من السياق الأصلي. تخشى إسرائيل من بلاغة الحقائق البسيطة وتصيبها بعقدة وجودية. وهي ترى في الحقائق البسيطة عُدةً فكرية للتطرف الذي تمثله حركات المقاومة الراديكالية، سواءً كانت إسلامية أو يسارية. 

تتركنا سياسات التعقيد الإسرائيلية إذن في حاجة للتأكيد على البسيط من الكلام وتسمية الأشياء بأسمائها الأولى في كل مرة، حتى لو لم يرق الكلام البسيط لفقهاء السياسة والعلاقات الدولية من أصحابنا المولعين بالتعقيد. هناك بديهيات في صراعنا مع إسرائيل صرنا بحاجة إلى تعريفها في مطلع كل نقاش، صرنا بحاجة لشرحها من جديد، كمن يلقن الأبجدية على طريقة المعلمين في اليوم الأول من دروس محو الأمية. 

ربما يكون شعار «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» والذي أطلقه الزعيم العربي الراحل، جمال عبدالناصر، في أعقاب هزيمة 1967، نموذجًا لحقيقة بسيطة من حقائق الصراع مع العدو الإسرائيلي. شعار كهذا مثلًا يصبح مادة تهكم وسخرية يوصم أصحابه عادةً بالمراهقة اليسارية أو الطفولية الثورية. أما الدفاع عنه اليوم فيتطلب مشقةً تنظيرية في أوساط النخب العربية التي لا تكلُّ من مديح «جماليات الاستسلام». 

لا بأس أن نختلف كثيرًا في تعريف ماهية هذه القوة التي بإمكانها أن تردع العدو اليوم في ظل واقع عربي ودولي متواطئ أو مستسلم لما يجري. سنختلف معًا حول نوع القوة الكامنة فينا، شعوبًا وأنظمة. سنختلف على مصادر هذه القوة وآليات تفعيلها على أرض الواقع بما يخدم الهدف في حده الأدنى: وقف الإبادة المستمرة منذ سنتين في قطاع غزة فقط (أي ليس تحرير القُدس هذه المرة)! المهم في هذا السياق أن نستعيد الإيمان بشرط القوة في علاقتنا الصراعية مع دولة الاحتلال، وأن نستأنف التفكير بالقوةُ حلًا... أن نبدأ دائمًا من منطق القوة كلما ناقشنا سُبل إيقاف إسرائيل. 

ينبغي تذكير من ينسى دائمًا بحقيقة بسيطة أخرى، وهي أن الإبادة الجارية لم تعد تماديًا اعتباطيًا، ولا هي مجرد ردة فعلٍ انتقامية على ثورة المقاومة الفلسطينية صبيحة السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ كما رُوج لها خلال الأشهر الأولى؛ إذ لا يحتاج ذو النُهى إلى فقه في شؤون السياسة وإدارة العالم كي يبصر عري الحقيقة الوحشية التي تقول لنا كل يوم إن الإبادة مشروع مُصَمِّم على المواصلة، تثبتُ الوقائع الجارية منذ ذلك النهار أنها مبيتةُ النيّة، سواءً قرر الشهيد السنوار أم لم يقرر تفجير المشهد. 

من الواضح أن الهزيمة المديدة التي نعيشها قد فرضت منذ عقود خطابًا متوارثًا بصورة قابلة للتطوير، خطابًا عربيًا يقوم على إقصاء مبدأ القوة من الأساس في التعامل مع إسرائيل، ويقوده مثقفون وسياسيون، وينظّر له في الجامعات أكاديميون شغلهم الشاغل إبطال مبدأ القوة وجدواه في صراع مع إسرائيل، بالأرقام والمعادلات وبأقصى معايير «المنهجية» و«الدقة العلمية». 

أعتقد أن من أبرز الإنجازات الفكرية التي قدّمها «طوفان الأقصى» كان إبطال «عقلانية» هذا الخطاب الذي سرعان ما أفلس أمام هول الإبادة. لقد سددت إسرائيل ضربات قاصمة لـ«عقلاء» فكر الهزيمة الذين لم يقم خطابهم من الأساس إلا على توسُّم العقلانية في العدو. لقد أثبتت فظاعات الإبادة اليومية في غزة أن عقلنة الوحش الضاري فكرة تجنن المنطق نفسه وتدفع بالعقل إلى حواف الجنون. نحن أمام عدو لا يقبلُ حتى بالاستسلام، وهذه نادرة تاريخية بحد ذاتها... نحن أمام عدو لا يقبل بأقل من الإبادة الشاملة، وهذه حقيقة بسيطة أخرى! 

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني