لمَ لا نعود إلى الطين الذي منه نشأنا ؟
قبل مدة، كنتُ في نقاش حول مواضيع مختلفة مع صديق يعمل في حقل العمارة، ذهب الحوار بنا بعيدا، حتى وصلنا إلى العماني القديم الذي كان بالغ الذكاء ولم يسعَ لاستخدام الطين في العمارة القديمة عن جهالة، ولكنه كان إدراكًا عميقًا ودراية واسعة لظروف المناخ، ورؤية بعيدة المدى للبيئة المحلية.
ثم بادرني بسؤال أيقظ مارد الفضول في نفسي، فقال: لماذا لا نبني منازلنا اليوم من الطين؟ عندها بدأتُ بالبحث حول إمكانية استحداث العمارة العمانية واستبدال الأسمنت بالطين. بدا لي الأمر شاذا قليلا وغير مألوف، وكأني أعود بنا إلى عصر ما قبل الحداثة. ولكن الفكرة من حيث المبدأ، يمكن تطبيقها. فوقفتُ أمامها مطولا حتى استعدتُ واقع هيمنة الرأسمالية بعد الثورة النفطية وتحول المجتمع العماني من مجتمع زراعي، وبحري، وتجاري، ورعوي، وقروي إلى مجتمع مدني نفطي.
فأصبحت العمارة لدينا مستوردة فكريا من نماذج خارجية. تتمثل تصاميمها في صناديق أسمنتية مغلقة لا تنسجم وبيئتنا الخليجية. اليوم، ومع ارتفاع أسعار البناء لدينا، أرى أننا في حاجة إلى عمران مستدام، ينسجم والظروف البيئية، ويمدنا بصحة نفسية وجسدية أفضل. بعد البحث، وجدت أن الطين كمادة بناء، هي مادة صديقة للبيئة وللإنسان.
حيث تتفق وحاجاتنا كأفراد مستهلكين. فما المانع من استخدام مادة طبيعية، محلية وتتوافر بسخاء في سلطنة عمان، كما أنها قابلة لإعادة التدوير وتعد عازلا حراريا رائعا متفوقا بكفاءته على الكثير من مواد البناء الحديثة. فضلا عن أن هذه المادة تشكل لنا امتدادا للهوية العمانية ولذات الإنسان. أما الأسمنت، فهو منتج صناعي ثقيل، عالي الانبعاثات، مصمم لتغذية السوق الرأسمالي.
وقد أثبتت التجارب المعمارية الحديثة في دول عديدة كالهند والمغرب وأجزاء من أوروبا، أن استثمار الطين بتقنيات حديثة، يمكن أن يشكل بديلا فعالا للإسمنت دون الحاجة إلى التنازل عن الجودة. ولكن استحداث هذه المادة لتلائم متطلباتنا اليوم، يتطلب إرادة مؤسسية وفكرا معماريا عصريا لإثبات جدوى الفكرة عمليا. ونحتاج بذلك إلى معايير تنظيمية ولوائح للبناء الآمن تنطلق من الجهات المسؤولة، وإلى دعم الأبحاث لدراسة الطين كمادة معمارية من حيث القوة، والمقاومة، والثبات، والتكلفة.
إضافة إلى تقديم التسهيلات اللازمة للشركات العقارية التي تتبنى هذا النموذج من البناء. مادة الطين أقل كلفة في الاستخدام فضلا عن أنه يمكننا التغلب على المشكلات البسيطة التي قد تواجهنا في اعتماد الطين كمادة للبناء، وذلك بخلط الطين مع مثبتات طبيعية أو كيميائية مثل الجير أو الأسمنت بنسب صغيرة لزيادة المقاومة ضد الماء.
فلم لا نعمل على منهجية عمرانية مستدامة، باستحداث الطين وفق منظور علمي وبيئي حديث. قد تنطلق الفكرة من نمذجتها في أحد أحياء المدن الذكية مثل: مدينة السلطان هيثم، أو مدينة الثريا، أو حيّ من أحياء صروح.
خاصة وأنه انتماء يمتد في البيئة العمانية عميقًا. وبذلك نميّز هوية العمارة العمانية، ونهتم لنفسية الإنسان لأننا بحاجة إلى أن نعيش في بيوت تشبهنا ولا تثقل كواهلنا صحيا وماديا.
