قراءة انطباعية في «قنديل من الغار»
القصيدة الشعرية أشبه بالصورة الفوتوغرافية، فهي عالم حافل بالأسرار والكنوز والدلالات، من يجيد الإبحار فيها هو من يظفر بتلك الكنوز، الإبحار هنا يتطلب الكثير من الإلمام والدراية .. وفي النهاية يتم استخلاص عصارة الرحلات، والخبرات، وارتشاف الدروس، والعبرات.
«قنديل من الغار» هي القصيدة التي لمعت في سماء مسرح كتارا لشاعر الرسول في دورتها الخامسة للشاعرة الأولى الحائزة على هذا اللقب في تاريخ المسابقة الشاعرة بدرية بنت محمد البدري ..
هي القصيدة الشعرية الأولى التي وضعت بصمة انطباعية مدهشة عليّ كمتذوقة للشعر؛ جعلتني أدمنها من عنوانها، فحين استمعت لها وجدتني أبحر عائدة لأيام الطفولة .. تراءت إلي لحظة لم أعشها، لكني خيالا نسجتها، هي لحظة استقبال أهل المدينة للنبي القدوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام استحضرت المشهد ونزل على مسامعي صوت هتافهم بـ : «طلع البدر علينا» كرذاذ الماء البارد في نهار صيفي لافح/ ملتهب إنها حروف الأنشودة التي لقنت بها مسامع كل طفل وظل صداها يصدح في ذاكرته إلى أن يصبح كهلا، سيرة عطرة زرعت فينا حب نبي آدمي لم نره، لكنا لمسنا طيب أثره. وكم ارتشفنا الشفاء من شهد الإرث الذي خلده لنا.
إني لأقف وقفة إجلال أمام هذه الأبيات الشعرية الضليعة، التي استطاعت أن تختزل المشاعر المتدفقة في قصيدة واحدة حيث أضفت الشاعرة روحا لأبياتها، والذي منحني استشعار حضور النبي الأعظم وكأنه أمامي وهو حاضر بالفعل كلما حرصنا على الاحتذاء به والاقتداء بخلقة، فبالسير على نهجه، واتباع سنته؛ فإننا نحيي سيرته العطرة. وكان لهذا الحضور الفخم وقع على لجنة التحكيم فقد أطلق الشاعر السعودي فواز اللعبون على القصيدة لقب «القصيدة المجنحة»، ولن أخفي عليكم بأن القراءة في «قنديل من الغار» سلبتني وألهمتني في الآن ذاته... سلبتني خفة انطلاق ريشتي المعهودة بالتحليق على الورق فهي أشبه بريشة على جناح طائر القطرس، الذي اعتاد على التحليق المتواصل لسنة كاملة بلا كلل ولا ملل. وحينها اِنْهمر عليّ وابل من الأسئلة، اِنْبَثَقَت في ذهني وأَوْجَسَت في نفسي حيرة! ماذا أصابها؟ هل شلت حركتها؟ أم أن قدرتها خانتها؟ وما لبثت إلا قليلا قبل أن أعي، بأنه التروي والتأني، للتمعن في عظمة الذات المحمدية وأنه كان السبب الحرِيّ بسلبها انطلاقتها الحرة العفوية. فقد توقفت كثيرا، وتأخرت، وتحيرت، وترددت، وتساءلت، وانقطعت، وامتنعت، وأمسكت، وصامت عن التحليق على الورق طويلا، وتقوقعت داخل صدفتها مرارا وتكرارا. فكان ذاك هو السلب المُباح. وعن الإلهام أتحدث فإنه حدث ذات فجر ليس ببعيد، وقبيل انبلاج صبحه السعيد. تراءى لي البيت الشعري:
وتستكينُ إلى الأقلامِ قافيةٌ
لولا «مُحمَّدُ» ما أهدت لها الجُمَلا
لهج لساني مرددا إياه كتباشير الوليد، فتردد في ذهني صدى لولا «مُحمَّدُ» ما أهدت لها الجُمَلا.
القصيدة تعكس فكرة الشاعرة هنا؛ أنا الإنسان التائه في طريق الحياة الوعر القاسي المليء بالأشواك التي جرحتني وسببت لي الآلام. وروحي محملة بالذنوب التي تثقل كاهلي، وتعيق تقدمي، وتعرقل مسيري... رغم كل ما كان وكل ما سيكون استمرت روح ذاك الإنسان بالبحث عن خلاص ونور يهديها إلى الرشد. مُتأملة بعسى أن يهديني ربي. أما القنديل هنا فهي الذات النبوية، التي تمدها بالنور. النبي المصطفى كان لها ذلك «القنديل» الذي أنار لها ظلمة الحياة الشائكة، كذلك كانت كلمة «اقرأ» هي نور لبيان طريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
الشاعرة هُنا كأنما تصف صراع معركة بين ذاتها والآلام.. الأشواك.. الظلام.. العقبات والمنغصات التي تحاول جاهدة خلعها؛ لغرس وإيراق الهداية.. النرجس.. النور.. النعيم عوضا عنها. فسمحت «الشاعرة» للقارئ للدخول لمعركتها، وجعلته يعيش سيناريو الأحداث بأدق تفاصيلها. فالمعركة تحدث لإحلال السلام بعدها، ولإعادة المياه لمجاريها. هدفها الأسمى والأعلى هو اجتثاث الداء وإيراق الدواء. افتتحت الشاعرة قصيدتها بهطول شعري غفير، تميز بأسلوب بلاغي واعٍ، متأرجحا بين الحزم واللين.
هنا الشاعرة تناجي نفسها بأن تخلع جراحها وآلامها، مخبرة بأن الإنسان يذنب أحيانا، ولكن عليه ألا يصده الذنب عن التوبة، وعليه اتباع دافق عشقه بالصعود للبحث عن النور؛ وعسى ربه أنه يهديه سواء السبيل.
اخلعْ جراحَكَ بالسطرِ المُقدَّسِ، لا
يصدَّك الذنبُ عن وحيٍ بكَ ارتحلا
مصطلح «السدرة العُليا» هنا يحتمل معنيين اثنين: فأما الأول فيشير لـ «سدرة المنتهى»، وهي المنتهى لكل رحلة، وأما الآخر فالشاعرة تعني بها القصيدة الشعرية في المديح النبوي؛ فالشعر بشتى ألوانه لا يصل إلى سمو وأوج وعتو (شعر المديح النبوي). كذلك هي «قنديل من الغار» وقريناتها صعدت، واعتلت، وتربعت عرش الشعر.
واصعد إلى السدرةِ العُليا بلا حَذَرٍ
من دافِقِ العشقِ، إنْ ناداكَ وانهملا
يشرق الأمل جليا، فمن بين تلك الأشواك، والآلام، والصعاب هناك تنمو نرجسه لطيفة تفوح عطرا وتعج بالحياة، ضربت بجذورها الأرض وأورقت بين تلك الأشواك الجارحة. إنه مشهد تصوير بليغ يرمز للتوازن الذي يبعثه الأمل في البيئات القاسية، والطرق الوعرة.
هناكَ تنمو على الأشواكِ نرجِسَةٌ
تؤرجِحُ العطرَ في أوراقِها أَمَلا
القصيدة تعج بتصوير المشاهد، وتسجل حضورا كبيرا بذلك، فللقارئ أن يتخيل المشهد، وكأنما يرى الأحداث تعرض على شاشة سينمائية أمامه، فالشاعرة تجسد بأن الحب الحقيقي الصادق يقود صاحبه للنجاة، والحب هنا لنبي الله المبعوث الأمين الذي أرسل رحمة ونجاة للعالمين.
«الشاعرة» هنا الإنسان الذي يلمس في حُب النبي صلى الله عليه وسلم سراجا ووهجا يأخذه إلى حوض الهداية. يُخرجه من ظلمات الجهل إلى نور الهدي، نور العِلم والوعي. يُريه بأن الحق حقا وعليه اتباعه، وأن الباطل باطلا وعليه اجتنابه.
خلفي تلفّتَ بعضيْ إذ رأيتُ فتىً
ساقيه أطلَقَ والريحُ استوتْ سُبُلا
أتى تسيلُ ذنوبُ الأرضِ من دمِهِ
ما ضَلَّ مسراهُ، لكِنْ بالرؤى شُغِلا
وعن كيف ابتدأت الشاعرة رحلتها في صياغة القصيدة فقد صرحت لي بأنها استشعرت وجود النبي عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم. فكان بمثابة القنديل المُلهم بل هو أشبه بالبوصلة المُرشدة للقِبلة وهو بصيص النور الذي لطالما بحثت عنه في الليالي المُظلمة. فما كان منها إلا أنها ترجمت مشاعرها الجياشة في تلك اللحظة وحبها الصادق الذي تكنه للرسول الأعظم، وصاغته على هيئة حروف نورانية، وكلمات في أبيات شعرية.
تكونُ قِنديلَهُ في ليلِ وحدتِه
يرجوكَ، أو قِبلَةً تهدي النُهى مُقَلا
لطالما كان نشر الطمأنينة، وإغداق الأرواح بالسكينة هو نهج نبوي، فقد قال رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم لصاحبه: «لا تحزن، إن الله معنا»
كفٌّ تحطُّ على الأرواحِ حانيةً
لتهدأَ الحربُ والثأرُ الذي اشتعلا
لا نورَ يوقِظُ هذا العصرَ من خَدَرٍ
والكهفُ لمّا أوى، أحصاهُمُ مِلَلا
إنها الأبيات الأقرب والأحب لوجدان الكاتبة، فقد لامست الروح لطفا، وخاطبت العقل وعيا، وملئت القلب حبا ويقينا.
إنما حسن الظن واليقين من النبي الصادق الأمين بالله رب العالمين؛ لهو دليل قاطع على كمال توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه، وأن اعتماده عليه وحده، ومفوض إليه أمره. فجنى ثمار ذاك اليقين بأن أعمى الله عز وجل أعين المشركين، وران على قلوبهم؛ فما استطاعوا رؤيته وصاحبه، وما كانوا منتصرين.
بعضُ اليقينِ الذي في «اللهِ ثالِثُنا»
لو زارنا أورقتْ أرواحُنا رُسُلا
حضور مميز لعاطفة المرأة حيث الرعاية.. الاحتواء.. الحنية.. واللطف. فهذان الشطران يزخران بالحس الأنثوي الأمومي.
من دمعةِ الجوعِ والأطفالُ حِصَّتُها
والأمهاتُ حُداءٌ يوقِدُ الشُّعَلا
حاكت شاعرتنا الخاتمة بأسلوب مشابه للمقدمة والعرض، فكانت القصيدة كالبنيان المرصوص، يملأها الانسيابية والسلاسة العالية، وبدفق شعوري غزير بلا انقطاع من البداية للنهاية.
خلعتُ كُلَّ جِراحيْ وانتبذتُ بها
سطرًا عليًّا، كمن في نقصِهِ اكتملا
وفقت الشاعرة بإيصال رسالتها الأدبية الشعرية، وأضفت الجمالية على القصيدة بحضور الحس الأمومي، كما أن القصيدة مليئة بتصوير المشاهد، مطرزة بالبديع والجماليات جعلت غايتها الأسمى بأن تكون القصيدة شفيعة لها كلما قرأها قارئ وصلى على الحبيب، فكلنا أمام ذكر سيرته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يحيا ويستطيب.
«وإني جاهدت نفس قلمي كثيرا كي أوجز بكفاية، وأن أشير بوفاية» ويبقى السؤال الذي راود عزّة كثيرا ولا يزال حتى اللحظة ماذا لو أن هذه القصيدة هي رسالة لك.. بوصلة ترشدك.. لاستخراج كنزك.. الدفين داخلك.. فتكون نقطة تحول فارقة في حياتك.. وتحدد منها انطلاقتك.. فتكتشف شغفك ورسالتك؟
عزة الهنائية كاتبة ومترجمة عمانية