وطنيون بالاسم فقط
في عام 1787، كتب توماس جيفرسون أن "شجرة الحرية يجب أن تُـروى من حين إلى آخر بدماء الوطنيين والطغاة". لكن السؤال المتكرر في السياسة، وخاصة في ما يتعلق بالاتحاد الأميركي المشحون في بداية عام 2023، هو من ينتمي إلى أي من الفئتين.
في الكونجرس المنتخب في نوفمبر الماضي، حَـصَـدَ الجمهوريون مكاسب كبيرة بتهديد محاولة كيفين مكارثي شغل منصب رئيس مجلس النواب الأميركي. في مقابل أصواتهم، وافق أعضاء كتلة الحرية، وهي أقلية مؤيدة لدونالد ترمب بشدة، على تعيينات في أقوى لجان مجلس النواب، حيث سيتحكمون في الأجندة على مدار العامين القادمين. بوسع الأميركيين أن يتوقعوا بالفعل ما سيحدث. يسيطر الديمقراطيون على مجلس الشيوخ والرئاسة، لكن المهيجين الجمهوريين المفوضين حديثا لن يسعوا إلى التسوية. في غياب أي فرصة لتحول التشريع الذي يرعاه الجمهوريون إلى قانون، سيكون شغل مجلس النواب الراديكالي الشاغل الانخراط في مشهد حزبي محض. الواقع أن هؤلاء الجمهوريين المتطرفين ــ الذين رفض أغلبهم إدانة تمرد السادس من يناير في مبنى الكابيتول الأميركي، وصوتوا ضد التصديق على انتخابات 2020 الرئاسية، وما زالوا يكررون أكذوبة ترمب الكبرى حول الانتخابات "المزورة" ــ راجعوا أجندتهم. وسوف يجرون تحقيقات مُـغـرِضة قائمة على نظرية المؤامرة في مزاعم حول فساد جو بايدن وربما جرائم تستوجب العزل. سوف يستهدفون شخصيات عامة، مثل أنتوني فوسي رئيس المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية سابقا، والتي سيتهمونها بالتستر على تسرب فيروس كورونا المفترض من مختبر في مدينة ووهان في الصين. وسوف يذيعون رواية مروعة حول سياسات الهجرة الفيدرالية التي تغمر البلاد بالمهاجرين الذين يجلبون الجرائم والأمراض، والذين يسلبون الأميركيين المستحقين وظائفهم وقوة أصواتهم. لن تصمد أي من هذه المزاعم المثيرة تحت أدنى قدر من التدقيق. لكن الحقيقة ليست هي المقصود هنا. يتلخص الهدف في التلاعب بالرأي العام وتشكيل هيئة الملعب السياسي لانتخابات 2024 الرئاسية. كما لاحظ جيفرسون بتبصر، فإن "الناس من غير الممكن أن يكونوا جميعا ودائما على اطلاع تام. وسوف يكون القسم المخطئ منهم غير راض بما يتناسب مع أهمية الحقائق التي يسيئون فهمها". في ضوء هذه الخلفية، ينبغي لنا أن نتأمل في مزاعم الجمهوريين الراديكاليين اليوم: الانتخابات المزورة، والتستر الفيدرالي بشأن السبب وراء انتشار جائحة مرض فيروس كورونا (كوفيد-19) والوفيات والأمراض الناجمة عن اللقاحات، و"الإحلال الأكبر" للمهاجرين والأقليات محل الأميركيين من ذوي البشرة البيضاء. هذه الادعاءات ليست بسيطة على الإطلاق. فسوف يكون الاستياء المتناسب مع مثل هذه الاتهامات الخطيرة عميقا للغاية في حقيقة الأمر. ونحن نعلم أن هذا الاستياء عميق بالقدر الكافي لإشعال شرارة تمرد، لذا فإن السؤال هو: ماذا قد يحدث بعد ذلك؟ المزيد من عمليات إطلاق النار من قِـبَـل جمهوريين يمينيين تستهدف دوائر ديمقراطية متصورة وسياسيين في بيوتهم؟
في أميركا اليوم، يكاد يكون العنف السياسي مؤكدا. إذا كان الحوار المدني، وجهود حل المشكلات تشريعيا، وبقية الأعمال العادية في السياسة مهجورة، فإن هذا لا يترك لنا سوى تصرفات غير عادية، مثل نشر أكاذيب قوية بالدرجة الكافية لاستفزاز أزمة أو حالة طوارئ سياسية كفيلة بتحفيز تصرفات مثل أخذ القانون باليد وغير ذلك من الإجراءات خارج نطاق القضاء.
يثير هذا الاحتمال تساؤلات مهمة حول طبيعة وأهداف القوى اليمينية التي تدير الآن فعليا مجلس النواب في الولايات المتحدة. يتمثل التصور التقليدي في أن الحزب الجمهوري واقع في قبضة انبعاث شعبوي. ويرى بعض المؤرخين تشابها وثيقا مع القومية الشعبوية التي ناصرها الرئيس أندرو جاكسون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما تسببت المخاوف من "الاستعاضة عن ذوي البشرة البيضاء" (بالمكسيكيين، والإسبان، والأميركيين الأصليين، والعبيد المارقين، ودُعاة إبطال القوانين) في ظهور حركة "أميركا الشابة". وقد حفزت مخاوف مماثلة حركة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" بقيادة ترمب. لكن هذه الانتفاضة الشعبوية الجديدة تتسم أيضا بالخوف من "الدولة العميقة" التي تجعلها أشد خطورة وشؤما من سابقتها في القرن التاسع عشر. لنتأمل هنا حالة النائب ريان زينكي من ولاية مونتانا، الذي استقال سابقا من منصب وزير الداخلية في عهد ترمب وسط فضيحة أخلاقية. يدّعي زينكي الآن أن "الدولة العميقة" الحكومية تتآمر من أجل "القضاء على راعي البقر الأميركي". الواقع أن تأجيج المخاوف من جانب زينكي على هذا النحو ليس حادثة منعزلة. فقد أنشأ الجمهوريون في مجلس النواب مؤخرا "لجنة فرعية مُـختارة معنية بفحص مزاعم استخدام الحكومة الفيدرالية كسلاح" ــ وهذا أشبه بلجنة الأنشطة غير الأميركية في مجلس النواب للقرن الحادي والعشرين. وفقا لقرارها التأسيسي، ستتولى اللجنة الفرعية الجديدة التحقيق في "الكيفية التي تقوم بها هيئات السلطة التنفيذية بجمع، أو تحليل، أو استخدام، أو نشر المعلومات حول مواطني الولايات المتحدة، بما في ذلك أي أنشطة غير دستورية، أو غير قانونية، أو غير أخلاقية، تُـمارَس ضد مواطني الولايات المتحدة". سوف تتولى أيضا فحص "كيفية عمل هيئات السلطة التنفيذية مع القطاع الخاص، أو الكيانات غير الهادفة للربح، أو غيرها من الهيئات الحكومية، وكيفية حصولها على المعلومات منها وتزويدها بالمعلومات، لتسهيل العمل ضد المواطنين الأميركيين". باختصار، الهدف من وجود اللجنة الفرعية التحقيق في عمل هيئات التحقيق وإنفاذ القانون الرئيسية، بما في ذلك وزارة العدل (ومكتب التحقيقات الفيدرالي)، ووكالة الاستخبارات المركزية، ووزارة الأمن الداخلي. كما يوضح رئيس كتلة الحرية ومؤسسها المشارك جيم جوردان: "إن الواجب يفرض علينا الدخول إلى هذه الهيئات والنظر في كيفية استخدامها كسلاح في العمل ضد الناس الذين يفترض أنها تمثلهم، وكيف انتهكت الحريات التي كفلها التعديل الأول للشعب الأميركي". بحسب جوردان "حقك في ممارسة عقيدتك، وحقك في التجمع، وحقك في تقديم التماس للحكومة، وحرية الصحافة، وحرية التعبير. كل هذا كان هدفا للهجوم في العامين الأخيرين. ونحن نريد فقط أن يتوقف هذا". يستند حكم القانون على افتراض مفاده أن الدولة وحدها هي التي تملك سلطة استنان القانون وإنفاذه. يتحدى الشعبويون الجدد هذا الاحتكار ــ سواء من داخل الحكومة (من خلال مهاجمة استخدام عملية إنفاذ القانون الفيدرالي "كسلاح") ومن خارجها (من خلال إعادة صياغة أدوار متمردي السادس من يناير على أنهم وطنيون كانت تصرفاتهم محمية بحقهم في حرية التعبير والتجمع). ترى من يستحقون وصف الوطنيين ومن يستحقون وصف الطغاة؟ سوف يحدد النضال للإجابة على هذا التساؤل ما إذا كانت أميركا لتظل موحدة في ظل حكم القانون أو تتفكك وتتقطع أوصالها بفعل العنف الـمُـهلِـك.
• ريتشارد ك. شيروين أستاذ فخري للقانون في كلية الحقوق بنيويورك
** خدمة بروجيكت سنديكيت
