No Image
ثقافة

صورة المتنبي في كتاب «فتنة المتخيل»: دفاع عن الشعر وإعادة لهيبته

09 يناير 2023
09 يناير 2023

«للشعر ثاراته، وللشاعر ضجراته». بهذه العبارة ينطلق محمد لطفي اليوسفي في كتابه (فتنة المتخيّل ج1: الكتابة ونداء الأقاصي) متحدّثا عن الشعر، ومتناولا المتنبي في أكثر من 130 صفحة مفصّلا في الروايات التاريخية التي تناولت سيرته وشعره، والقضايا التي سارت بها كتب التاريخ والأدب ناسجة من المتنبي شاعرا مختَلَفا فيه وفي نسبه وعقيدته وشعره وعلاقته بالملوك والحكام والشعراء.

لا يمكننا قراءة الصورة التي عليها المتنبي في الكتاب قراءة عابرة؛ لأنّ حضوره فيه كان له قيمة وهدف؛ فقد وردَ المتنبي في باب «ثارات الشعر» بعد أبواب سبقته تشير إلى «دروب الهوان»، و»دروب الانشقاق»، و»المدينة ومطاردة جند إبليس»، و»الانحطاط: الوعي والفجيعة»، فكأنّ اليوسفي قد رسم صورة المتنبي في الفصل الخامس ماحيا بها صورة سابقة معبّرة عن هوان الشعر والشعراء، وانحطاط المكانة الشعرية، وكأنّ «نبوءة» المتنبي الشعرية جاءت أيضا ماحية كل ذلك الهوان في تحولات الشعر عبر عصوره الأدبية، ومعيدة المكانة والهيبة الشعرية للشعر، فهو لا يدافع عن المتنبي فحسب، بل كان دفاعه عن الشعر الذي تأرجح بين جانبين: جانب الضعف والهوان، وجانب القوة والثأر. نقرأ ذلك مثلا عند اليوسفي حينما انتقد الشعراء الذين نزلوا إلى دروب الهوان، أو الذين دفعتهم الحاجة إلى ذلك، أو الذين تعمّدت السلطة السياسية إنزالهم إلى مزالق الهوان، لقد هبطوا بالشعر حين لجأوا إلى «الغرضية» المتمثلة في مدح السلطة أو رثائها. إنّ في قربهم من السلطة هوانا وضياعا للشعر ونزولا عما كان عليه في عصر ما قبل الإسلام على حد تعبيره، ثم جاءت الغرضية فأنزلت من قيمة الشاعر الذي لجأ إلى دروبها عامدا، يذكر في هذا الجانب شعراء لجأوا إلى المدح تكسبا، ومضوا في دروب الهوان كالبحتري، وأبي دلامة، وابن نباتة وغيرهم، لكنه لم يذكر المتنبي في هذه الدروب رغم أنه تكسّب بشعره مدحا.

إنه يعيد إنتاج صورة المتنبي في قمة الهرم الشعري؛ إنّ المتنبي رغم تكسبه بالشعر فإنه عاد بالشعر لثاراته ولجمالياته، ومضى خارجا على نظام المدينة ونظام الشعر، نجده يذكر حادثة اشتراطه على سيف الدولة إلقاء الشعر في مجلسه وهو جالس، وهو شرط يصنفه اليوسفي شرطا مهما في بناء شخصية المتنبي/ الشاعر الذي يُعلي من هيبته في مواجهة السلطة السياسية، فهو لم يمضِ بشعره ونفسه -رغم مدحه وتكسبه- في دروب الهوان التي مضى عليها غيره من شعراء عصره.

لقد أعاد المتنبي -بتعبير اليوسفي- هيبة الشعر والشاعر وأظهر مكانتهما الشعرية، نقرأ ذلك في غير موضع من الكتاب، نجده مثلا يقول: «لقد مضى المتنبي بظاهرة التكسب إلى المنتهى. وستتفنّن المتون في ذكر المبالغ الطائلة التي جمعها. لكنه لم يضع أو يضيّع. بل مكّن الشعر من حبكِ ثاراته. لقد انقلبت الأدوار فعلا. لن يقف الشاعر في حضرة ممدوحه وجلا أو طامعا راجيا. إنّ الممدوح هو الذي يمثل في حضرة الشاعر والشعر و»يتعبّدهما» ممنّيا النفس ببعض من عطاء الشاعر وفضل الشعر... لقد ولّى ذاك الزمان الذي كان فيه ابن نباتة يقف على العتبة (قدّام الباب) منتظرا التفاتة من السلطة السياسية. مضى ذلك الزمان الذي لم يتمكن فيه ابن نباتة من أن يدخل مجلس الوزير إلا بعد أن أطال التوسّل مهدرا ما تبقى من كرامته المنتهكة. وجاء زمن الثارات، ثارات الشعر والشاعر. إنّ المتنبي لا يقصد البلاط، بل ينتظر خارج البلاد ويرسل من يستنفر السلطة السياسية لاستقبال الشاعر بما يوفي الشعر حقّه في التبجيل والاحتفاء... لم يدخل المتنبي المدينة، بل هي التي تحرّكت، وخرجت، وجاءت إليه تستقبله». (فتنة المتخيل 1/390)

إنّ صورة المتنبي في الكتاب هي صورة الشاعر المُنْشَقّ عن تقاليد الشعر وتقاليد السلطة؛ لذا أُدخل المتنبي في دائرة الكراهية، والبُغض، والطرد من مجتمع الشعر والشعراء؛ إذ هوجم في نسبه الوضيع، وفي اعتقاده ونبوءته، وفي شخصه فوُصِف بالجشع والبخل، وفي شعره الذي استدلَّ به النقاد على خروجه من الدين وإلحاده، إلا أن اليوسفي يُفكّكُ هذه النصوص جميعها، مستعيدا إياها من مصادرها التي تناولت بخل المتنبي ووضاعة نسبه وشعره وحوادث وصفت جبنه وخروجه عن الدين ثم يردُّ عليها، ويضرب بعضها ببعض مستعينا في تكوين أفكاره بأدوات الناقد الذي لا يقتصر دوره على إظهار الجماليات فقط، بل يقوم بعملية الكشف والتحليل التاريخي والأيديولوجي، نجده يربط القصص التي تناولت المتنبي بالعودة إلى نصوص الإنجيل والسنة النبوية رابطا بين شخصياتها وبين شخصية المتنبي، وكأنّ تلك النصوص أخذت إشاراتها في رسم صورة المتنبي من النصوص المقدسة في الإنجيل والسنة وهو ما يعرّفه هنا بـ»تنادي النصوص»، وهنا تُلحّ أسئلة في ذهن المتلقي من قبيل: هل قصد المتنبي ذلك؟، أو هل قرأ المتنبي؟ أو هل أدرك المتنبي ذلك؟ لحظة الوقوف على تلك النصوص والحوادث، مادّا بها جسور الشبه بين النصوص التاريخية والدينية وبين تحليله ونقده لها. نقرأ ذلك من حادثة خروج ابن العميد إلى خارج المدينة لاستقبال المتنبي الذي وقف خارجها وأرسل غلامه لإخبار ابن العميد بقدومه، هذه الحادثة التي يربطها اليوسفي بخروج المدينة لملاقاة الرسول راسما بها صورة عظمة لشخص المتنبي، ثم سرعان ما يعود قائلا: «ليس في الخبر ما يثبت هذا التأويل. لكن مشهد المدينة تتحرّك وتخرج لملاقاة رجل فريد هو الذي يفتح الكلام على هذه الأبعاد ويمدّ هذا التأويل بمبرراته. هل يعني هذا أنّ المتنبي إنما وقف على التخوم ولم يدخل المدينة إمعانا منه في تكريس فكرة نبوّته. هل استبطن ما ذكرته كتب التاريخ وكتب السيرة عن تلك اللحظة وحرص على أن يسلك سلوكا يخلق في ذهن الناس هذا التوازي أو يثيره على الأقل؟». (فتنة المتخيل 1/392) والحقيقة أنّ اليوسفي ضمن ما يعرف بتنادي النصوص أراد لصورة المتنبي أن تكون هكذا، ناصعة، مشرقة، ترتفع في عظمتها بعظمة الشعر وتنهض به بعد انحطاطه، هكذا يرسم اليوسفي صورة شاعر العربية الأول وهكذا يحلّل ويربط بين النصوص ويعيد إنتاجها مرة أخرى وصولا إلى فكرته التي يريدها.

يردّ اليوسفي على الروايات التي تناولت شخص المتنبي، مدافعا من خلالها عن الشعر في المقام الأول، وعن المتنبي في المقام الثاني، وتأتي عملية الرد متمثلة في دحض الروايات، ونسفها بتحليل الحوادث وإظهار «مكائد الرواة» وخيالاتهم، ومبيّنا مسألة البُغض لشخص المتنبي وشعره.

تميل لغة اليوسفي إلى الدقة النقدية والثقافة الواسعة في رد الشبهات عن شاعر العربية، إننا أمام ناقد موسوعي، مطّلعٍ على الروايات التراثية والدينية والنقدية، وناقد يمتلك أدوات النقد التي سخّرها للانتصار إلى المتنبي لحظة مضيّه في دروبه الجديدة -إنه انتصار إلى الشعر في حقيقته بعد أنْ ضيَّعتْهُ الغرضية ومضت به في دروب الهوان- سواء بالدفاع عما قيل عنه وحكي من أساطير، أو باستحضار ما كتب عنه مدحا في إزاء ما قيل ذما، منها استحضاره ما كتبه المعرّي في كتابه (معجز أحمد) الذي سينطلق اليوسفي من عنوانه إلى إبراز قيم الجمال والبراعة في الشعر والنقد، يقول: «معجز أحمد هكذا سمّى المعري شرحه. والإعجاز خروج من البشري إلى ما فوقه. إنه ما يفوق طاقة بني البشر. ثمة في هذه التسمية نوع من التنادي بين النصوص. حتما كان المعري قد أحاط بالجدل الذي حفلت به المتون العربية حول مسألة إعجاز القرآن. وهو لم يختر الكلمة من قبيل الاتفاق. فهل كان يعبّر عن الحظوة التي نالها شعر المتنبي في وجدان الناس من غير العيّابين الحاسدين. لكنّ اكتفاءه بذكر اسم المتنبي دون كنيته لم يأت اتفاقا هو الآخر. ففيما تحرص المتون في معرض حديثها عن الشاعر بذكر الاسم كاملا أو تكتفي بعبارة «أبي الطيب» يعمد المعري إلى الاكتفاء باسم «أحمد». من هنا تستمدّ عملية الإسناد عنفها ومضاءها. إن عبارة «معجز أحمد» إنما تأتي لتخلق في ذهن المتلقي نوعا من الزحزحة الخطيرة. فالدال إنما يشير إلى القرآن وإلى النبي العربي. لكن المدلول الذي يشحن به المعري ذلك الدال إنما هو شعر المتنبي». (ص358) هكذا يحشد اليوسفي كتب التاريخ وأقوالها عن المتنبي، وهكذا يُحكم أدواته النقدية مفككا للنصوص بربطها بأقوال ومسارات أخرى مدافعا بها عن شاعرية المتنبي خالقا في الأذهان صورا شتى ترتبط بالشخصية التي يتناولها.

وعليه، يرى اليوسفي أنّ ثمة ارتباطا بين الإبداع والفعل الانشقاقي، وعلى ذلك يستعرض الشعراء الذين انشقّوا عن التقاليد وأحدثوا ثورة في الشعر والحياة، فمضت بهم الحياة في دروبها الخطرة، ونهايتها الصعبة مثل عمر بن أبي ربيعة ووضاح اليمن وغيرها، إلى أن جاء المتنبي وأحدث الانشقاق الأكبر في دروب الشعر والمضي به إلى دروب الثارات والرفعة. لذا يتمثّل اليوسفي صراحة الصراع القائم بين السلطتين الشعرية والسياسية، التي من خلالها استطاع المتنبي النهوض بالشعر وإعادة هيبته و»أنّ السلطة السياسية كانت تحدس بأنّ شعر المتنبي إنما جاء ليعيد للشعر سيادته ويمكّنه من افتتاح تاريخ ثاراته. فهو لم يخلق نوعا من التوازي الخطير بين السلطة الشعرية والسلطة السياسية فحسب، بل مضى في المنازلة بعيدا. لقد أعاد للشعر والشاعر شرف الاسم وكشف أن الكل باطل وقبض الريح». (فتنة المتخيّل 1/397)

لقد احتفى الكتاب بسيرة المتنبي بعد أن حشد رواياتٍ عدة من مراجع مختلفة، وقام بتسليط الضوء على مصداقية رواتها، وتفنيد مزاعمهم. إنّ صورة المتنبي في كتاب (فتنة المتخيل) جاءت دالّة على فعل الانشقاق، وعلى القطيعة مع المجتمع، فأحدث شعره صوتا في ذاكرة الشعر، وعمل على خلخلة القيم الشعرية، والتصادم مع السلطة السياسية ذلك الوقت، ولعل ذلك ما دفع اليوسفي أن يصف المتنبي قائلا: «لقد كان المتنبي زارع فتنة. وكان أيضا زارع فوضى داخل المدينة». (ص420) فأيّ فتنة تلك؟ وأي فوضى؟ إنها حتما فتنة الشعر وسحره، وفوضى الجمال والكلام الخالد.