" أنا مُش مجنون " !

31 ديسمبر 2022
31 ديسمبر 2022

لا يزال حاضرا في ذهني المشهد الساخر للفنان الراحل فؤاد خليل وهو يقوم في أحد أفلامه بدور الطبيب النفسي المتشنج والمضطرب بلباسه الأبيض و" التمرجيه " أمامه يمسكون بتلابيب المريض الذي يصرخ " أنا مُش مجنون " فيما هو يحمل إبرة طويلة في يده ويُسايس المريض ويطلب منه الهدوء بقوله: "مين قالك إنك مجنون" ؟ ثم يغرس الحقنة في زنده فتشُلُ حركته ويذهب في نوم عميق.

يعاود هذا المشهد من الفيلم القفز إلى ذاكرتي كلما جاء الحديث عن كيفية تقديم السينما العربية للمرض النفسي للجمهور.

مثل هذه المشاهد والتي تكررت في أفلام كثيرة أخرى ساعدت في ترسيخ صورة نمطية سلبية عن طبيعة المرض والمريض والطبيب المُعالج جعلت الكثيرين ممن يعانون إشكالات نفسية يُحجمون عن زيارة العيادات المتخصصة لطلب المساعدة والعلاج.

لقد شوهت السينما العربية بالفعل صورة هذا الاضطراب وقدمتهما بأسلوب ساذج وسطحي بهدف الإضحاك و التندر فظهر المريض في العديد من الأفلام القديمة مجنونا فاقد العقل يثير الرعب في الطرقات والعيادات والسجون، بينما يظهر الطبيب شخص غير متزن وعصبي مقتنع أن المريض مجنون فعلا وهو بذلك لا يبحث عن الحلول بقدر ما يثير في نفس مريضه ومن حوله الخوف والرعب.. لكن ذلك لا يعني بالطبع أنه لا توجد أفلام عربية حديثة طرحت الإشكالات النفسية بصورة جادة ومعمقة.

كما رسمت السينما العربية صورة مشوشة لطرق التعامل مع المريض النفسي إذ لأسباب مختلفة اعتاد القائمون على صناعة هذه الأفلام ألا يأخذوا برأي المتخصصين في مجال الطب النفسي متجاهلين بصورة متعمدة أو غير مقصودة ربما الإضافة المؤثرة التي قد يتركها هذا المتخصص على جودة العمل الدرامي.

تقف سلسلة أعمال الفنان الكوميدي الشهير إسماعيل ياسين 1912 - 1972 م على رأس تلك النوعية من الأفلام خاصة فيلمه " إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين " الذي تم إنتاجه في العام 1958 والذي أساء كثيرًا لصورة المرضى النفسيين والأطباء.

لقد افتقدت هذه السلسلة وأعمال عربية كثيرة أخرى إلى المعالجة الجادة والحقيقية فلم يكن شرح المشاكل النفسية وتفسيرها وتحليلها هدفا للمخرجين.. كما لم يكن إقناع المشاهِد بأن هذه الاضطرابات لها حلول وعلاجات سلوكية ودوائية غاية من إنتاج الأفلام بقدر ما كان الإضحاك وتحقيق أكبر قدر ممكن العوائد المالية هو ما يسعى القائمون عليها إلى تحقيقه.

أما السينما العالمية فقد قدمت الكثير من الأعمال الرصينة في تلك الفترة ففي العام 1960 طرح " المخرج ألفريد هيتشكوك " فيلمه الشهير "سايكو" أو "مضطرب العقل" (Psycho) وهو فيلم رعب نفسي أمريكي استند إلى رواية للكاتب الأمريكي روبرت بلوخ تحمل الاسم نفسه صدرت عام 1959.

الفيلم من بطولة أنتوني هوبكنز وجانيت لي وفيرا مايلز وجون غافن ومارتن بلسم وهو يتناول قصة شاب مصاب بالذهان ارتكب عدة جرائم قتل في ولاية ويسكونسين الأمريكية.. الفيلم عُد عالميًا بمثابة دراسة حالة للمرض النفسي لم تغب عنه الاحترافية في الطرح والتناول وتقديم الحلول.

يقول الطبيب النفسي الدكتور حسين العبري: " نعم ساعدت السينما العربية في تشويه صورة العلاج النفسي والطبيب المعالج خاصة سينما الخمسينيات والستينيات لكن أفلام المرحلة الحالية تبدو أكثر موضوعية".

يضيف: "المجتمع العماني بدأ " إلى حدِ ما " في تقبُل هذا النوع من العلاج إلا أن شريحة ما زالت تلجأ إلى العرافين و" المعالمة " والمشعوذين والدجالين و" البُصار ".. " هناك من يتخفى وهو ذاهب إلى العيادة النفسية خاصة الرجال.. لذا يفضِلُ مراجعة العيادات النفسية الخاصة فقط لكي لا يظهر أنه يتعالج نفسيا.. لكن بالمجمل هناك تقدم في الإقبال على العلاج والوضع أصبح أفضل الآن ".

يشير الدكتور حسين إلى أن الأمراض الأكثر انتشارًا في المجتمع العُماني في الوقت الحالي والتي تصيب الجنسين هي القلق والاكتئاب أما بالنسبة للأمراض الأخرى فتختلف نسبتها بين الذكور إلى الإناث لكن النساء" هن أكثر من يرتدن هذه العيادات وهن أكثر عرضة للاكتئاب بينما الرجال غالبا ما يعانون من اضطراب القلق.

في الأسباب التي تؤدي في الغالب للسقوط في الأمراض النفسية يؤكد الدكتور حسين العبري: " الضغوط الحياتية سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو في العمل أو الدراسة " ناصحا كل من يعاني أي إشكال نفسي أن لا يمتنع عن طلب العلاج الذي توفره مختلف المؤسسات الصحية.. مُختتما: " النفس تمرض كما يمرض الجسد.. لا يجب اعتبار الإصابة بمرض نفسي وصمة عار".

يذكر أن منظمة الصحة العالمية كانت قد نشرت في العام 2020 أرقاما مخيفة عن عدد السكان المصابين باضطرابات نفسية في العالم إذ ذكرت أن عددهم يقترب من مليار شخص. وتذهب الدراسات إلى أن رُبع سكان العالم يُصابون بمرض نفسي في مرحلة ما من العمر وأن عدد المصابين بالاكتئاب والقلق ارتفع بنسبة 50% في ظرف عشرين عامًا.

آخر نقطة

" أنتَ على الأرض، لا يوجد علاج لذلك".

صموئيل بيكيت