عن "ذاك الزمان"

05 نوفمبر 2022
05 نوفمبر 2022

حط المقطع الصوتي الذي يتم تداوله هذه الأيام لرجل التقى مسنًا بولاية من ولايات سلطنة عمان تحاورا فيه عن الزمن الماضي على هاتفي النقال لأكثر من مرة ما دفعني للاستماع إليه ظنًا مني أنه مادة فكاهية في زمن لا مكان فيه للفكاهة.

يروي الرجل أنه التقى بالمسنِ مصادفة في إحدى "البقالات" والذي أخذ يكيل المديح للزمن الفائت ويصف قلوب الناس حينها بـ"الصافية" فما كان من جانبه هو سوى الرد عليه وإثبات أن ما يقوله ليس دقيقًا وأن في ذلك الزمن لم يكن الناس يرتعون في النعيم وإنما كانوا مشتتين في أصقاع الأرض يبحثون عن لقمة عيش تُسكتُ جوعهم يُحيطهم جوٌ من البؤس والجهالة والفاقة.

دهشت فعلًا لاعتبار الرجل ذاك الزمان -الذي أسأل الله سبحانه وتعالى ألا يعود- يستحق التحسر على ذهابه وأن القلوب خالية من الأحقاد متناسيًا أن الإخوة فيه كانوا يعيشون قطيعة تستمر لسنوات طويلة وربما حتى ممات أحدهم بسبب ورث أو أي سبب تافه آخر.. كما لا يكاد يوجد بيت من البيوت إلا وقُتل فيه فرد أو أكثر في حرب أو مناوشة دارت بين قبيلتين جارتين؟ لأسباب تافهة أيضًا وأسالوا أنفسكم ما سر عدم خلو أي منزل عماني من أسلحة تقليدية كالكند والصُمع وبو عشر وبو خمس.. هل وجدت هذه الأسلحة في البيوت كديكور أو للزينة أو لأخذ الصور معها؟

في "ذاك الزمان" زمن الجهل والظلم كانوا يخرجون للحرب وهم لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون ولا يدرون سببًا مباشرًا لها ولا يعرف أكثرهم من هو العدو، وفي الغالب لا يتساءلون من الذي يتحمّل دماء من ستذهب أرواحهم سُدى في تلك الحروب الجاهلية.

في "ذاك الزمان" الأسود كانت العدالة مغيّبة إلا ما رحم الله وكان الحَكم هو الجلاد فلا محاكم ابتدائية ولا استئناف ولا محكمة عليا وكانت الأراضي حقا أصيلا من حقوق من بيده السلطة ولا يحق لأحد أن يفاصلهم فيه ولو بلغت مساحاتها آلاف الكيلومترات أو الفدادين.

"ذاك الزمان" كانوا يسافرون أطفالًا إلى دول الجوار للبحث عن وظيفة تسد حاجتهم مخاطرين بأرواحهم وهم يقطعون البحار في مراكب صغيرة متهالكة متحمّلين سوء المعاملة وألم الغربة، لا يحلمون سوى بعودة آمنة بعد سنوات طويلة من البعد عن أسرهم ووطنهم.

عن "ذاك الزمان" زمن المسغبة حدّثني والدي رحمة الله عليه كثيرًا فكان يردد أن الناس بسبب الجوع كانوا يأكلون من "النفيعة" وهي ما تبقى من التمور بعد فرز الصالح منها، ولا يعرفون من الطعام إلا ما يتوفر من الشعير واللبن وبعض الحليب و"إذا تغدينا ما تعشينا وإذا تعشينا ما تغدينا" أو يتم تقسيم الوجبات على أفراد الأسرة بحيث يأكل البعض ويصبر البعض الآخر على الجوع حتى يحين دوره.

متذكرًا بألم "ذاك الزمان" يضيف الوالد رحمه الله: "قبل عام 1970 انتشرت مجاعة غريبة بين الناس فضاق الحال بنا حتى مَن كُنا نعدهم أغنياء كانوا فقراء فكانت ملابس النساء تُتبادل بحيث تلبس الثوب الساتر من هي مُضطرة للخروج من المنزل لأمر من أمور الحياة بينما تظل أُختها أو أُمها في "الصُفة" أو "ما تخطي رِز البيت".

تتحدث ببهجة عن "ذاك الزمان" حيث كان العِلم من نصيب المقتدرين والوجهاء وكان المرض يفتك بالأرواح ويتخطفهم وهم عاجزون عن قهره أو العثور على علاج له فمنهم من قضوا بالملاريا وآخرون بالحمى الصفراء وعدد كبير منهم بالتيفوئيد أو السل والطاعون حد أن بيوتًا كاملة أغلقت بسبب وفاة جميع أفرادها.

في "ذاك الزمان" الأغبر زمن البؤس انتشر العرافون وراجت قصص السحر والمسحورين و"المغايبة" في القرى فلا يكاد يُتوفى شخص نهار اليوم حتى تنتشر الشائعات أن الذي تم تغسيله وتكفينه أمام أعين الناس لم يكن سوى "خشبة" أما الشخص الحقيقي نفسه فمربوط في أحد الكهوف أو أنه بدأ رحلة التيه في أحد الوديان وما يؤكد ذلك أنه ليلة وفاته وجد في الليل يشرب من "قاطور" بيته.

عن أي زمان تتحدث أيها الرجل الطيب -لا أعاد الله ولا أرجعه- ؟ عن أي ذكريات مرحلة سوداء تبعث على الكرب والأسف؟ تمنيت منك لو تغنيت بما تحقق على هذه الأرض الطيبة منذ نهضة عُمان الأولى عام 1970 على يد السلطان الراحل قابوس بن سعيد بن تيمور تغمده الله بواسع رحمته وما يتحقق الآن في نهضتها المتجددة على يد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أيده الله- في شتى المجالات وفق رؤية حكيمة بعيدة المدى تستهدف خير الوطن والمواطن.. تمنيت أن تكون أكثر إنصافا وحكمة.

آخر نقطة

يقول الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي في فواجع الدهر وتقلب الأيام:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ

فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ

مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ.