عن الشعر والناس

16 يوليو 2022
16 يوليو 2022

في حياة كل شاعر هناك الشعر والناس، مرآتان متقابلتان تتبادلان التحديق في بعضهما، وكلمتان لا تتناقضان بقدر ما تتحاوران للعثور على صيغة جديدة للتعايش المشترك بحيث لا تطغى إحداهن على الأخرى: لا الشعر يطغى على الناس متجاوزاً همومهم بأنانية تجعله لا يرقص إلا حول نفسه، ولا الناس يطغون على الشعر فيحاصرونه ويطالبونه ويبذلونه ويبتذلونه. فلا بدَّ من "الناس" في الشعر كما لا بدَّ من الشعر في الناس. عمن نتحدث هنا وعن أي أناس؟ إنهم ببساطة أولئك الذين نسميهم اليوم بلغة ثقافية أكثر دقة "القُراء"، الناس الذين يَعبرون مع الشاعر وعبره من المداخل إلى المخارج في أي شارع أو سوق، أما هو الذي ضيع نفسه كثيراً من أجل أن يلتقيها فلا بد أنه بينهم، واحداً منهم حتى لو خانه انتباهه (المشدود على الدوام إلى الكون) في إدراك حقيقة دقيقة ومِجهرية كهذه رغم بساطتها.

أتكلم وأصافح في الكلام أناسًا عاديين بالمطلق في علاقتهم باللغة، يولدون على قارعة الزمن فيكبرون ليصبحوا موظفين، يتزوجون ليصبحوا أزواجاً كيفما اتفق، ثم ينجبون أطفالاً ليصبحوا آباء وأمهات، لكنهم في غضون ذلك كله مستعدون في أي وقت لاستراق دقائق من أعمارهم المنهوبة خلال الساعات الأربع والعشرين لتلقي الشعر، قراءةً واستماعاً، والتفاعل معه في لوحات مختلفة:

شعبٌ يهبط كشِعاب الأودية إلى الشوارع متظاهراً ضد غلاء الخبز، حاملاً في هتافه نشيد شاعر ميت يُمجد الحياة. أم تغني لوليدها الذي يتثاءب تحت ضوء القمر قصيدةً شعبية ورثتها عن أمها تحت قمر مشابه في ليلة نائية. شابٌ يدسُّ في دفتر زميلته على مقاعد الكلية قصاصة من ورق الملاحظات كُتبت عليها بخط مرتبك أبياتٌ من الغزل القديم، وفتاةٌ تقع في فخاخ الغرام لأول مرة لأنها صدَّقت الكلمات الأنيقة المصفوفة لقلبها على هيئة قصيدة، فأهدت للغريب ابتسامة استسلام.

هذا هو الشعر الذي أستطيع أن أصدّقه مغمض العينين، بصرف النظر عن المنازل النقدية التي يُحنط ويُلقى فيها بفضل الجوائز والمسابقات ورشاوى النقاد وابتزازاتهم. إنه صدى الناس مبثوثاً في الناس، ونهرٌ يعبر الذات بكل شجونها وغابات غموضها فلا يجد من مصبٍ له سوى قلوب قُرائه في آخر المشوار الحافي. إن أجمل النياشين التي يحلُم بها أي شاعر، في أي لغة، هي تلك التي يزرعها على صدره قُراؤه الخفيُّون الجالسون وسط ظلام جماهير الأمسيات، وذلك عندما تصبح بيوته الشعرية بيوتاً حقيقية صالحة للسكنى، وفاءً للعرب القُدامى الذين ما زالوا يقيمون بيننا شعرياً في أبيات قصائدهم.

وأنا أحاول فهم هذه العلاقة، هذا الحادث الغامض بين الناس والشعر قُبيل استدراجه إلى أوراقي، كانت صورة بعينها لشاعرة معاصرة تتردد في ذهني، إنها الشاعر البولندية فيسوافا شيمبورسكا، الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 1996. أرادت شيمبورسكا كما أتصور أن تهمس للناس، لمواطني لغتها الأم تحديداً: هأنذا أكتب الشِّعر، عني وعنكم، وعلي أن أكتب شعراً جيداً يليق بآلامكم التي مهما كانت ناصعة تحت الشمس إلا أنها ستظل غامضة بالنسبة لي، لذا سأكتب شعراً قد ينعته بعضكم بالغموض، لا لأني أريد أن أنفرد عنكم في أبراج عاجية، بل لأنني لا أطيق أن أخونكم وأخون نفسي حتى ولو شعرياً. شيمبورسكا، شاعرة "الكلمات السهلة مثل صباح الخير" وقفت على منبر نوبل في الثالثة والسبعين من عمرها وقالت: "لقد بدأت حياتي منذ سنوات شبابي مُحبة للنوع الإنساني، عازمة على جعل شعري وكل ما أكتبه في خدمته، لكني بقدر ما كنت أتقدم في العمر كنت أكتشف أكثر وأكثر أنه من غير الممكن إصلاح البشر. لم أتوقف عن حبهم، لكن شِعري توقّف عن محاولة إصلاحهم من تلقائه!"... كان الحب إذا هو الخيط العالي الذي يربط شاعرة مثل شيمبورسكا بعالمها الخارجي، لا الثورة. وإني لأتساءل أنَّى لشاعر يواصل الكتابة وهو لم يتعلم بعدُ كيف يحب الناس؟!

أخيراً، لقد قرأتُ مراراً عن لعبة كرة القدم كلاماً من قبيل أنها "لعبة الفقراء التي سرقها الأغنياء" أو بمعنى آخر: لعبةٌ اختُطفت من الناس بعدما ضخ فيها من المال ما يجعلها أثقل على المتعة والفرجة والإبداع وأقرب إلى عالم التجارة، فتحولت أندية كرة القدم إلى شركات! وهنا يتدخل المال في صناعة حاجز جديد بين الفن والناس، حاجز ليس كامناً في طبيعة الفن نفسه، كما يتهم الشعر مثلاً بالغموض، بل طارئ عليه. ولطالما كانت هذه الجملة (لعبة الفقراء التي سرقها الأغنياء) تحيلني إلى بعض الرياضات والفنون التي يمكن قول كلام مشابه في حقها بعدما اختُطِفت من أيادي الطلاب والهواة والجماهير وأصبحت مظهراً من مظاهر الحياة البرجوازية، كما اختَطَفت الفيفا كرة القدم من سكك الطين وشوارع الحارات التي أنجبت مارادونا وبيليه وأساطير آخرين، وربما لولا عرض مباريات الغولف على بعض القنوات الرياضية لكان الناس قد تناسوا وجود هذه اللعبة من الأساس. أما الشعر، الذي لا توجد مؤسسة ترعاه وتمنحه الاعترافات، وجد نفسه يتبادل الإغراء مع السلطة. وفي تاريخنا العربي فقد اختطفت السلطة السياسية الشعر من براءته "الشعبية" وسلّطته لأغراض غير شعرية تماماً، لكنه، أي الشعر، يعود اليوم تدريجياً إلى صفوف الجماهير بعدما تخلت السلطة عنه "لعدم فاعليته السياسية المباشرة" واستبدلت به أدوات تأثير وإرهاب أخرى، أكثر إغراءً وأسرع فتكاً. الشعر يعود دائماً إلى طبيعته بوصفه ملكية عامة في قلوب الناس، قٌراؤه أولى به من شعرائه (أجل بهذا التطرف أحياناً) هم الذين "يؤمنون باليد المعلقة" كما تؤمن فيسوافا شيمبورسكا.