تنوير العقول في علم قواعد الأصول
تنوير العقول في علم قواعد الأصول
ثقافة

ناصر بن جاعد وكتابه المهم «الإخلاص بنور العلم»

11 يونيو 2022
أضاميم
11 يونيو 2022

ينساب الحديث عن الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي (1778 – 1847م) لاعتبارات كثيرة، فهو فقيه وأديب لغوي، وسُلوكي متصَوِّف، وله في هذه المجالات مؤلفات نفيسة، تؤكد على مِكنتِه في هذه العلوم وسعة اطلاعه، من بينها كتابه «الإخلاص بنور العِلم والخَلاص من الظُّلم»، الذي صدر قبل ثلاثة أعوام في مسقط، بتحقيق إبراهيم بن يحيى العبري، ضمن متطلبات رسالة أكاديمية تقدَّم بها لنيل الماجستير.

عرف الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي، أنه متضلِّع في علوم اللغة، ويمتلك حسَّا أدبيا وفهما في معاني الشعر، وقدرة على شرح النظم، ظهر ذلك في شرحه النفيس: «إيضاح نظم السلوك إلى حضرات مالك الملوك»، لتائيتي ابن الفارض الكبرى والصغرى، صدر الكتاب بتقديم وتحقيق د. وليد محمود خالص، عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2011م، كما ظهر اهتمامه بعلوم المنطق والبلاغة العربية في كتابه: «فلك الأنوار ومحك الأشعار»، الصادر في طبعته الأولى عن وزارة التراث والثقافة 2020م، بتحقيق: أ.د. عبدالمجيد بنجلالي، وأ. محمد بن علي الهنائي، وإليه يشير العبري بقوله: (وهو من كتب الفلسفة في موضوع المنطق)، لكنه ليس كله كذلك، إنما الباب الثاني فقط، وبقية أبواب الكتاب في علوم البلاغة العربية، وله أيضا موسوعة «العلم المبين وحق اليقين»، طبع منها كتاب «تنوير العقول في علم قواعد الأصول»، صدر عن ذاكرة 2019م، بتحقيق: فهد بن عامر السعيدي، ومحمود بن محمد الذهلي وسالم بن صالح العزري، وأعمال أخرى تؤكد على مِكنة الشيخ ناصر العِلميَّة، وله خبرة في علوم النبات، كما في كتابه «السر الجَلي في خواص النبات بالتدبير السَّواحلي»، وما يزال الكتاب مخطوطا، وقرأت في بعض المُصوَّرات أن له كتابا بعنوان: «سِراجُ الآفاق في علم الأوفاق»، وغيرها من المؤلفات.

وفي هذه الإضمامة أختص بالحديث عن كتاب «الإخلاص»، فهو إحدى الارتباطات المعرفية بين الشيخ المؤلف ناصر بن جاعد رحمه الله، ومحقق الكتاب إبراهيم العبري، الذي ينام في المستشفى، وقد أهدى محقق الكتاب إلى: (من يطلب العلم لله، ويعلِّمه لوجه الله، وإلى من يسعى في الأرض إصلاح ابتغاء مرضاة الله)، فله من محبي العلم الدعاء بالعافية، وأن يعود إلى حقل البحث كما كان، فقد أضاء بتحقيقه لكتاب «الإخلاص» جوانب من حياة الشيخ ناصر بن جاعد، وقدَّم فيه مِهاد عن حياته، ومؤلفاته، كما قدَّم غيره لكتب الشيخ المطبوعة، والدراسات التي كُتبَت فيه، كدراسة الباحث سلطان بن عبيد الحجري، الصادرة بعنوان: «الشيخ ناصر بن أبي نبهان الخروصي وآراؤه العقدية»، 2010م.

ولد الشيخ ناصر بن جاعد في قرية «العِليا»، الواقعة في أطراف «وادي بني خروص»، بولاية «العوابي» عام 1192هـ/ 1778م، وعاش فيها إلى سن 46 سنة، (متمتع بعيشة هنيَّة وحياة سَويَّة، ذا وفرة في المال، وجاه في الحال)، حتى ساء الحال بسبب طغيان والي الرُّستاق: طالب بن الإمام أحمد بن سعيد، على أسرة أبي نبهان الخروصي، (وقتل أخوه نبهان بن جاعد في سنة 1236هـ، قبل وفاة والده بسنة واحدة)، وبعد وفاة والده انتقل الشيخ ناصر إلى «نزوى»، وأقام فيها سنتين بين عامي (1238-1240هـ)، في موضع يسمى: «الجَمَّى» في علاية نزوى، ولكنه عاش في ضنك من العيش، يظهر ذلك من بيته الشعري القائل: (مَعيشَتنا خُبزٌ لغالِبِ قوتِنا.. ومَاءٌ وليمُونٌ وملحٌ وقاشِعُ)، ومع ذلك أنجز فيها شرحه المهم لتائيتي ابن الفارض، ثم توجه إلى مسقط، وفيها يلقى الرِّعاية والتقدير من السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي، ويمكث فيها أربع سنوات: (كتب السلطان سعيد إلى الشيخ ناصر، يطلب منه الوصول إليه في مسقط، فلما وصل حيَّاه وكرَّمه وكسَاه، وجعل له فريضة معلومة، وبيوت مستورة، وتزوَّج له من أحسن نساء أهل زمانه)، الإخلاص، ص81. ثم هاجر إلى زنجبار، ليقيم فيها بقية عمره حتى وفاته في عام (1262هـ/ 1846م) رحمه الله، ودفن في موضع («متوني» بزنجبار، على يمين المغادر للمدينة، وقبره مشهور هناك)، الإخلاص، ص85.

أما عن ثقافته وسعة اطلاعه، فتكشف عنه تلمذته على يد كبار الفقهاء الذين ظهروا في تلك الفترة، في طليعتهم والده أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي (ت: 1237هـ/ 1822م)، والذي ملأ ذكره الآفاق العُمانية، وكان في أغلب الأحوال ملازم له، ويسرد لنا محقق الكتاب إبراهيم العبري، قائمة بأسماء الفقهاء، من المحتمل أن يكون قد استفاد من تجربتهم، منهم: العلامة سعيد بن أحمد الكندي، صاحب «التفسير المُيَسَّر للقرآن الكريم»، والفقيه محمد بن خميس البوسعيدي، (له سيرة في الأبْدَال وصِفاتهم وسيرتهم، أوردها الشيخ موسى بن عيسى البشري في كتابه «مكنون الخزائن»): فهد السَّعدي، معجم الفقهاء والمتكلمين، ومن أشياخه كذلك الشاعر أبو الأحوال سالم بن محمد الدرمكي، وعاصر كوكبة من الفقهاء والأدباء من بينهم: الفقيه سالم بن سعيد الصايغي صاحب أرجوزة «دلالة الحيران»، وجُميِّل بن خميس السَّعدي صاحب «قاموس الشريعة»، وذو الغبراء خميس بن راشد العبري صاحب «شفاء القلوب من داء الكروب»، والمؤرخ ابن رزيق صاحب المؤلفات الكثيرة.

في هذه الأرضية الخصبة نشأ الشيخ ناصر بن جاعد، وِرغم التنقل من «العليا» إلى «نزوى»، ثم إلى «مسقط»، ليحط هذه الطائر القلق في «زنجبار»، رغم هذا الشقاء في الترحال، وبسببه يفقد الكثير من كتبه، إلا أنه أنتج مؤلفات كثيرة، هي اليوم بين مفقود ومخطوط ومطبوع.

وبالعودة إلى كتابه: «الإخلاص بنور العلم والخلاص من الظلم»، نلمح في العنوان هذه الثنائية المُتشابهة والمُتناقضة، بين: الإخلاص والخَلاص، وبين العِلم والظُّلم، فما هي الرسالة التي يريد أن يُمررها الشيخ ناصر لقارئ كتابه من خلال العنوان؟ وأي ظلم يُعنيه؟، هل يريد به ظلم الجهل أي ظلامُه، وهو نقيض العِلم، أم هي إشارة صَريحَة عن الظُّلم الذي لحق بأسرة أبي نبهان، من الجور والطغيان، حتى أنَّ النخيل لم تسلم منه؟!

هناك إشارة أوردها محقق الكتاب، يقول فيها: (بعد وفاة والده، استمرت مناوشات هذا الوالي- طالب بن الإمام أحمد بن سعيد والي الرستاق-، له ولأخوته، مما دفعه للانتقال إلى مدينة نزوى، بعد أن دُمِّرَتْ بُيُوتُهم، وخُشِيَتْ – قُطِّعَتْ – أموالُهم)، وإذ فالعنوان يَشِي عن ظلم فعلي وحقيقي، وبين الإخلاص والخلاص يأتي الدور الذي لا يجيده أحد سوى الشيخ ناصر، دور العالم المتبحِّر والمُفكر العَميق، والسُّلوكي الذي يكاد يبصِر ببصِيرته، ما لا تبصره عيون غيره، فالظلم سببه الجهل، والإخلاص في العلم سبب موصِّل إلى الخَلاص من الظلم الذي لحق به، وجعله يخرج من قريته الأم، حتى بلغ زنجبار.

والمتتبع لمنهج الشيخ ناصر في تأليف الكُتُب، يجد أن مؤلفاته تضم ملفات تختلف عن عنوان الكتاب، ويبدو أن محققي كتاب «العلم المبين وحق اليقين» انتبهوا لها، فاستلوا منها كتاب «تنوير العقول من علم قواعد الأصول»، وهو السِّفْر الثالث من تلك الموسوعة، طبع منفصِل.

ويضم كتابه «فلك الأنوار» فصل مستقل بعلم المنطق: مأخوذ من «إيساغوجي» في علم المنطق، للمُفضل بن عمر الأبهري، ونظم لمتن «إيساغوجي» لأبي الفتح بن محمد المالكي التونسي، وشرح لنظم متن «إيساغوجي»، لأحد المنطقيين، ثم تأتي بعد ذلك فصول في البلاغة العربية، مستفيد من كتاب «تلخيص المفتاح» للقزويني، وفي علم البيان مستفيد من كتاب «المَثل السَّائر في أدب الكاتب والشاعر» لابن الأثير، وفصل في علم البديع، مستفيد من كتاب «خزانة الأدب» لابن حُجَّة الحَمَوي.

وفي كتاب «الإخلاص»، نلحظ هذا التداخل والتباين بين فصول الكتاب، إذ يتضمن شروحات لقصائد والده الشيخ جاعد بن خميس: مقاطع من قصيدة «حَياة المُهَج» البائية، وأخرى من قصائده اللاميَّة والسينيَّة وغيرها، في الفصل الذي حمل عنوان: «في تجريد النفس وتقديسها بنور العلم ونور الإيمان». ومجمل القول: إن كتاب الإخلاص شكل من أشكال التأليف الخاص بالسُّلوك الصُّوفي، فكل جملة يكتبها المؤلف، تعبِّر عن نزعة صُوفية وسُمُو روحي.

ولقد بذل المحقق إبراهيم العبري جهد في كتابته للمهاد حول عصر الشيخ ناصر بن جاعد وحياته ومنهجه، ثم تحقيقه لنص الكتاب، مع الإشارة إلى مصادر المؤلف، والتعريف ببعض المصطلحات التي وردت في المتن، والتعريف بالأعلام، وتخريج الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ومع هذا لاحظت أخطاءً في تشكيله للأبيات الشِّعرية، لقصائد الشيخ جاعد الواردة في الكتاب، فأشكل عليَّ قراءتها، وحين عدت إلى ديوان «نفائس العِقيان»، استطعت أن أقرأ الأبيات صحيحة كما نظمها المؤلف، لا بالأخطاء التي وردت في كتاب الإخلاص.

ومما يجدر الحديث عنه أن الشيخ ناصر بن جاعد تفرَّد بكتابة لمحات من سيرته الذاتية، تحدث فيها عن حياته في قريته العليا ونزوحه إلى العَوابي، وسكنه في نزوى، استفاد من تفاصيلها نورالدين السالمي في الفصل المتعلق بذكر «ولاية طالب بن الإمام أحمد على الرستاق»، في كتابه «تحفة الأعيان»، سيرة أدبية شيِّقة جديرة بالتحقيق والطباعة، لربما تكون له الريادة في هذا المجال.

شرح الصور:

1 - غلاف: الإخلاص بنور العلم.

2 - غلاف: فلك الأنوار.

3 - غلاف: أنوار العقول.

4 - غلاف: إيضاح نظم السلوك.