رمضان جانا
يمثل شهر رمضان مظهرا من أبرز مظاهر الثقافة الإسلامية العربية الأصيلة والعميقة في التكوين الاجتماعي والإنساني إن لم يكن أبرزها على الإطلاق، فهو يعكس خصوصية الثقافة الإسلامية بشكل فريد ومميز في كل شيء من الأكل والشرب حتى الاتصال والتواصل لشهر كامل، مما يميّز روح الثقافة العربية الإسلامية وهويتها الثقافية بشكل خاص.
ولذلك فإنه من الجميل والضروري الاحتفاء بتلك الخصوصية الثقافية وتجلياتها الاجتماعية والإنسانية، بل والتشبث بها كهوية خاصة للفرح، فالمناسبات والاحتفالات والمهرجانات هي التي تميز الشعوب وتحدد هويتها، ولذا تحرص الشعوب على ممارستها واستمراريتها لتظل هوية راسخة للإنسان والمكان، ولتشكّل خصوصية ثقافية مميزة تعرف بها وتتناقل وتحفظ عبر الأجيال والأزمان.
أما نحن وفي زمن الوهن الحضاري والتراجع الإنساني الذي نعيش فيه، زمن الحروب الباردة والساخنة، زمن الحراب الموجهة نحونا من الداخل والخارج، زمن المسوخ وزعزعة الثوابت وتماهي الهويات، وتنافس الثقافات، نحتاج بشكل حقيقي وأكثر من أي وقت مضى للتشبث بمفردات هويتنا الثقافية الإسلامية وجمالياتها، والتفاخر بروحها وخصوصيتها خارج أي نقد لتكلّس الأيدولوجيات الدينية. بل علينا العمل بوعي وببطء على تحويل الدين إلى ثقافة روحية واجتماعية إنسانية أولا وأخيرا تحتفي بالصفاء الروحي والنقاء الإنساني والاتحاد مع روح الكون والاتصال مع الخالق القريب الأعلى اتصال الأقل بالأكثر والأصغر بالأكبر، كما تحتفي بالجمال والفرح والصدق والخلق الرفيع، وتنشرها في العالم كهوية خاصة بها، بعيدا عن الوصاية الدينية وضرورة اعتناق الدين والفكر الوعظي.
إن البعد الثقافي للإسلام يشمل كل ما يتعلق بنا بدءا من وعينا الوجودي وليس نهاية بتجلياتنا في المكان وتمظهرات حضورنا البسيطة فيه من عادات وتقاليد كاللباس والطعام وطقوس الأفراح والأحزان، ولذا علينا التشبث بها كهوية تميزنا عن غيرنا وتحول بيننا وبين التماهي في الآخر بطغيان حضوره وقدرته ورغبته في امتصاص الآخر الأضعف وتحويله لظل له ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ويمثل رمضان تحديدا أبرز تجليات هذه الهوية الإسلامية وأهم سيماها الداخلية كالصيام والعبادة والخشوع والسكينة والصمت والسلام والبعد عن كل ما هو ضد فعل الصوم الطهراني من خشونة ورعونة وعنف، وفي تمظهراتها الخارجية في اللون، حيث تطغى ألوان الزهد والتقشف صباحا كالأبيض والأسود والأخضر في أحادية وسكينة، وألوان الفرح والاحتفاء مساء كالأحمر والتمازج اللوني والتعددية، وسيمائية الصوت في بروز صوت الأذان والإنشاد والتلاوات والصلوات كالتراويح والتهجد.
إن رمضان هو أكبر تجلي لروحانية الثقافة الإسلامية وأبعادها الصوفية والإنسانية والأخلاقية وعلينا الاحتفاء بهذا البعد الخاص وبثه كتجلٍ واضح وجلي للمكون الأهم لثقافتنا العربية والإسلامية ألا وهو المكون الروحي العميق، لجلاء صورة الثقافة الإسلامية وتخليصها من شوائب المادية وعلائق الأرضية وثوابت الطقسية التي يصر البعض عليها، والتي تصدر للعالم صورة مغايرة عن الثقافة الإسلامية تمثل التطرف والكراهية والانغلاق وهذا ما ليس منها.
كما أن فكرة الصوم في رمضان هي فكرة عميقة ورفيعة وأبعد وأعمق ما تكون عن سذاجة وسطحية الامتناع عن الطعام والشراب فقط، فهي فكرة ترقية الروح، وترويض النفس وتهذيبها والتحكم في نزعاتها وشهواتها وإلزامها الوعي والتأمل والتدبر.
إن فكرة الصوم تتضمن خذلان الجسد لصالح الروح، وتحييده لصالح العقل، بتعويد النفس الكف عن مؤقتات اللذة كالطعام والشراب وديمومة المحرمات والمؤذيات كالظلم والغيبة والحقد والحسد والكراهية والعنصرية والحماقة وكل أنواع الشرور واﻵثام، والسعي في مدارج التنبه والتفكير في أوجاع اﻵخر من خلال حرمان الذات.
وبهذا فالصوم تنقية وشحن وتهذيب وصحة للروح والجسد والعقل (وللعلم في هذا كلام كثير)، وهو درس عميق وجارح لا تستبينه إلا اﻷرواح التي تجيد قراءة رسائل السماء في ضوء مرايا الإنسان وتطبقه في تفاصيل ومفاصل الحياة بالعطاء، من البسمة حتى المال، ومن التقدير حتى الرحمة، ومن الكف عن الضرر حتى لمس حاجات اﻵخر، ومن روح الجماعة حتى وعي الفرد، ولذا كان "صوموا تصحوا" روحا وجسدا وعقلا وإنسانية.
كما أن الصيام عبادة خاصة بين العبد وربه حيث لا يستطيع أحد كشف حقيقتها وصدقها إلا الله، ولذا اختصها الرب بالجزاء والثواب، ولكن ما يحدث الآن هو عكس كل تلك الخصوصية، إذ تجد النفاق هو أبرز ما يسبغ الثقافة الجمعية في رمضان، فالجميع يحرص على إظهار عباداته وتقربه وورعه وتقواه أمام الجمع، فيجاهرون بالصدقات والتدين الحقيقي منه والزائف، وكأنهم بذلك يناقضون أنفسهم ويعيبون أعمالهم خارج رمضان، أو لكأنهم لا يعبدون الله إلا في رمضان، فمثلا تحرص النساء على البعد عن الزينة في أقل مظاهرها وأبسطها مما يحفظ لها جمالها ويبعدها عن البشاعة والقبح، الحالة التي تعكس حالة من النفاق بين ما يفعلن خارج رمضان وفيه، وهناك رهاب الرجال من النظر للمرأة التي تتحول بقدرة قادر لعورة مهما كانت محتشمة، وربما كان خارج رمضان يجلس معها ويتحدثان مطولا بينما يخاف الفتنة في رمضان في تناقض بشع. أما الطعام الذي يملأ الموائد ليصبح رمضان شهر طعام وليس شهر صيام وربما أصبح مكايدة للفقير أكثر من الإحساس به وتقدير جوعه فهو أبشع مظاهر النفاق وأوضح مظاهر الإسراف. أما القنوات التلفزيونية فحدث عنها ولا حرج، فبين تحوّل الإعلام لحالة من الوعظ الممل والمستهلك، في تنافس شديد بينها، وبين سباقات الدراما والبرامج التلفزيونية فِصام اجتماعي ونفاق جمعي لا يعرف سببه ولا يمكن فهم مغازيه وأبعاده غير المادية أبدا، تماما مثل حمى التسوق، وفوضى الزحام الليلي، والسبات النهاري الذي يحول الشهر لسوق ليلي كبير وبوفيه واسع للأكل والتسوق. أما الحيرة الحقيقية والمستهجن فعلا فهي في غلق المطاعم والكافيهات في رمضان مع أنه لا توجد دولة عربية أو مسلمة يعيش فيها المسلمون فقط، ففي كل البلدان العربية والمسلمة الكثير من غير المسلمين أو غير الصائمين، أو من الفاطرين بعذر كالمسافرين والمرضى، وقد يشكلون نسبة سكانية توازي السكان الأصليين أو تزيد عليهم في بعض الدول كدول الخليج مثلا، ناهيك عن فكرة أن رمضان عبادة خاصة بين العبد وربه وأن من لا يريد الصوم لن تمنعه أي قوانين.
إن شهر رمضان بثقافته الإسلامية يحتاج لوعي عميق بقيمه الروحية ويحتاج لمؤسسات تشتغل على صناعة هذا الوعي الجمعي، وغربلته من القيم الاستهلاكية المادية، ليصالح الإنسان العربي بين متطلباته المادة وحاجاته الروحية ويترسخ (رمضان) كمكون ثقافي إسلامي يمثل هوية خاصة يُتشبث بها أصحابها ويعتزون بقيمها الخاصة ويحتفون بها كل عام.
