مقامات.. هل سنعود كما كنا؟!

13 مارس 2022
13 مارس 2022

دون فخر أو خجل ذهبت لمعرض الكتاب لمرة واحدة فقط هذا العام؛ فلقد جاء المعرض في ظروف صعبة وكنا للتو قد خرجنا من نفق كورونا اللعين بعد أن عاث في أجسادنا هدما ووجعا؛ بل كنت وما أزال أعاني ارتباكا جسديا ونفسيا بسببه.

كان المعرض هادئا ـ كي لا أقول خافتا أو باهتا ـ هذا العام بشهادة الحضور ودور النشر معا رغم جماليات التنظيم، وكثرة الفعاليات، وحفلات التوقيع، الأمر الذي يفرض علينا كزوار للمعرض وكقراء وكمتأملين للوضع الكوني الذي نحن جزء منه؛ أن نتساءل لماذا؟ هل ذهب زمن الورق أم إنه تأثير كورونا الذي عودنا على العزلة والصمت والـ(عن بعد) والانحياز للدوائر الأقرب، وللبيت والصمت وعدم الذهاب أبعد مما يجب لأن الشر يكمن هناك؟

لا يمكن الإجابة بقطعية على هذا السؤال، ولكن أظن أن الإجابة نسبيا معروفة للجميع، فلقد غربتنا كورونا عن عالمنا الكبير الذي نعرف، عن السفر والأصدقاء والمعارض والمقاهي والمكتبات والنوادي والمراكز الثقافية ودور السينما بل وحتى عن المطاعم والمراكز التجارية وغيرها مما يمثل احتياجات إنسانية مباشرة وملحة، لنقل غربتنا عن كل شيء خارجنا، وأرعبتنا من الدوائر التي كنا نعيش فيها ببساطة ويسر، وأننا بتنا نحتاج إلى زمن طويل لنعود لحيواتنا الطبيعية أو ما كنا نعتقد أنها طبيعية، هذا إذا استطعنا العودة فعلا!

إن الكسر الذي حدث في الحياة أخذها لوضع جديد تماما، والخوف والموت الذي أمسك بزمام الأرواح والأفئدة ما زال يسيطر على حياة الإنسان أكثر مما يتخيل هو نفسه، لقد ابتعد البشر عن الكثير مما كان مألوفا لديهم، وتناسوا الكثير مما كان لا يخطر على بالهم الابتعاد عنه قيد أنملة، وربوا عادات نقضت عاداتهم السابقة، واستبدلوا حيواتهم بحيوات جديدة تماما، وأصبحت الحياة الأثيرية أقرب وأكثر سهولة ويسرا، وترسّخت العزلة في الروح حتى أضحت ألطف وأنسب، والوحدة أو الجمع القليل صار أولى من الحالة الاجتماعية المتعددة والواسعة، ولقد انحسرت فكرة الجمعية لتحل محلها فكرة الفردية، أو «»القلة الهائلة".

ومن هنا أصبح الكتاب الذي يمكن أن نقرأه عبر كندل أو حتى نطلبه أون لاين أفضل من مزاحمة الحشود في معرض الكتاب، والمحاضرات والورش الأون لاين عبر الهاتف مباشرة أفضل من الذهاب للمراكز الثقافية والجامعات، والتسوق الأون لاين أسهل وأوفر من الزحام في المولات والمراكز التجارية، ونت فليكس بديل أسهل لقاعات السينما، وأكواب القهوة الورقية والمشي على شاطئ البحر أفضل من جلسات المقاهي الداخلية، وغيرها الكثير مما كنا نألف ونحب تغير بقوة وخفة وربما لغير رجعة، وأصبح الأمان في البعد أو كما يقول المثل العماني صار (البعد غنيمة).

وفي دراسة خرجت من مستشفى جامعة السلطان قابوس تحذر من تنامي الرهاب الاجتماعي، وهو ما بات الجميع يلمسه اليوم بقوة ووضوح، وربما لمسه البعض في شخص أو أكثر ضمن دوائرهم الخاصة، وهو ما نعيشه فعليا مع طلابنا الذين ركنوا للعزلة واستعذبوا التعليم عن بعد، ولو خيروا بين العودة والتعليم الأون لاين لما اختارت الأكثرية منهم قاعات المحاضرات ولأصروا على التعليم الأثيري ليكون خيارا مستقبليا أجمل بالنسبة للكثيرين منهم؛ بل أصبح الكثيرون يميلون للبس الكمامة في كل وقت حتى دون الحاجة إليها، وحتى بعد الفسح الممنوحة للأماكن المفتوحة ما زال الكثيرون يفضلون لبسها في كل مكان.

لقد سرّع كورونا ما سعت له الرأسمالية من تأطير الإنسان وحجزه في زوايا حادة، وفي مساحات ضيقة، ونفيه في عزلة عن الحياة والناس والمجتمع وحصره في تشكيلات اجتماعية ضيقة جدا، إذا لم يكن في ذاته فقط للاهتمام بما يوفر لها الراحة والأمان والحاجات الأساسية.

ولذا فلا عجب أن يصبح الورق بعد كورونا وفي زمن الميديا والوسائل المتعددة زائدا يمكن التخلي عنه بسهولة، وبأوسع البدائل وأكثر الوسائل تعددية، كما يمكننا التنبؤ وبلا حذر وفير بقرب اختفاء الكثير من المؤسسات ومنها الثقافية كالمكتبات والنوادي وقاعات السينما والكثير من المتاجر والمراكز التجارية واستبدالها بمواقع إلكترونية كبدائل أرخص قيمة، وأسرع حضورا وأكثر توفيرا للوقت والجهد، وحصر الحياة بأكملها في جهاز صغير يقبع في جيب بالقرب من القلب تماما، والاستغناء عن معظم الحيوات الاجتماعية بحيوات رقمية كاستبدال أصدقاء الحياة بأصدقاء مواقع التواصل الاجتماعي والمتابعين لتصبح «اللايك» مؤثرة أكثر من أي شيء آخر كالكلمة والفن والجمال، وكلما كثر عدد متابعيك كثر عدد أصدقائك وإن كنت مبدعا أو عارضا لخدمة كثرت مبيعاتك، وعظم اهتمام الناس بما تنتج، إنها حالة جنونية أكثر مما نستطيع أن نفهم، ولكنها الحياة البديلة التي فرضها العصر والظرف والفيروس والميديا، وأصبح لا غنى عنها ولا مناص من التأقلم معها، مع محاولات الفهم والاستقراء للحصول على أكبر قدر من الفائدة وأقل قدر من الخسارة.

نعم فبعد عزلة جبرية لما يقارب الثلاث سنوات ندرك اليوم أنها رسخت في أرواحنا عميقا، وفي تفاصيلنا كثيرا وأننا فعليا ما زلنا نعيشها بشكل أو بآخر، وربما نأنس لها ونفضلها عما كان من حال، وهنا علينا أن نسأل أنفسنا سؤالا عميقا وجادا هل سنعود؟! وهو ما يتطلب مواجهة النفس بعمق لنرى تأثير هذه الأزمة نفسيا واجتماعيا على كل فرد منا، وأن ينظر كل منا في مراياه الداخلية بهدوء تام، ليحصي الشقوق والتصدعات؛ بغية كشف الجرح لتطهيره والوقوف على عمق المشكلة لفهمها، وفي الأخير نحتكم للمصلحة والقيمة وللوعي بحقيقة الوجود ودورنا فيه، وغايتنا منه.. هل سنعود كما كنا قبل كورونا «كائن اجتماعي بطبعه» أم أن الحياة لن تعود كما كانت أبدا، وأننا دخلنا في مفترق تاريخي إنساني، وبعثنا في ولادة كونية/ إنسانية جديدة قوامها العزلة، وحراكها الرقمية.. سؤال ربما لا ينتظر إجابة شافية ووافية، وقد تأتي الإجابة عليه متأخرة؛ فنحن سنعيش ما يسأل عنه وسنرى الإجابة حقيقة وواقعا في تفاصيل الحياة وسنتحرك معها ومع نتائجها الجديدة، وستتحور حيواتنا بشكل جديد بين الفترة والأخرى قريبا أو بعيدا عن أشكالها السابقة تماما كما تفعل الفيروسات ومنها كورونا.