جامعات ما بعد كوفيد 19

18 ديسمبر 2021
18 ديسمبر 2021

في رؤيتي لا تشكل جائحة كورونا «كوفيد 19» مجرد منعطف صحي - اقتصادي أو «أزمة» تستدعي الاستجابة الظرفية والآنية بأدوات سياسية - اقتصادية - صحية بل تتعدى ذلك كونها تطرح أسئلة على قدرة تكيف الكائن الاجتماعي ومدى استيعابه للتحولات والمتغيرات التي تتأتى بها المخاطر العابرة للحدود وقدرته على رد الفعل الواعي إزاءها. رد الفعل الذي لا يدفع بالضرورة إلى حالة (الانعزالية المطلقة) عن سيرورة العالم وفي نفس الوقت يصنع من الفرد كائنًا وثابًا مع المتغيرات يبتكر معها أدوات الاستجابة المعقولة ويسخرها في سبيل بناء أدوات تعلمه وتجويد معطيات عيشه وتحسين منظاره الذاتي في رؤية المستقبل المحفوف بالمخاطر مثلما هو محفوف بالفرص.

يدفعنا ذلك للوقوف على أدوار المؤسسات الاجتماعية التي يمكن أن تساهم في إمداد الكائن الاجتماعي بهذه المرونة، ونركز اليوم على دور الجامعات ما بعد الجائحة بوصفها إحدى المؤسسات المركزية التي لا تقتصر على إعداد الطلبة فحسب بل تساهم عبر البحث العلمي والابتكار في خلق الحلول المستديمة لتكيف المجتمعات الإنسانية وتساهم عبر تسخير بنائها الاجتماعي من الداخل والعمليات الاجتماعية الرئيسة التي تجري في محيطها من تفاعل الطلبة وهيئات التدريس والإدارات والعلاقات (الاجتماع - أكاديمية) ودور النشاط اللاصفي والتبادلات الاجتماعية والاحتكاك بأنشطة خدمة المجتمع في تجسيد الطالب الذي تحوزه 3 خصائص رئيسية في مجتمعات المخاطر والفرص وهي في تقديرنا (الاستيعاب - المرونة - التكيف). فمهمة الجامعة حسبما يختصرها جي بولتون هي أن «الجامعات تولد مجموعة متنوعة من المخرجات. في البحث، يخلقون إمكانيات جديدة؛ وفي التدريس، فإنهم يشكلون أشخاصًا جدد».

في محاضرة نشرتها عبر المجلة الفنلندية لعلم الاجتماع بعنوان «دور الجامعة في عشرينات القرن الحادي والعشرين» تقول مويرا فون رايت: إن على الجامعات أن تتنبه اليوم إلى 3 مهمات أساسية وتعيد تشكيل أدوارها حول هذه المهمات وهي: « مهمة أن يكون لها تأثير على المجتمع والبيئة من خلال المعرفة والتعليم، ومهمة إجراء بحوث مستقلة وعدم تجنب المسارات غير المتوقعة والحقائق المزعجة ومهمة المساهمة في البيئة العمرانية وفرص الازدهار للمناطق والمدن التي تقع فيها الجامعة». وتشدد رايت على ضرورة أن تبني الجامعات أفقًا جديدًا مع الاتصال مع محيطها الحضري والثقافي عبر الانفتاح عليه بالدرس والاستدماج وطرح حلول الاستدامة لبيئته الحضرية والثقافية.

قد يكون من غير المستجد الحديث عن ضرورة إيجاد مقاربات (إجرائية - تكييفية) لدور الجامعات ما بعد الجائحة عبر القول بضرورة إيجاد أنماط من التعلم الهجين (عن بعد - حضوري) والدفع بالجامعات إلى الاهتمام ببرامج الابتكار والشراكة مع القطاع الصناعي بشكل فاعل عوضًا عن التحول الرقمي في تعاملاتها وفصولها ومهماتها التدريسية والبحثية والإدارية بالإضافة إلى استدماج فكرة فصول المستقبل والتعلم العابر للحدود بالنسبة للطلبة غير المحليين وغيرها من الإجراءات التي تسهم في حلحلة التحديات التي فرضتها الجائحة وقد تفرضها مخاطر أخرى مستقبلًا. لكن يبقى السؤال الرئيسي في نظرنا هو ما هو الأساس الفكري (البراديغم) الذي يمكن أن تنطلق منه الجامعات في بناء كل ذلك أو بمعنى آخر ما طبيعة الكائن المتعلم الذي يجب أن تصوغه وتتعامل معه وتؤطره بوصفه مُخرجًا من مخرجات التعلم ما بعد الجائحة. ولعلنا نختصر ذلك في 3 أنماط رئيسة:

- إنتاج الفرد الاجتماعي المستوعب لمجتمع المخاطر والفرص

- إنتاج الفرد الاجتماعي المرن إزاء مجتمع المخاطر والفرص

- إنتاج الفرد الاجتماعي المتكيف مع مجتمع المخاطر والفرص

إنني أقرن هنا مقولة مجتمع المخاطر التي جاء بها عالم الاجتماع الألماني «أولريش بيك» بمجتمع الفرص، فكل مخاطر هو معبر عن فرصة متى ما استوعبت «الكائنات الاجتماعية / الأفراد» ذلك. يمكن أن ترسخ الجامعات هذه السمة عبر مقرراتها وأبحاثها وعملياتها في خدمة المجتمع وتصميم أنشطتها اللاصفية وتصميم مختبراتها المفتوحة على الفضاء الحضري. لا يمكن أن يدرس الطلبة اليوم علم الاقتصاد مثلًا وفق رؤى نظرية مجردة أو استداعات تطبيقية تستحضر أزمات الاقتصاد التاريخية وحدها. هناك سلسلة معقدة من التأثيرات للجوائح الصحية ومخاطر التغير المناخي وتداعيات الأمن الإقليمي والاضطرابات المجتمعية وغيرها من الممكن أن تؤثر على مسار نظرية الاقتصاد وفروعها يجب أن يهيئ الطلاب لدراستها واستيعابها وتفهم سيناريوهات المستقبل ليس فقط على مستوى المعرفة النظرية وإنما على مستوى السلوك المتوجب منهم كأفراد ضمن منظومة المجتمع وضمن منظومة الاستجابة الكلية للمخاطر واقتناص الفرص. على الجانب الآخر فإن الرهان في تقديرنا هو في إنتاج البحوث البينية أو البحوث العابرة للتخصصات interdisciplinarity وتوجيه برامج تمويل البحث العلمي والمنح البحثية بشكل موسع لهذه الأشكال من المشاريع البحثية وقرن التمويل بمنح مصغرة لاستكمال الدراسة في التخصصات الموازية على مستوى الماجستير والدكتواره في ما يعرف بعبور التخصصات وهي الحالة التي تمكن الدارس -حسبما يرى رجا بهلول- «من استحضار التخصصات المناسبة لدراسة سؤال معين كل منها على حده تاركًا المجال لكل واحد منها لإلقاء الضوء على موضوع الدراسة من خلال المفاهيم والنظريات والمناهج الخاصة به». وعلى الجانب الآخر فإن إنتاج الفرد الاجتماعي ما بعد الجائحة بخصائصه التي تحدثنا عنها أعلاه يجب أن يكون من خلال ألا تكون الجامعة مؤسسة نخبوية معزولة عن مقاربات مجتمعها وعن القياسات الثقافية التي يتكئ عليها تاريخ وبنية وثقافة المجتمع. فالكثير من آليات التكيف والعلاجات والتدبيرات للأزمات والمحن غالبًا ما تكون من صنع المجتمع تحت ظروف العيش واحتياجات المعايشة التي تفرضها الأزمات ويبقى الدور على الجامعات كيف تحول المعرفة الشعبية (الاجتماعية) إلى معرفة (علمية) عبر التصفية والاختبار والقياس والنقد وإعادة التشكيل والربط والبناء.

ماذا عن الطرف الآخر في معادلة التعلم الجامعي (المدرس الأكاديمي) وما هي السمات التي يجب أن يحوزها في خضم كل هذه التحولات؟ يجيب د.سهيل دياب في دراسة بعنوان: «المدرس الجامعي في ضوء تحديات القرن الحادي والعشرين» حول ذلك بالخلوص إلى أن أهم الأدوار المتوقعة للمدرس الجامعي هو دوره كمجدد في أساليبه يسعى لإحداث التغيير والتطوير بما يساعد الطلبة على الإبداع والابتكار ودوره كرائد اجتماعي يحرص على نقل ثقافة المجتمع لطلابه. وفي تقديرنا فإن الجائحة بقدر ما أتاحت من ضرورات لمراجعة نظم التعليم في إطارها (الإجرائي) بقدر ما طرحت من أسئلة حول ماهية التعليم وغائيته والشاكلة التي نريد عليه مخرجه البشري ومؤداه.