للفناء وجوه أخرى

16 أكتوبر 2021
16 أكتوبر 2021

في روايته المغايرة «انقطاعات الموت» يصل البرتغالي جوزيه ساراماجو إلى أن الموت هذا العالم المجهول والموحش والحدث الطبيعي الذي نخافه ولم يرجع منه أحد ليخبرنا كيف هو؟ وماذا يحصلُ فيه هو حدث يجب علينا تقبله لأن له وجوها وجوانب إيجابية لا ندركها إلا في مرحلة متأخرة من العُمر ربما لأن الحياة عندما يصل الإنسان هذه المرحلة تكون قد فقدت طعمها المادي والمعنوي.

في الرواية التي تدور أحداثها في دولة غير محددة يختفي الموت فجأة ويتم الإعلان عن ذلك بصورة رسمية وتعم حالة مؤقتة من الفرح لكن استمرار اختفائه يوجِدُ لاحقًا حالة من الرعب والهلع بعد أن اكتظت المستشفيات بالمرضى والمسنين وأصحاب الإعاقات وبعد أن تعرضت العديد من المهن والقطاعات الاقتصادية للخسائر الطائلة والإفلاس خاصة شركات التأمين على الحياة وشركات نقل الجنائز.

بحسب ساراماجو الإنسان عادة ما يكون غير مهيئ لتقبل حالة الموت وهو «القادم لا محالة» في سنوات شبابه ربما بسبب إقبال الحياة بمُتعها اللامحدودة وحيث البحث عن المغامرات بشغف يحجب رؤية اقترابه بيد أن ذلك يصبح متقبلًا بل مُرحبًا به في أحايين كثيرة عندما يهرم الإنسان وينتكس وتتداعى رغباته وتتبدد ولهذا السبب تبحث كثير من العوائل ـ في الرواية ـ عن شركات هي لا ريب تتاجر بحياة الإنسان وتستغل ظرفه لتقوم بأخذ مرضاها خارج الحدود ليحصلوا هناك على الموت الذي ما زال مستمرًا يمارس مهمته الأزلية بصورة طبيعية.

كحدث معتاد ومُسلمُ به يبعث ذكرُ الموت وليس حضوره حتى على الخوف ويعمق داخلنا مشاعر الفقد والوحدة والتوجس من المجهول لكن الخلود أيضًا- لدى ساراماجو- سيحيل الحياة إلى معاناة مستمرة للمرضى ولغيرهم فقد انهارت الأعمال وفشلت المشاريع وازداد الضغط على الموارد الطبيعية وندُرت الأدوية وبدأ السكان يتمنون عودة الموت بل ويبحثون عن مكان وجوده.

إن الحكمة الإلهية قضت بأن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الكون وكل ما يدور فيه عبثًا لكن الإنسان بعقله القاصر وقدراته المحدودة قد لا يتوصل إلى تلك الحكمة أو قد يستشفها متأخرًا وبقدر تعلقه بمباهج الحياة ومُتعها بقدر ما يبتعد عن إدراك هدف وجوده فيها وعبثيتها كذلك وتفاهتها ولو لم يكن الأمر كذلك لماذا يصغُرُ كل شيءٍ ويتقزم أمام الموت؟؟ لماذا يُخيفه ذكر الموت ولا يُبهجه؟

إذن الإنسان بحاجة ماسة للموت ليس لأن من خلاله كما جاء في «انقطاعات الموت» ينتهي الألم وتنهكُ الحياة الفقراء والمرضى وترهقهم إنما لأن عند بابه يعرف الإنسان قيمة نفسه الحقيقية وضآلته ومحدودية رؤيته ولأن الموت يرفع الظلم عن الضعفاء والمبتذلين والذين يعيشون على هامش الحياة عندما يسرق أرواح الطغاة دون استئذان أو موعد مسبق.. ألم يضع الموت حدًا لطغيان الأباطرة والملوك والفراعنة والمتنفذين وممن لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم طريقًا؟؟

الموت في «انقطاعات الموت» يعود في الجزء الأخير من الرواية للبشر بصفته كائنا حيا يبعث بمغلف بنفسجي لكل من حان وقت وفاته لكنه يواجه صعوبة في إرساله لشخص معين هذا الشخص هو عازف وفنان متواضع في رسالة واضحة يريد أن يقول ساراماجو من خلالها إن حدود الموت تنتهي أمام الفن لكن الحقيقة أن حدود الموت تنتهي عند حدود اليقين بأن بعد هذا الحدث الحتمي حياة أخرى حيث سيبعث الإنسان من جديد ويقف أمام الله سبحانه وتعالى وحيًدا بلا سُلطة ولا نفوذ ويحاسب على أفعاله وطغيانه وصلفه وأعماله التي إن صلُحت ما كان تمنى الخلود بل استعذب الموت وتمناه.

الفناء إذًا ليس ذلك الوحش الكاسر المخيف لنخشاه ونتمنى ابتعاده إنما هو للمؤمن بمثابة مرحلة انتقالية لحياة سعيدة هانئة ودائمة شرط السير وفق المنهج الرباني الذي يقوم على التقوى والصلاح والتعامل الإنساني مع الغير والتواضع وجميل الأخلاق وصفاء السريرة والعطاء بحب وهو الطريق الذي يفر به هذا المخلوق الضعيف قليل الحيلة الجاهل بطبيعة وجوده إلى الله لا منه.

الإنسان بحاجة حقيقية للموت الذي لا يمكن قهره أو السيطرة عليه إذ لولا حتميته وسطوته لجار وبغى في الأرض وطغى واستبد بل وامتلئت المقابر بالفقراء والمُعدمين والمهمشين.. الموت قد يكون بداية لسعادة أبدية أليس كذلك؟!