حساسية البحث العلمي تجاه الواقع الاجتماعي
في الحديث عن واقع البحث العلمي عمومًا في عُمان فإن ثمة عتبات تحتم علينا مراجعة الذات قبل إطلاق أي حكم حول الجدوى والفاعلية أو الجمود والحيوية، ذلك أن أنشطة البحث العلمي عمومًا، والبحث العلمي الاجتماعي على وجه الخصوص لا تزال تجري في جزر منعزلة، هناك أبحاث تجري ضمن برامج الدراسات العليا (ماجستير– دكتوراه) لها أوضاعها واتجاهاتها الفكرية الناظمة لها، وطبائع الممارسة التي تتمأسس عليها، وتوجهات غالبة على موضوعاتها، ومناهج تشكل مدارسها في أروقة الجامعات والكليات التي تدرس العلوم الاجتماعية في عُمان، كما أن هناك برامج بحثية ممولة داخل الجامعات، وعلى مستويات وطنية تؤسس أيضًا لقواعد إنتاج غالبًا ما تكون مرتبطة بالاتجاهات العلمية التي تتبناها المؤسسة الرسمية وتكون مرتبطة باتجاهات التنمية ومعضلاتها على كافة الأصعدة، كما أن هناك أفرادا ينشرون أوراقا إما أن تكون مستلة من أطروحاتهم في الدراسات العليا، أو منتجة من واقع الاهتمام الذاتي بالمسألة الاجتماعية، أو من سياق الاهتمام المهني بها، وهناك أيضًا أطروحات تقدم لمؤتمرات ومشاركات علمية غالبًا ما يؤطرها الاهتمام الفردي، ووسط هذا كله فإننا لا نملك مؤشرات تفصيلية تتبعية تمكننا من الحكم على واقع البحث العلمي الاجتماعي- على وجه التحديد- وكيف يراكم ذاته ويبلور قضاياه، وما هي التوجهات الأساسية التي تحكمه، والمنطلقات الأيديولوجية التي تتحكم في مثارات اهتمامه.
وجود هذا الرصد التفصيلي والتتبعي لحركة الإنتاج في العلوم الاجتماعية ليس من باب التزيد في توفير المؤشرات الوطنية، وإنما يحيلنا وجود ذلك من عدمه إلى الوقوف على ثلاثة إشكالات رئيسية للبحث العلمي الاجتماعي أصبحت الحاجة ملحة في تقديرنا للوقوف عليها وتقييم واقعها، وهي مرتبطة بالآتي:
- ما مدى الصلة بين البحث العلمي الاجتماعي وصنع السياسات العامة في الدولة؟
- ما مدى حساسية البحث العلمي الاجتماعي تجاه الواقع الاجتماعي بتغيراته وظواهره وتبدلاته؟
- هل المعرفة التي تتم مراكمتها في البحث العلمي الاجتماعي كافية لفهم المجتمع وتسييره؟
في دراسة لنا بعنوان: «البحث العلمي الاجتماعي وصنع السياسات العامة في الخليج: عوامل الاجتذاب والتنافر الوسائطية في ثلاث دول خليجية» أشارت غالبية عينة الدراسة (40.2%) من المشتغلين في البحث العلمي الاجتماعي في ثلاث دول خليجية بما فيها السلطنة إلى عدم موافقتهم على أن «مخرجات البحث العلمي الاجتماعي تساعد في تحديد أولويات التنمية وتسهم في توجيه عملية صنع السياسات العامة في دول الخليج العربي»، كما أشارت العينة الغالبة أيضًا (36%) إلى موافقتهم (المحدودة) على أن «ما ينتجه المشتغلون في البحث العلمي الاجتماعي في دول الخليج العربي يساهم في إيجاد توصيات تطبيقية تعين على صنع وتقييم وتقويم السياسات العامة»، وفي ضوء ذلك فإننا نلحظ أنه حتى في أحوال التخطيط الاستراتيجي الوطني، فإن طبيعة صلة البحث العلمي الاجتماعي بهذه العمليات لا تعتمد على المراكمة التي تتيحها عمليات الإنتاج سواء كانت داخل المؤسسات الأكاديمية، أو عبر الاشتغالات والشبكات الفردية، وإنما تتأتى طبيعة التدخل إما عبر استحداث وتمويل أبحاث جديدة، أو تقديم استشارات مباشرة من قبل المختصين عبر مشاركتهم في حلقات العمل وفرق العمل التي تؤسس لهذه الأغراض، وهو ما ينبئ أن ثمة حلقة مفقودة في العلاقة بين عملية إنتاج البحوث الاجتماعية وعملية توظيفها لخدمة صنع السياسات العامة.
وفيما يتعلق بحساسية البحث العلمي الاجتماعي إزاء الواقع الاجتماعي فإن كثيرا من البحوث تتعامل مع المجتمع بوصفه طرفًا مبحوثًا تنتهي مهمته في البحث بمجرد أخذ البيانات والاستقصاءات والمعلومات المطلوبة من عيناته، ويحضرني هنا نماذج لبعض أنشطة البحث الممولة في بعض الجامعات البريطانية- وقد يكون الأمر يمتد لدول أخرى- حيث نجد أن أي مشروع ممول يلتزم بإيجاد موقع إلكتروني تفاعلي طوال وبعد فترة التمويل وإجراء البحث، حيث تتاح كافة التفاصيل، ومستجدات مراحل البحث، والنتائج الأولية، ويتاح للمشاركين في البحث كتابة المقالات حول تطورات القضية المبحوثة، وإتاحة التحليلات والمقاربات والمصادر، ويتاح للجمهور نوافذ مباشرة للتفاعل وإثراء المحتوى أو التعليق عليه، مما يجعل القضية المبحوثة مثار حيوية في الواقع الاجتماعي، وهو ما يتيح أيضًا على الجانب الآخر لوسائل الإعلام متابعة مستجدات البحث والوقوف على القضايا الشائكة التي تحتاج إلى توسيع مدارات النقاش والفهم حول القضية البحثية.
أما فيما يتعلق بمسألة مراكمة المعرفة الاجتماعية، فإننا نفتقد هنا لتكاملية الأدوار من ناحية، ومن ناحية أخرى يشيع نمط البحث العلمي (البارد) الذي ينتظر اكتمال وتشكل الظواهر والقضايا ثم الولوج إلى دراستها، فليس هناك نفس موسع في تناول القضايا (ذات الاعتمال) التي تضرب لحظتها في المجتمع أو لدراسة التفاعلات الاجتماعية المباشرة مع تلك القضايا، وبالتالي فإن ما يغلب على الإنتاج العلمي في هذه الزاوية هي (بحوث الأثر)، كما أن هذه البحوث لا يتم التسويق لمخرجاتها بالشكل الجيد، سواء عبر الإعلام العلمي، أو عبر إقامة الندوات والورش النقاشية، وإنما يتم التعامل معها على سبيل الاحتفاء أو الاجتزاء والاكتفاء، ولا تمتد البحوث التالية لها على البناء عليها، خشية الوقوع في فخ التكرار أو الاجترار، وفي الحقيقة فإن مراكمة النتاج العلمي للبحوث الاجتماعية والبناء عليها يعد أفضل وسيلة للتنبيه على تحولات الواقع الاجتماعي والتأشير على القضايا ذات الأولوية في السياقات الاجتماعية المختلفة.
إن ثلاثية الحساسية التي نقترحها إزاء البحث العلمي الاجتماعي في اتصاله بالواقع هي: (المراكمة والحاجة إلى مضاعفة الكم مع الاهتمام بالكيف، والبناء على المخرج البحثي موازاة بالاستشارة وإشراك الباحثين في عمليات صنع السياسات العامة، والتشخيص التتبعي والتفصيلي لواقع الإنتاج وتحديد قضاياه واتجاهاته العامة). فالمرحلة اليوم تحفل بأفق لا متناهي من التحولات والتغيرات التي لا سبيل إلى القبض الدقيق عليها سواء بعدة المنهج العلمي وعتاده.
