سوق النشر العربي وحقوق الترجمة !

06 أغسطس 2022
نوافذ
06 أغسطس 2022

عام 1997م نشرت دار المنى - وهي واحدة من أهم دور النشر لكتب الأطفال والناشئة في الوطن العربي - ترجمة عربية لرواية "آن في المرتفعات الخضراء" للكاتبة الكندية لوسي مود مونتجمري (1908- 1942م) أنجزتها عن الإنجليزية المترجمة سكينة إبراهيم. ولأن المنى دار نشر مسجّلة في السويد، أي في دولة أوروبية تشدد على ضرورة احترام الملكية الفكرية، فقد انعكس هذا على التزام الدار بهذه الحقوق، واستدعى الأمر منها أن تدفع مبلغًا لعدة سنوات لورثة المؤلفة المتوفية قبل خمسة وخمسين عامًا من نشر الطبعة الأولى من الترجمة، ما يعني أن المدة القانونية التي تسقط فيها حقوق الملكية الفكرية لم تكن قد انتهت بعد. وقد لقي هذا الكتاب إقبالًا كبيرًا من القارئ العربي المتعطّش لهذه النوعية من كتب الناشئة.

ما بين عامَي 2017 و2019م أنتجت نتفلكس بالاشتراك مع هيئة الإذاعة الكندية CBC ثلاثة أجزاء من مسلسل تليفزيوني مقتبس عن الرواية. وطبعًا لم تكن نتفلكس مضطرة هذه المرة لدفع أي حقوق تأليف لورثة مونتجمري بما أن المدة القانونية لحقوق الملكية الفكرية قد انقضت. وقد لاقى المسلسل نجاحًا كبيرًا، وصل إلى العالم العربي، وانعكس على مبيعات رواية دار المنى، التي أضحت أكثر رواية مبيعًا في هذه الدار.

لاحظت دار "عصير الكتب" المصرية الإقبال الشديد على المسلسل في مصر فقررت إصدار ترجمة للرواية. فيما بعد قال محمد صلاح فضل مدير الترجمات بالدار لصحيفة الدستور المصرية إن لجنة مختصة قررت ترجمة الرواية دون معرفة أن لها ترجمة عربية سابقة، وهذا أمر شديد الغرابة، لأن نقرة بسيطة في موقع جوجل من أي عضو من أعضاء تلك اللجنة كانت كافية لمعرفة أن "آن في المرتفعات الخضراء" مترجمة منذ زمن طويل، علاوة على أن أي دار نشر تشارك في معارض الكتب (كما هي حال "عصير الكتب" بالطبع) لا بُدَّ أن تلاحظ ما تنشره الدور الأخرى، لا سيما إن كانت تنشر كتبًا قريبة من توجهها.

على أية حال ليست هذه معضلة، فمن حق أي دار نشر أن تستثمر نجاح أي عمل لتجني منه أرباحًا، خصوصًا أنه لم تعد له حقوق ترجمة كما ذكرنا، فالكتب التي تقع في النطاق العام تترجم عادة في دور نشر عديدة، وفي أحيان كثيرة تكون الترجمة الجديدة أفضل من سابقاتها. لكن المعضلة الحقيقية أن نسخة "عصير الكتب" من الرواية التي جاءت بترجمة مترجِمة تُدعى إيناس سمير، كانت أقرب إلى نقل حرفي من ترجمة دار المنى، سواء بتطابق عناوين معظم الفصول الثمانية والثلاثين، أو بصيغ الترجمة داخل النصّ نفسه. يشعر المرء وهو يقارِن بين النسختين أنه يقرأ كتابًا واحدًا لا اثنين، وإن كان يحدث أن تغيّر أحيانا كلمة مكان أخرى، أو تضاف عبارة هنا، أو تحذف عبارة هناك، لإيهام القارئ بالاختلاف، إلا أن هذه الإضافات أو الحذوفات لم تكن إلا "لأغراض تجميلية" على حد تعبير المترجم المصري المعروف سمير جريس الذي استنكر هذا السطو ووصفه بأنه "كارثة مكتملة الأركان من كوارث سوق الترجمة".

من الطبيعي إذن أن تحتجّ دار المنى، وتقدم شكوى إلى اتحاد الناشرين العرب مطالِبة بحماية حقوقها، وقد نظر الاتحاد في الشكوى وتوصّل في النهاية إلى أن هذه مشكلة بين مترجمتَيْن لا بين دارَيْ نشر!؛ على اعتبار أن "عصير الكتب" قدمت في دفاعها عقدَها المُبرَم مع المترجِمة، وأبرزت رقم الإيداع للرواية من دار الكتب المصرية. والملاحَظ هنا أن هناك إقرارًا ضمنيًا (وإن لم يكن معلنًا) من الاتحاد و"عصير الكتب" معًا، بعملية السطو من قبل المترجِمة، ومع ذلك سُمِحَ للدار التي نشرتْ لها أن تنعم بمواصلة بيع نسختها في الأسواق!.

يعكس هذا من وجهة نظري سوء تعاطي سوق النشر العربي مع الترجمة، والثغرات الواضحة في قوانين النشر في البلدان العربية التي تسمح بانتهاك الحقوق، فغني عن البيان أن الترجمة عمل جماعي حتى وإنْ اضطلع به فردٌ واحد، وانتهاكُه يضرّ الجميع: المؤلف والمترجِم والناشِر، فضلًا عن القارئ بالطبع، ولا يمكن الركون في هذه الحالة إلى اتخاذ طرف وحيد كبشَ فداء، دون تصحيح للوضع.

في الوقت نفسه تقريبا الذي وقعت فيه هذه الواقعة في القاهرة سنة 2021م، حدث أمر مشابه في لندن ينبغي سرد قصته للوقوف على الفرق في التعاطي مع الحقوق الفكرية بين الغرب والعرب. إذْ نشر موقع "بي بي سي" في 12 أكتوبر 2021م خبرًا عن سحب كتاب للطبخ من الأسواق اسمه "مكان؛ وَصَفاتٌ من قلب سنغافورة" للطاهية إليزابيث هيج كان قد صدر للتو (أي عام 2021م)، بمجرد أن ادعتْ طاهية أخرى اسمها (شارون لي) أن عددًا غير قليل من وصفات هذا الكتاب منتَحَل من كتابها "الطهي في مطبخ نونيا" الصادر عام 2012. اللافت هنا موقف بلومزبري؛ دار النشر الإنجليزية العريقة ناشرة الكتاب المتهم بالانتحال، فبمجرد أن تحققتْ من الأمر سحبتْ الكتاب من الأسواق، دون أن تحسب حسابات الربح والخسارة، أو تُلقي باللائمة على المؤلفة فقط. لماذا فعلت ذلك يا تُرى؟. هل لأنها تحترم حقوق الملكية الفكرية؟، هذا مؤكد. لكن السبب الآخر أن قوانين الملكية الفكرية هناك محددة وواضحة ويُمكن الاحتكام إليها بسهولة، أي أنها لا تتيح لـ"بلومزبري" أن تفعل شيئًا آخر غير ما فعلتْ. وهذا هو بيت القصيد.