في أثر الشيخ أمين الخولي «1895- 1966»

27 أبريل 2024
27 أبريل 2024

(1)

تأخر تعرُّفي على اسم الشيخ أمين الخولي (1895-1966) لحين التحاقي بكلية الآداب في السنوات الأخيرة من القرن المنصرم، ودراستي للأدب والنقد وعلوم البلاغة. لم أكن أعرف عنه حتى ذلك الوقت من أواخر التسعينات، سوى أنه شيخٌ أزهري «مصلح»، ومجدد، له تعقيبات جليلة على مواد عديدة في دائرة المعارف الإسلامية (في التفسير، وأصول الدين، والفقه.. إلخ) وأنه قد صدر له كتاب صغير في (مكتبة الأسرة) المصرية سنة 1995 بعنوان (من هدي القرآن في رمضان)، ضم أحاديثه الإذاعية التي كان يذيعها على الناس في شهر رمضان المبارك.

وكنت قرأت ترجمة موجزة كتبها عنه الراحل سعيد جودة السحار في موسوعته المصورة (أعلام الفكر العربي)، وكذلك بورتريه شهير بالألوان رسمه الفنان جمال قطب.

هذا كل ما كنت أعرفه عن الشيخ أمين الخولي حتى أواخر التسعينات من القرن الماضي. لكن مرحلة جديدة ومبهرة من التعرُّف على أفكار الشيخ، وعمق أثره واتساع الدوائر التي تحرك فيها، وقدَّم فيها إسهامًا تأليفيا أو تدريسيا أو مؤسساتيا، جاء أثناء قراءتي المفصلة لأعمال المرحوم الدكتور نصر أبو زيد، الذي أدركت فيما بعد، أنه الامتداد المتطور «المحدث» لمدرسة الشيخ أمين الخولي ونظراته الرائعة المجددة في الدرس الأدبي والجمالي للقرآن الكريم.

حينها بدأت أعي خيوط الاتصال اللامرئية بين جهود الشيخ أمين الخولي في الدراسات الإسلامية، وبين أفكار نصر أبو زيد التي فتحت عليه أبواب الجحيم، وجعلته يعاني محنته الموجعة التي ظلت تلازمه حتى رحيله في 2010.أدركتُ حينها أن نصر أبو زيد عانى ما عانى لأنه كان تلميذًا بالرأس لأمين الخولي، و«أمينٌ» من الأمناء، لتلك المدرسة الشهيرة في تاريخ الفكر والثقافة المصرية والعربية في القرن العشرين، نسبة إلى شيخها ومؤسسها أمين الخولي، ولقد كانت تلك الجماعة من بين الأعمق تأثيرًا وأثرًا في الحياة الأدبية والفكرية في الثلث الأوسط من القرن العشرين.(2)

وخلال الفترة (1997-2001) ظل هذا الاسم يتردد وبقوة في سنوات الدراسة الأربع بكلية الآداب جامعة القاهرة، وبالأخص في قسم اللغة العربية وآدابها؛ يتردد في الدراسة الأدبية، وفي النقد الأدبي، وفي مادة أدب مصر الإسلامية (الأدب المصري في العصور الإسلامية)، ثم يتردد مرة أخرى في دراسة مادة «البلاغة» ومناهجها، وما نلبث أن ننتقل إلى «الدراسات الإسلامية» فنجده حاضرًا وبقوة في مواد التفسير والحديث والفقه وأصوله.

ثم إذا ما انتقلنا إلى العصر الحديث، والأدب الحديث، وجدناه ضمن فريق «التجديد» وأشياع «المجددين»، ومدافعًا شريفًا ومناضلًا حرًّا عن قيم حرية الرأي والتعبير، والحق في البحث العلمي النزيه والمجرد والدفاع المجيد عن آراء تلميذه في أطروحته للدكتوراة، ويكون ثمن موقفه هذا حرمانه من الإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراة في واحدة من أغرب وأعجب ما قرأت من قضايا الحريات والبحث العلمي في تاريخ الجامعة المصرية! (سأعود إلى تفاصيل هذه القضية التي شغلت الثقافة العربية كلها في أربعينات القرن الماضي في حلقات تالية).

وقد استنتجت من حضور الاسم ووهجه المشع، عبر الأجيال والتلاميذ، وتلاميذ التلاميذ، مدى عمق التأثير والغرس الذي غرسه صاحب هذا الاسم في نفوس وأذهان هؤلاء.. كانت عباراتهم التي سجلوها في مقدماتهم لكتبِ شيخهم مختلفة ومتباينة عن غيرها من المقدمات التي يكتبها أصحابها لتقريظ المؤلفين ومدح كتبهم!

أما هؤلاء فيكادون يتفقون على قيمة أساسية تجمعهم بشيخهم؛ قيمة التوهج العقلي، وملكة النقد، وعرض كل شيء على العقل، وضرورة أن يكون البحث قائمًا على المعرفة والأصول العلمية الحديثة، وعلى رأسها فكرة «المنهج والمنهجية».

(3)

ولا أنسى ما حييت تلك الأسطر التي كتبها المرحوم الدكتور شكري عياد (من أبرز وأنبه تلاميذ الشيخ أمين الخولي)، ذكر فيها أنهم كانوا يخرجون من دروسه «وهم يشعرون أن عقولهم قد مخضت مخضًا، فتبخرت كثير من المسلّمات الباهتة في أذهانهم كما يتبخر الضباب تحت شمس قوية.. لم يكن يؤمن بأن المعرفة تلقين، بل كان يؤمن بأنها اكتساب، وبأنها حرية، وعمل إنساني مجيد، لا تكتمل الكرامة الإنسانية دونه، ولهذا كان درسه أكثر من ساعة علم، كان تجربة عقلية.. يتقبل مناقشاتنا بل يدعونا إليها ولا يطالبنا إلا بوضوح التفكير واستقامة المنطق».

مضيفًا «كان أشد ما يحيرنا أول ما بدأنا نختلف إلى دروسه هو من أي الفريقين: محافظ أم مجدد؟ ذلك أنه كان يبدو لنا أحيانا محافظًا صلبًا في محافظته، وأحيانًا أخرى مجددًا متطرفا في تجديده.. كان يعلمنا أن أول التجديد قتل القديم فهمًا. ولم نزل حتى فهمنا أن التجديد والمحافظة يلتقيان في مزاج الأستاذ وتفكيره ويتلازمان، كما يلتقي الواقع والمثال ويتلازمان.. كانت المحافظة تدعو إلى درس القديم في ظروفه التاريخية -بقدر ما يمكنا أن نفهم هذه الظروف- واستبقاء ما يصلح منه لحاجات العصر، ليظل حاضرنا موصولًا بماضينا».

ومثلها الأسطر التي سجلها تلميذه الآخر والذي سيقدر له أن يكون رائد دراسات الأدب الشعبي، وأول أستاذ كرسي لهذه المادة في جامعة القاهرة، الدكتور عبدالحميد يونس، سيقدم لأستاذه كتابه عن (الأدب المصري)، فيقول في مقدمته:

«وليس من شك في أن أي مظهر من مظاهر التعاون هو ما يقوم بين أجيال المشتغلين بصناعة الفكر، وقد جرت عادة المحدَثين أنه إذا تهيَّأت أسباب الظهور لأحد أبناء الجيل الجديد، طلب إلى شيخ من شيوخ الصناعة أن يقدِّمه إلى الناس؛ بالإعلان عن كتبه، والكشف عن مواهبه. ولكن شيخنا آثر -وهو يؤمن بأن نهضتنا تجديد لا تبديد- أن نعود إلى سنة السلف الصالح؛ فيُقدِّم أبناء الجيل ما تلقَّوه عن شيوخهم من الرسائل والأمالي والدروس. وها أنا ذا أُقدِّم إلى قُراء العربية بعض أمالي شيخنا الجليل أمين الخولي «في الأدب المصري».

ولست في حاجة إلى التعريف بشيخنا؛ فقد كان مِقوَلًا من مَقاوِل النهضة، ورائدًا من الرواد في الأدب، ورسولًا أمينًا من رسل مصر. وهو إلى جانب هذا كله أصولي ثبت، ومُناظر قوي الشكيمة، ومعلم يضبط المناهج ويقوِّم الأذواق.

(4)

وهذه الكلمات إن كانت تدل على شيء فإنها تدل على عظم الأثر وعميق التأثير واتساع المدى الذي تحركت فيه أفكار الشيخ ودروسه وإلهاماته بين تلاميذه، ثم بين تلاميذ تلاميذه، والأجيال التالية.

وهكذا، أدركت مبكرًا أيضًا أن صاحب هذا الاسم بل صاحب هذه المدرسة سيكون محل انشغال أصيل من انشغالاتي المعرفية والثقافية، وإن كنت لم أحدِّد بالدقة من أي نقطةٍ سأبدأ في التعرف على فكر الشيخ، وعلى الدوائر المعرفية التي أسهم فيها، وعلى الأثر الذي تركه.

كلمة واحدة وجدتها تصلح كمفتاح للتعرف على مجمل مشروع الشيخ أمين الخولي، ثم من خلالها نتتبع المسارات التي تفرعت عنه في مجالات شتى؛ في الأدب والدراسات النقدية والدراسات الإسلامية (الدراسات القرآنية وعلوم القرآن والدرس الجمالي للقرآن الكريم)، وفي علوم اللغة والنحو والبلاغة وفي الأدب المصري والأدب الشعبي وفي فكر الإصلاح.. إلخ.

هذه الكلمة باختصار هي «التجديد»، فلا أحد يستطيع أن يتجاهل الدور العظيم الذي أدّاه الشيخ أمين الخولي وجماعته في إشاعة فكر التجديد في الثقافة العربية، ولا طرائقه الأصيلة في البحث عن الظواهر، ولا مزجه المحكم بين الوعي بالتراث والانفتاح على الثقافة الحديثة.من يدرسون لنا الأدب والنقد لا يستطيعون تجاهل نظريته الإقليمية في دراسة الأدب التي تركت أثرها في نفوس تلاميذه من بعده (عبدالحميد يونس، وعبدالعزيز الأهواني، وحسين نصار).

ومن يدرسون لنا الأدب الشعبي ومناهجه يتوقفون مليا أمام أثره العميق في الالتفات إلى روائع تراثنا الشعبي المدون (السيرة الهلالية، وسيرة الظاهر بيبرس، والحكاية الشعبية.. إلخ).

(5)

ولحسن الحظ أنني تابعت شغفي، عقب تخرجي، بدراسة البلاغة العربية في علاقتها ببقية علوم التراث العربي (بتوجيهٍ من أستاذي الجليلين عبدالحكيم راضي وجابر عصفور) وكانت جهود أمين الخولي في هذه الدائرة محطة أساسية عظيمة ومهمة، وقدم فيها دراسته التأسيسية عن التجديد في علوم اللغة والبلاغة والأدب والتفسير.