الطائي..صوت للنهضة نادى
وُلدَ عبد الله بن محمد الطائي عام (1924) في أسرةٍ علم وأدب، -كما يقول حفيده نصر بن ليث الطائي- حيث كان والدهُ محمد بن صالح قاضيا بمسقط، وتنقّل هو وآباؤهُ في البلدان العمانية، بدايةً من قرية «حدا» بوادي الطائيين، ثم طيوي، مرورًا بنزوى وسمائل، فبوشر حتى استقرّ بهم الحال في مسقط. تلقى تعليمهُ الأوّلِ في الدين واللغة بمسجدِ «الخور» على يدِ السيد هلال بن محمد البوسعيدي، ثمَّ كان ضِمنَ أولِ دفعةٍ طُلّابية تخرجت من «المدرسة السلطانيّة الثانيةِ» في مسقط، وبعدها تم ابتعاثُهُ من قبلِ حكومة البلاد إلى بغداد عام 1938 ، ليكملَ تعليمهُ المتوسّطِ والثانويِّ هناك؛ حيث راسلُ الأدباءَ المقيمينَ بها، أمثال زكي مبارك، وشرعَ في الفترةِ ذاتها بكتابةِ القصص القصيرة، ليكونَ أوّل من أعدَّ هذا الجنس الأدبي في عُمان، ومن رُوّاده الأوائل في الخليج العربي.
وبعدَ أن قضى سبعَ سنين في بغداد، بدأ حياته المهنيّة، إذ عاد إلى مسقط وهو ابن ثمانية عشر، ليعملَ مُدرّسًا في «المدرسة السعيدية»، غيرَ أنهُ لم يستمر طويلًا في مهنته التدريسيّة في عُمان، لأن الأجواءَ العامة في البلاد ساءتهُ ولم ترق لتطلعاته، فبدأت قصة أسفار الطائيّ، وانعكست ظاهرةُ الغربةِ في شعره، فكانت وجهتهُ الأولى كراتشي في أواخر عام (1948)، وعملَ هُناك في السلكِ التعليميّ والإذاعيّ برفقةِ عددٍ من مثقفي الخليج، وبعث لزوجته قصيدته «عُماني مودع» عندما وصل إلى كراتشي:
قالتْ مودّعةً وقدْ عزمَ الحبيبُ على البعادْ
حتَّامَ أنتَ تطوفُ لا ترضى قرارًا بالبلادْ
لا دمعةٌ تثنيكَ عنْ هذا الرحيلِ ولا وداد
النَّاسُ همُّهمُ الوصا لُ وقد ظفرتَ بذا المراد
إِنَّ المواطن كالجنا نِ وإن تكنْ من أرضِ عاد
ماذا أقولُ خذِ التأوّ هَ كاشفًا حالَ الفؤاد
فأجابَ يبسمُ والحشا بينَ احتراقٍ واتقادْ
اعلمْ نجيَّ القلبِ ما صبر على ذل انقياد ؟
في موطنٍ أحوالهُ سوداء حالكةُ السواد
في موطنٍ أبناؤهُ بينَ اغترابٍ واضطهاد
العزُّ مركبهُ الصعا بُ وطرقهُ بينَ النجاد
من خافَ ذلَّ ومن يكنْ ثبتَ الخطى والرأيِ سادْ
وبعد سنتين ونصف قضاهما الطائيّ في كراتشي، خرجَ منها قاصدًا البحرين، فتنامت أدوارهُ الإذاعية في إذاعة البحرين اللاسلكية عام (1955)، فقدّم أحاديثَ أدبيّةٍ وتاريخيّةٍ، وامتدّ به العمل الصحفيّ بمجلتي «صوت البحرين» و«هنا البحرين»، حتى تولّى مسؤوليةَ تحرير الأخيرة، فأخذَ يشجّعُ المواهبَ الناميةِ، ومن الرموز تلميذهُ غازي القصيبي والدكتور الناقد إبراهيم غلوم، وقد كان نشاطهُ الأدبي بالمجالسِ الأدبية والثقافيّةِ مع طليعةِ أدباء البحرين المُعاصرين.
لكنه اضطرّ لأن ينتقلَ منها لاصطدامه بالسلطةِ البريطانية فيها، وقد قال مُعبرًا عن ذلك الحدث بقصيدةٍ وداعية نشرها بديوانه الثاني «الفجر الزاحف»:
وداعًا وإِن كان الوداعُ تألمّا
وصبرًا وإن كانَ اصطباريَ علقما
وداعًا بلادَ الخيرِ والمجدِ أنني
نأيتُ على رغمي وفي كبدي ظما
فما لي وهجر الصحبِ والأرض قدرة
ولكنَّهُ خصمٌ عتا وتحكمَّا
يطاردُنا في كلِّ بيتٍ ومسلكٍ *** ليغتصِبَ المأوى ويحيا منعَّما
فهكذا بعد قضاء تسعةِ أعوام في البحرين، غادرها إلى الكويت في عام (1959)، حيثُ عمِلَ في وزارة الإعلام الكويتية، وترأّس تحرير مجلة «الكويت» العريقة، هي أول مجلة خليجية أُسّست عام 1928، كما عمل نائبًا في رئاسة تحرير مجلة «العربي» المعروفة. فعلى سبيل المثال قصيدتهُ وكانت عمان ملء قلبه وروحه، فحين أرسل إليهِ أستاذه السيد هلال بن البوسعيدي وشقيقه الأكبر سليمان الطائي ـ بطاقات تهنئةٍ بالعيد كانت مهيجة له ليقول قصيدة مقدمتها:
أبدًا على عيني وملء فؤادي
تبدو رؤاها رائحًا أو غادي
فكأنما هي للفؤادِ نجيةٌ
وكأنها للعين نورٌ هادي
أحيا على الذكرى فإنْ فارقتها أمسى منامي مثل شوكِ قتاد
وأكادُ أَلفظُ كلَّ حينٍ اسمها خوفًا من الأزمان والأبعاد
فيلوح ملءَ فمي وبين جوانحي روحًا عليه يقوم سر أيادي
فارقتها جسمًا وعشت خليلها
ذكرًا يقضُّ مضاجعي ووسادي
ليلايَ قدْ طال البعادُ فأشفقي
فأنا إلى عهد التواصل صادي
ثم خلال عام (1962) انتدبتهُ لجنة الخليج وجنوب الجزيرة العربية ليعمل في مكتبِها بإمارة دبي لتطوير المدارسِ، المستشفيات، والمواصلات بها. وبعدَ أربع سنين ونيفٍ من عملهِ بمكتب الكويت في دُبي، استدعاهُ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان للعملِ في أبوظبي قُبيل قيام اتّحاد الإمارات، فعمل مستشارًا للتربيةِ والتعليم، كما عملَ نائبًا لرئاسةِ الإعلام، فساهم في تحرير صحيفتها الأولى «الاتحاد»، كما كانَ مسؤولًا عن العلاقاتِ الخارجيّةِ للإمارة، وعُيّنَ مستشارًا برتبةِ وزير. ظلت عمان تطارده، فبينما كان في سفرةٍ دبلوماسية برفقة صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، استوقفه بارق من جهة الشرق، آثار غربته وهو في حوار مع آنسة فرنسية فقال:
أجبتها وجفوني من تذكارها
وادٍ به الدمع دفّاق وهتَّان
إِني أحنُّ إلى داري ومعشرها
يكاد يفضحني دمع وأشجان
هي المعاهد لا أنسى معالمها
وكيف تُهجر بالجنّات أوطان؟
وما ان استبشرت عُمان بعهدها الجديد، بقيادة السلطان قابوس بن سعيد حتى عادّ الطائي إلى مسقطِ مُلبيًا نداء السلطان، وهو يردد
ويقول:
يا بلادي ما اغتربنا ما نأيْنا
طالما أنّا رجعنا فالتقَينا
قد نسِينا أمسِ مذ لحتِ لنا
ومن البهجة بالعَوْد بكينا
أمس في ظلمائه اندسَّ فلا
ظلَما خضْنا ولا ذلا رأينا
وإذا الدمع جرى فلْتعلمي
أنهُ بقيا جوى في مقلتَينا
عجبا كيف مضت أعمارُنا نحمل الفقدَ فلم يَقضِ علينا
إنها عشرون عاما مِن جوى
لحبيبٍ هو كالروح لدَينا
مذ لقيناه استعدنا عُمُرا
قد سرى كالبدر في ليلٍ إلينا
فكأنا في صَبا من زهوه
وكأنَّ الدهر طوعٌ في يدينا
مرحبا بالأرض ألفيتُ بها
منبتَ الروح به أنفُض أيْنا
مرحبا بالأهل أرتاح بهم
بعد هجرٍ ونوى، أُذنا وعَينا
يا بلادي، هاكِ قلبي إنه
قلب حرٍّ ما ارتضي في العمر شَينا
حمل الهمَّ على أنياطه
تَخِذَ الأخلاق في المهجر دينا
يا بلادي مرحبا نحن هنا
قد رجعنا لكِ أجنادا وعَونا
قد عركنْنا الدهر ألوانا فكم
من صراع الدهر آلاما بلَونا
وصقلنا العقل من تجرِبةٍ
ثبتت في العقل إرشادا وزَينا
لكِ منا العهدُ أن نسعى إلى
مجدك السالف تجديدا وصَونا
أفلم نحيَ على أنواره
أفما نحوك بالعَود عدَونا
كلما لاح لِعيني مَعلم
سأل القلب: ترى الآخرُ أينا
يا شباب الدار يا أشياخها
هتف الداعي وها نحن خطَونا
فعُمانٌ وضعت آمالها
فيكم فتُرجعوا للدار دَينا
إنها اليوم استطابت سكنا
فأرُوا العالم ما نحن بنَينا
فعيّنهُ السلطان وزيرًا للإعلام ووزيرًا للشؤون الاجتماعية والعمل، ومن أهمِّ وأوّلِ الأعمال السياسيّةِ مشاركتهُ في «وفد الصداقة العمانيّ»، الذي اختاره السلطان قابوس ليجوب الأقطار، ويعرّف بنهضة عُمان الحديثة سعيًا لتوطيدِ العلاقات الإقليمية والدوليةِ بعد عهدٍ اتّصفَ بالانغلاق. وهو صاحب النشيد الحماسي الخالد «صوت للنهضة نادى».
صَوْتٌ لِلنَهْضَةِ نَادَى هُبّوا جَمْعًا وفُرَادَى
قَابُوسٌ لِلمَجْدِ تَبَادَى فَابنُوا مَعَهُ الأَمْجَادَا
يَا أَبْنَاءَ عُمَانَ الأَجْوَادَا
بِثَلاَثَة وَعِشْرِيْنَ يُوْلْيُو قَدْ حَطّمَ أَصْفَادَا
وَأَزَاحَ ظَلاَمًا عَنّا وَلِوَانَا بِالمَجْدِ تَهَادَا
صَافَحْنَا الفَجْرَ بِأَجْفَانٍ وَرَفَعْنَا الأَعْنَاقَ صِعَادَا
وَمَحَوْنَا كُلَّ فَسَادٍ وَفَرِحْنَا شَعْبًا وَبِلاَدَا
صَوْتٌ لِلنَهْضَةِ نَادَى
وما أن استقال من عمله حتى دُعي عام (1973) من قِبل مركز البحوث والدراسات العربية بجامعة الدول العربية لإلقاءِ مُحاضراتٍ في مصر عن الأدب المعاصر في الخليج العربي، ثم جُمعت هذه المحاضرات في كتاب «الأدب المعاصر في الخليج العربي». وفي أبوظبي وتحديدا بتاريخ 18 من يوليو عام 1973 أصابته نوبة قلبية حادّة قضت عليه، وعاد إلى عُمان جثمانًا مسجى، في أواخر عقده الرابع.
كذلك كان شعر الطائي نفحة من حياته وأسفاره، يغلب عليه الحنين وشعر الغربة، ليكون سمته الأولى، لكنك تلمح فيه أيضا، قوةً وصلابة، يقول مثلا:
نحْنُ هنا إِنْ يحنِ الموعدُ ويبعث الصرخةَ مستنجدُ
على امتدادِ الأفقِ أهدافُنا
رنا إليها الموج والفرقدُ
نسابقُ الدهرَ إلى مطلبٍ
منْ منبعِ الأمجادِ يسترفد
ونبعدُ التثبيط عن أنفسٍ
ليس لها إلا العلى مقصد
صفَتْ كمثل النورِ أفعالُنا
فليسَ منا الخائرُ المفسد
نحنُ هنا إِنْ يحنِ الموعدُ
لدعوةِ العربِ هنا نرصدُ
باللهِ إنْ وافتك أصداؤها
فاهتفْ أخي حان الذي تنشد
زمجرةُ الأبطال كم ردَّدتْ
لبيكَ كلُّ بطلٌ أصيد
نحمي حمانا بفعال الألى
سادوا فما جاروا ولا استعْبدوا
للمجدِ كلٌ منهمُ عاملٌ
بالمجدِ كلٌّ منهمُ سيّد
غدًا نعيدُ المجدَ مستكملًا
يا سعد مَنْ يبني ومن يشهد
سنرفع الرايةَ مِنْ حولنا
نَشْءٌ بهِ قدْ جُدِّدَ السؤدد
يرددُ الصرخةَ مستأسدًا
نحن هنا إِنْ يحنِ الموعد
يقول محسن الكندي «يبلغ ما كتبه الطائي في هذا المجال 78 قصيدة موزعة على ثلاثة دواوين هي «الفجر الزاحف» و«وداعا أيها الليل الطويل»، و«حادي القافلة».
ومن هذه الدواوين الثلاثة يمكن اكتشاف بداية كتابته للشعر، وهي مؤرخة بعام 1947، عبر قصيدته المخطوطة « قلب محطم» وكذلك آخر قصيدة كتبها وهي مؤرخة بتاريخ 10/7/1973، وعنوانها «قصيدة لم تتم»، وقد كتبها قبل وفاته بثمانية أيام، وفي ذلك دلالة واضحة على أن الشعر كان رفيقه طيلة حياته القصيرة، حتى اللحظات الأخيرة من حياته. وتضم تلك القصائد قرابة 2092 بيتا.
ولعل إلقاء نظرة شمولية على سياقها تاريخيا وفنيا، وموضوعيا، يعطي انطباعا أوليا عن مجال الحركة والتفكير فيها: إذ أن تجربته تنطوي في داخلها على مجال واسع تدخل ضمنه معالم التجديد في نمطية القصيدة شكلا ومضمونا، ولعل ذلك مرده إلى الأفق الواسع الذي يتحرك فيه الطائي ويتحرك معه النتاج الأدبي في عمان، هذا الأفق يتمثل في المجالات الثلاثة عمانيا فخليجيا فعربيا عاما.
وبكل تلك المقاييس يعد الطائي رائدا في مجال اتساع الآفاق أمام الشعر العماني المعاصر، من حيث ارتباطه بالشعر الخليجي خاصة، والشعر العربي عامة، ومن حيث ارتياده مواطن جديدة وتفاعله مع الحركة العامة للشعر العربي الحديث.
د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارا.