No Image
ثقافة

«من سيكتب تاريخ الدموع»؟

12 أبريل 2023
رحلة بين دفتين
12 أبريل 2023

سأل رولان بارت: «من سيكتب تاريخ الدموع»؟ تلك الدموع التي تختزنُ رغبة جارفة في إعادة الزمن إلى الوراء لافتداء خساراتنا بطريقة سحرية. تلك الطبقة السطحية التي لا تعدو أن تكون غشاء سائلا يحمينا من العالم، ويسمح لنا بالتعامل معه في آن واحد، إذ لا توجد حتى الآن حقول أكاديمية مُكرسة لدراسة «الدموع»، ولذا فنحن لا نستنبط فهمنا لها من العلوم الطبية والنفسية، ولكن من عددٍ لا يُحصى من التمثلات الشعرية والقصصية والدرامية والسينمائية التي تعرض بصورة لافتة الميل البشري إلى البكاء، فهنالك عشرات الكتب عن الضحك ولكن الكتب عن البكاء قليلة، وقد كان من بينها هذا الكتاب الذي سنستقي منه أفكارا تُعيد تفكيك فكرة الدموع، بين وظيفتها الفسيولوجية ووظيفتها العاطفية.

إننا نتحدث عن كتاب تاريخ البكاء «التاريخ الطبيعي والثقافي للدموع»، للكاتب توم لوتز، ترجمة وتقديم: عبدالمنعم محجوب، الصادر عن دار صفحة سبعة ٢٠٢١، الذي يطرح سؤاله الجوهري: لماذا نبكي؟

تذهبُ بعض الروايات إلى أنّ البكاء والصراخ ساعد سكان الغابات القدماء في العثور على أبنائهم الرُضع باعتبارها -أي الدموع- لغة بدائية. بينما استنتج «ماكلين» أنّ دخان النار التي اكتشفها الإنسان غشيت عينه فأسالت تاريخا من الدموع إلى يومنا هذا! هكذا كانت «الدموع» مركزية في الأساطير والأديان والشعر والسرد عبر عصور مختلفة. وفي عصرنا الحديث أخذ الممثل السينمائي يستدرجها عبر ذكرياته الحسية ليؤدي دورا مقنعا هو الآخر.

لقد جادل بعض العلماء بأنّ الدموع شكل من أشكال الإطراح الذي لا يختلف عن التبول، ورآها داروين تبريد بسيط للعيون، وربطها البعض بالنساء، مُتجاهلين حساسية الذكور! وقد سُجل البكاء الأدبي الهائل الذي وضعه المحاربون والرهبان في القرون الوسطى، واعتبرت الدموع التي تُرافقنا في الفرح والفخر، في الحداد والإحباط والهزيمة هي الأقدر على إعادة ترتيب أحاسيسنا تجاه الكون، انطلاقا من أنّ مسلك اللذة والألم مترابطان في عدّة نقاط ولا يفصل بينهما في كثير من الأحيان إلا طريقة تفسيرنا لهما.

يشير الكتاب لأقدم سجل مكتوب عن الدموع على ألواح طينية كنعانية أرخت بالقرن الرابع عشر قبل الميلاد في مقبرة أوغاريت القديمة. وكانت عبارة عن قصيدة روائية عن موت «بعل» إله الأرض التي عُبد في كثير من ثقافات الشرق الأوسط. تحكي إحدى الشظايا قصّة الآلهة العذراء «عنات» أخت «بعل» وهي تسمع نبأ موت أخيها: «أتخمتْ نفسها بكاء حتى صارت تشرب الدموع كما الخمر». وفي الأساطير القديمة يمثل فصل الخريف موت الإله وتمثل الدموع التجديد بعد مجيء المطر.

لقد عرفت العديد من الحضارات الدموع من بابل إلى اليابان إلى أوروبا، ولذا يُقسم توم لوتز العالم إلى «بُكاة» و «جفيفين». فالنحيب فعل خاص بالإنسان فلا يوجد حيوان آخر يمكنه ذرف الدموع لأسباب عاطفية، رغم الحادثة التي يُوردها لوتز والمتعلقة بالفيلة التي تبكي عندما تلتقي بسُياسها أو الدلافين وكلاب البودل، إلا أنّه يثبت لنا أنّ البكاء خصوصية إنسانية، تحدثُ في الأوقات التي نُواجه فيها المشاعر المعقدة.

لقد عزز كُتاب القرن الثامن عشر العلاقة بين الدموع والإخلاص، وكأن الدموع تمثل كما يقول سيوران «معيارا للحقيقة»، أو كما يقول رولان بارت: «بواسطة البكاء أعطي نفسي محاورا حازما يتلقى أصدق الرسائل، رسائل جسدي لا كلماتي». وبقدر ما ترتبط الدموع بالألم والحزن والمعاناة، فإنّ معانيها تتجذر بصورة لافتة في ارتباطها بالأديان، فقد كتب كاتب روماني: «إنها ليست تقوى القديسين أو إنجازاتهم أو جدارتهم هي ما تجعلهم جذابين عبر مرور مئات السنين، وإنّما شهوانية معاناتهم التي أظهرتها الدموع»، فقد اتخذت - أي الدموع- دلالات على القيمة الأخلاقية.

فصل ديكارت بين العقل والجسد، لكن سوء الفهم لم يبدأ من هنا وإنّما من أفلاطون في محاورته الشهيرة «فيدروس» في فصله الشهير بين العاطفة والعقل في صورة حصانين غير مُتكافئين يجران عربة النفس، بينما فيسيولوجيا الدماغ تُظهر لنا خطأ ذلك! إذ يميلُ توم لوتز لافتراض أن «الدماغ» هو مركز الحياة الانفعالية وليس كما ذهب ديكارت للظن بأنّها استعارات مُتصلة بالقلب والروح.

لقد أتيح للمرضى العلاج البدائي بالدموع «التطهير» للتعامل مع أعمق مشاعرهم التي كافحوا لإخفائها، «فالبكاء هو الجزء المتحضر منا»، ويذهب فرويد إلى أننا لا نتمكن من تخزين الانفعالات في أجسادنا وكأنّها فيروس، ولذا فنحن نبكي لأنّ الرغبات لا تزال تثيرُ مشاعر قوية عندما نتذكر الماضي. الدموع التطهيرية تحررنا تجعلنا نشعر بالتحسن لأنها تحول انتباهنا من أفكارنا إلى أجسادنا.

وعلى الرغم من أنّ الأطفال يولدون مصحوبين بالبكاء، فإنّ جيمس واتسون وجد أنّ حب الأمّهات المفرط هو المسؤول عن بكائهم المفرط، ليس لأنّهن يكافئن البكاء بالاستجابة ولكن لأنهن يقمن باحتضان الأطفال وتقبيلهم، حيث يبدو الأطفال غير سعداء كلما ابتعدوا عن الاتصال الجسدي الفعلي مع أمهاتهم، ولذا فالأمهات المفطورات بالحرص يُربين أشخاصا بالغين كثيري البكاء تستعبدهم مشاعرهم البدائية. لكن في الوقت الذي يعد واتسون حنان الأمّ المفرط مشكلة، فإن فرويد يعده ضروريا لتطور الطفل بشكل طبيعي.

كاثرين كليمان في كتابها «إغماء» وجدت أنّ الطفل المحروم من الكلمات، «غالبا ما يستخدم ماء الدموع لكي ينجو». وثمّة عادات غريبة مرتبطة بدموع الأطفال، ففي أندونيسيا يربطون ضفدعا ويضعونه في الماء ويرشون بعضا من الماء على الطفل الباكي لينتقل البكاء منه إلى الضفدع، وثمّة محاولات أخرى لتثبيط البكاء في ثقافات أخرى، ففي إحدى المدن الأمريكية ١٨٧٥، حُذر الأطفال الباكون بأنّ البومة ستأتي لتفقأ أعينهم وتأخذهم إلى كهف مظلم. وفي ثقافات أخرى من مثل الأكراد في تركيا وإيران، فإنهم لا يعيرون الأطفال البكائين انتباها، بينما وجدت الأمهات التايوانيات بأنّ البكاء مفيد لهم. وقد حرم المجلس العسكري في أثيوبيا عام ١٩٩٤ بكاء أمهات الأبناء المختفين، وعُدت دموعهن جريمة وخطرا لكونها تستدرُ العواطف!

ومن المفارقة أيضا أنّ البكاء الذي يصدر عن الأنثى يحمل معاني مختلفة عن بكاء الذكور، ويذكر لوتز مثالا على ذلك: فالفتاة التي لم تبكِ في جنازة جدتها وصفت بأنّها باردة الدم ومتحجرة القلب، أما أخوها الذي لم يبكِ هو الآخر فقد هُنئ على رباطة الجأش. يقول المثل: «كل امرأة مُخطئة حتى تبكي».

يستنتج داروين بأننا نبكي بسبب العادات الانفعالية والتعبيرية التي طورناها، ويذهب عالم الفيسيولوجيا جيمس كانون إلى أنّ «المهاد» -وهو جزء قديم من الدماغ من ناحية ارتباطه بالتطور السلالي- يُساعد على تفسير الإحساس بغمرة الانفعال وسيطرته: «هذه النبضات القوية التي تحدث في منطقة الدماغ لا ترتبط بالوعي الإدراكي، وهي تحفز بطريقة غامضة المشاعر القوية في الإثارة الانفعالية وتفسر شعور الشخص بأنّه مستحوذ عليه أو ممسوس أو متحكم به من قبل قوة خارجية»، وبهذا يكون قد نجح كانون في تحويل النقاش من المصطلحات الاستدلالية إلى بنية الدماغ.

طبيعة الموت واحدة في العالم بأسره، لكن استجابة الإنسان له ليست واحدة أبدا، ولذا فمراسم الحداد تُضفي على الدموع سمة طقسية بأشكال مختلفة. كتب جيفري غورو بأنّ الثقافة البريطانية في منتصف القرن العشرين، لا تتحدث عن الموت إلا بتلميحات كما يحدث عند التحدث عن الجنس!

يرى لوتز بأنّ كل تغيير جدي في الحياة ينتجُ عنه إعادة تقييم لخياراتنا وانحيازاتنا، فالدموع هي من أكثر الأشياء تمكنا على الرغم من أنّها الأسرع تلاشيا، وهي الأكثر وضوحا مع أنّها أشد الأدلة على حياتنا العاطفية المعقدة.