مصنع السفن التقليدية بولاية صور .. حكاية من التاريخ البحري والموروث الصوري
- علي العريمي: هناك خطط لتحويل هذا الموقع إلى مشروعات فندقة ولكنه الموقع الملائم لإنزال السفن ويمكن تطوير المصنع ليكون واجهة سياحة.
- سعود البوعينين: قبل أربعين سنة من الآن جئت أنا ووالدي لهذا المصنع الذي صنع لنا سفينة تقليدية لا زالت باقية إلى اليوم.
- سلمان الخالدي: المكان هنا عبارة عن مرساة للذكريات، ودائما أهل البحر ذو طباع شاعرية يشدهم الحنين إلى الماضي الجميل.
أصوات النجارة بأدوات تقليدية ترافقها أصوات المكائن الحديثة، ممزوجة بأصوات المطارق وهي تدق المسامير لتثبيت الألواح الخشبية على هيكل خشبي كذلك، فتتشكل ملامح سفينة تقليدية ضخمة لم أشهد لها مثيلا من قبل، فتلك هي سفينة «الغنجة» قيد الإنشاء الملفتة للنظر بضخامتها، وروائح الخشب تنبعث من المكان نتيجة احتكاك المناشير بالخشب أو انبعاثها من النشارة المتطايرة، هكذا كان شيئا من الأجواء في «مصنع السفن التقليدية» بولاية صور، حيث أعادتنا تلك المشاهد إلى زمن الماضي الجميل وكأننا أمام فيلم وثائقي تاريخي يروي حكاية الآباء والأجداد وحرفتهم وصناعاتهم، ولكن، ما عايشناه للحظات لم يكن إلا واقعا ومصنعا حقيقيا تتربع فيه سفينة الغنجة الضخمة بشموخ وعلو كبير تلفت الأنظار لا محالة إذ ما زالت طور البناء، حافظ المصنع على الصناعة التقليدية للسفن تحديدا، ومختلف الخشبيات من أبواب ونوافذ وكراسي وغيرها من المنتجات الخشبية، إذ ما زال يشتغل على الصناعة بالخشب المستورد والمحلي على حد سواء، لتكون تلك الأخشاب خامته الأساسية التي يطوعها لتكون إما بابًا خشبيًا صغيرًا، أو سفينة خشبية ضخمة، وما بين الحجمين الصغير والكبير منتجات أخرى عديدة.
حكاية تاريخية
استقبلنا صاحب المصنع «علي بن جمعة بن حسون العريمي» خير استقبال، أنا ومصور جريدة عمان حسين المقبالي، ساردًا لنا حكاية المصنع التاريخي الذي يقع على ساحل العيجة منذ أن عرف هو صناعة السفن، إذ كان طفلا يرافق والده - الذي ورث عنه الصنعة أبا عن جد- وهي حكاية طويلة استقصى علي العريمي بدايتها فوصل -حسب قوله- إلى عام 1730 ميلاديا، ومن ذلك الحين والمصنع في هذه البقعة إلى اليوم، وتعاقبت عليه أسماء كثيرة، وهو مصنع ربانه اليوم «علي» وهو خريج تخصص التجارة ومتفرغ اليوم لمصنعه، ويعمل معه ولديه الاثنين حسين وعبدالله في أوقات فراغهما من التزامات الدراسة الجامعية، إلى جانب قوى عاملة آسيوية أخرى، يصلون ساعات الصباح بساعات المساء يوميا عدا يوم الجمعة، فهو الذي يفتح أبواب المصنع من السادسة صباحا إلى السادسة مساء يوميا لتخرج منتجاته كما يطلبها الزبائن بشكل دقيق وحرفي تحت إشرافه المباشر، فقد قال حينما سألناه عن زياراته لمسقط: «الأعمال هنا كثيرة ولا بد من أن أتابع مصنعي أولا بأول، لذلك زياراتي لمسقط قليلة جدا».
أدوات الصناعة
صناعة السفن التقليدية التي يمتهنها علي العريمي ما زالت على نظامها القديم، حيث التعامل مع تجار الخشب من عدة بلدان، تعيدنا هذه التعاملات إلى تاريخ ماضٍ طويل، كانت فيه تجارة الخشب رائجة بشكل كبير، وينتظرها الآباء لتدخل في صناعات كثيرة وبناءات، وها هو العريمي اليوم يستورد الخشب ويستغل الموجود منه في ربوع سلطنة عمان ، إذ قال: «في جدار السفينة الخارجي نستعمل عادة خشب الساج، الذي نستورده من الهند وبورما وماليزيا ويأتي على هيئة قطع ضخمة نطوعها من خلال القص على أشكال محددة وميلان وفق قياسات دقيقة، ولا نستعمل البخار في ثني الأخشاب وتقويسها مثل بعض الصناع، كما نستعمل أنواعا من الخشب المستورد من إفريقيا، إلى جانب الأخشاب الموجودة في عمان مثل أخشاب السدر والقرط، وهي ما يصنع منها الهيكل الداخلي للسفينة، والذي يكون على شاكلة القفص الصدري».
يجمع علي العريمي في مصنعه الألواح على الهيكل، ثم يقسم السفينة كما يطلبها الزبائن منه، مستخدما المسامير المعدنية ذات الأطوال والرؤوس المتعددة، يستورد تلك المسامير من باكستان، وهي مصنوعة من معدن يسمى «جلفنايز» الذي يعتبر مقاوما للصدأ، كما يسد مساما بين الألواح بمادة صمغية ذات كفاءة أعلى مما كان يستخدم سابقا لهذا الغرض، حيث كانت المسام تُسد بالحبال.
المصنع الوحيد
وفي ظل طغيان صناعة السفن التقليدية من مواد حديثة مثل «الفايبرجلاس»، أصبحت ولاية صور تحديدا، التي اشتهرت بمصانع السفن التقليدية، وولايات سلطنة عمان، تخلو تماما من مصنع تقليدي خشبي لصناعة السفن، ليكون مصنع السفن التقليدية في صور هو الوحيد في السلطنة، فقد أغلقت الكثير من المصانع بسبب اكتساح سفن «الفايبرجلاس» السوق، فأصبحت الأخيرة ذات طلب مرتفع، إذ هناك فارق كبير من ناحية السعر والوزن وغيرها من العوامل، ويقول العريمي حول ذلك: «تأثرنا كثيرا وخفت الطلب على السفن التقليدية الخشبية بشكل كبير، رغم أن الخشب أجود ويمكن أن تعيش السفينة لأكثر من ٤٠ عاما دون تأثر».
الأسعار ومتطلبات السلامة والضمان
لارتفاع أسعار السفن التقليدية الخشبية مبرراتها، فقد تستغرق صناعة السفينة الواحدة حوالي عامين من العمل المتواصل، إلى جانب كلفة الأخشاب والأيدي العاملة، إضافة إلى تقديم ضمانات بعد تسليم السفينة للزبون، منها الصيانة لمدة خمس سنوات، وتوفير أجهزة الملاحة والاتصال وغيرها من متطلبات الأمان، وقال لنا حول الأسعار: «تختلف الأسعار وتتفاوت، مثلا السفينة التي قاربنا على الانتهاء منها، وهي من نوع (شوعي) جاءت بطلب من أحد تجار مسقط، لتكون بمثابة مطعم عائم حيث تبلغ مساحتها ما لا يقل عن ١٢٥ مترا مربعا في الغرفة الرئيسية، وهي ذات ٣ طوابق، غرفة المطبخ السفلية، والصالة الرئيسية، والسطح، وتم تزويد الصالة بالمكيفات المركزية، وتبلغ تكلفة صناعتها ١٥٠ ألف ريال عماني، أما سفينة (الغنجة) العملاقة فتكلفتها قرابة ٣٠٠ ألف ريال، وهي أكبر سفينة خشبية تقليدية تمت صناعتها في سلطنة عمان، إذ يبلغ طولها ٥٠ مترا، وعرضها ١٠ أمتار، وارتفاعها ٧ أمتار، وسيتم الانتهاء منها بعد عام تقريبا، وستكون لمشروع سياحي، وتتضمن غرفا عديدة، فأنا أصنع السفن على حسب الطلب، وتأتيني طلبات من دول مجلس التعاون ومن بعض الدول العربية».
مطالبات وأمنيات
في أثناء الحديث تحدث العريمي عن مطالبه وأمنياته، فهو يطالب أن يبقى المصنع في مكانه، كما بدأ منذ سنوات طويلة، فقد بلغه نية الجهات المعنية بتغيير مكان مصنعه ليكون في موقع مغاير، إلا أن المواقع الأخرى يكون فيها مستوى البحر منخفضا، فلا يكون ملائما لإنزال السفن، قائلا: «هذا هو المكان المناسب للمصنع كما بدأ منذ سنين طويلة، لا أريد أن أترك هذا المكان لأسباب كثيرة أهمها ملاءمة العمل لإنزال السفن، قيل لنا إن هذه المنطقة سيتم استثمارها لإنشاء فنادق، ولكن من الممكن أن يوظف المصنع سياحيا كذلك ويبقى في مكانه، ما نريده هو الاهتمام من قبل الجهات المختصة وعلى رأسها وزارة التراث والسياحة، لا أن يتم التضييق علينا».
أبناء المملكة يستعيدون الذكريات
أثناء تجولنا في المصنع، دخل العديد من السياح العرب والأجانب لزيارة المصنع، ومنهم اثنان من المملكة العربية السعودية، وهما سعود بن مبارك البوعينين من منطقة الجبيل، الذي دخل إلى المصنع متفقدا المكان، مستعيدا الزمان الذي يمتد إلى ٤٠ سنة، إذ قال: «جئت إلى هذا المكان لأستعيد ذكريات الطفولة والصفقة التجارية بيننا وبين هذا المصنع وولاية صور، فقد رافقت والدي قبل ٤٠ سنة، وتحديدا في عام ١٩٨٢، حيث طلبنا من المصنع سفينة تقليدية صنعها لنا بكل كفاءة، حينها كنت صغيرا ولكني أتذكر الكثير من التفاصيل، السفينة باقية إلى اليوم، ولكنها في عداد التحفة، نقلنا السفينة بعد الانتهاء من صنعها برا إلى الإمارات، ثم إلى السعودية، وبشكل إجمالي فقد صنع المصنع لوالدي ولأعمامي ولمعارفنا حوالي ٤ سفن».
أما زميله الآخر فهو سلمان خليل الخالدي الذي عبر عن انطباعه في زيارة المصنع قائلا: «المكان هنا عبارة عن مرساة للذكريات، ودائما أهل البحر ذوو طباع شاعرية يشدهم الحنين إلى الماضي الجميل، تغلبهم مشاعر الشوق، والعماني والسعودي من أهل البحر شركاء على مر التاريخ، وسابقا كانت الشراكة حاضرة بين نواخذة البحر العمانيين والسعوديين، هذا ما نشتاق إليه، ولكن تغيرت الحياة ويبقى الحنين للماضي الجميل، ولذلك نحن اليوم هنا قاطعين آلاف الكيلومترات للعودة لهذا الماضي وهذه العراقة».
متحف
استغل علي العريمي موقعه وزيارات السياح خير استغلال، إذ افتتح صالة للتحف والمشغولات الخشبية، ومنذ بداية عام ٢٠١٩ وضع رسوما للزيارة تقدر بريال عماني واحد فقط ليستغل المردود في تطوير المصنع واستثماره سياحيا.
