No Image
ثقافة

مرفأ قراءة... واكتملت "الليالي" في قاهرة المماليك!

06 مايو 2023
06 مايو 2023

- 1 -

في سرده لذكريات أربعين عامًا مع "ألف ليلة وليلة"، يحدد الناقد والأكاديمي القدير الدكتور أحمد درويش بدقة اللحظة التي بدأ فيها النظر وطرح الأسئلة، والبحث عن أصل (الليالي) في العصر الحديث بعد أن اكتشفها الفرنسي أنطوان جالان وترجم أجزاء منها إلى الفرنسية خلال الفترة (1701-17012). يقول الدكتور درويش:

"لقد طرحت الدراسات التي انطلقت مع المستشرق الفرنسي "سلفستر دي ساسي" منذ بدايات القرن التاسع عشر مجموعة كبرى من الأسئلة والفروض والأطروحات حول «ألف ليلة وليلة»، وتطور مخطوطاتها، وتعدد مراحلها من الليالي الهندية إلى الليالي البغدادية إلى الليالي القاهرية، وتتبع فترات تدوينها، ومحاولة تحديد التاريخ الدقيق لاستقرار النسخة المكتوبة في القاهرة حوالي سنة 1530 (النصف الأول من القرن السادس عشر)، فضلًا على الوقوف أمام مستويات النص النثري بها، ومصادر النص الشعري ودلالات الحياة التي مرت بها "حكايات ألف ليلة وليلة" على امتداد أكثر من ستة قرون عاشها النص المفتوح لها، منذ ترجم عن هزار أفسانة في القرن التاسع الميلادي حتى استقر النص في القاهرة في القرن السادس عشر، ونقاط اتصاله بالآداب العالمية، وتفاعله معها على مدى التاريخ"

(ألف ليلة وليلة: أربعون عاما من التأمل، الدكتور أحمد درويش، فكر وإبداع، يوليو 2010)

- 2 -

أيضًا لم يعد هناك خلاف تقريبًا بين الباحثين ومؤرخي الليالي على أن "ألف ليلة وليلة" كانت ثمرة ناضجة وخصبة لالتقاء الأدبين الرسمي والشعبي، الخاص والعام، النخبوي والشعبوي. وتسنى له أن تتحقق له شهرة وذيوع وانتشار تعود بالدرجة الأولى إلى أن هذا الكتاب بالرغم مما لحق به من اضطهاد وتشويه، لكنه عالج بكل مهارة أقدم موضوع شغل الأدب الشفاهي منذ أن أبدعت البشرية أدبًا، وهو ما يتعلق بعلاقة الرجل والمرأة، وضمنا كل المسكوت عنه في الثقافة العربية والإسلامية في العصور الوسطى.

كما كانت (الليالي) في الوقت ذاته التي تكونت فيه نواتها، والتحمت فيه أجزاؤها وتمايزت مجموعاتها الكاملة منذ القرن الثالث وحتى القرن العاشر للهجرة، ثمرة التقاء المستوى الفصيح للعربية باللهجات العامية (عامية العراق وعامية الشام وعامية مصر).

ومعظم الباحثين (وقد أشرنا إلى نموذج منهم) قد استقروا على هذه الحقيقة أو الخصيصة من خلال أدلة نصية تؤكد انتماء هذه اللغة بتداخلاتها السردية والحوارية إلى لغة القرن السادس عشر في قاهرة المماليك بخاصة، والتي تتشابه مع مؤلفات ذلك الزمان الشهيرة؛ مثل موسوعة «بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس (كانت لغة ابن إياس وكتابه المصدر الذي نهل منه جمال الغيطاني، واستلهمه في كتابة روايته «الزيني بركات»)، ومثل كتاب الشيخ ابن زنبل الرمال الذي يحكي فيه واقعة السلطان الغوري مع سليم العثماني، وهو الكتاب المعروف باسم «آخرة المماليك».

- 3 -

وإذا كنا قد عرضنا لنشأة (الليالي) في بغداد فيما بين القرنين الثالث والرابع، وتكوُّن ما سيعرف باسم "الحكايات البغدادية"، فإنها ظلت في تحول وتبدل وإضافة وحذف حتى استقرت في صورتها النهائية في القاهرة، كما سلفت الإشارة، على أننا بعد هذا وذاك إن استطعنا أن ندل على أصل الكتاب، فإن من الصعوبة في البحث تحديد مسارات انتقال وتحولات هذا النص الهائل خلال القرون من الرابع إلى العاشر، ففي حدود ما قرأت لم أجد بحثا أو دراسة توفرت على رصد رحلة الليالي خلال تلك الفترة الطويلة وتتبعها بدقة منذ لحظة الميلاد وبزوغ الأصل إلى اكتمال النص بصورته النهائية في قاهرة المماليك (القرن السادس عشر). وأظن أننا يمكن بعد ذلك أن نتعرف ولو بإيجاز على الطابعين البغدادي والقاهري لحكايات "ألف ليلة وليلة"، كما انتهت إلينا.

أما (بغداد) فأثرها في الكتاب يتضح من أخبار الخلفاء، وبلاط الخلفاء، وقصور الخلفاء. ونخص بالذكر منهم هارون الرشيد. فقد وصفت (الليالي) بطريقتها القصصية اللطيفة أسلوب هذا الخليفة في الحكم وحبه للرعية وحب الرعية له. ووصفت سيره في ظلام الليل متنكرًا ليتفقد أحوال الرعية، ثم يخبرهم بها في صباح اليوم التالي.

وباختصار شديد كان اسم الرشيد في هذه القصص رمزًا للعصر الذهبي للأمة الإسلامية. وكان من السهل أن تُحكى عنه الأعاجيب، وتدور حوله الأساطير، وهو ما فعلته بالضبط قصص "ألف ليلة وليلة". ثم لم تكتف الليالي بكل ذلك حتى أخذت تصف الرشيد بأنه إنسان متعدد الجوانب، فهو متدين كأقصى ما يكون المتدينون، وهو محب لمباهج الحياة الدنيا كأشد ما يكون عليه المحبون للحياة الدنيا، (والليالي) في كل ذلك تتفق مع ما نقرأه في كتب التراث العربي والأدب العربي من أخبارٍ قصار عن الرشيد في هذه النواحي.

وأما (البصرة) فقد كان لها هي الأخرى ظلٌّ في كتاب "ألف ليلة وليلة"، وظهر هذا الظل في بطش حكام البصرة بالرعية، وربما كان لهذا صلة ما بتاريخ هذه المدينة من مدن العراق، وإلا لما استطاع القاص أن يأتي بهذه الصورة التي اشتمل عليها الكتاب، كما يقول المرحوم عبد اللطيف حمزة في كتابه عن "الأدب الشعبي في مصر في عصر المماليك".

- 4 -

فإذا انتهينا من الإشارة إلى ملامح الطابع البصري، والطابع البغدادي في حكايات الليالي، فيمكننا الآن النظر في الطابع المصري الذي دمغ ما يزيد على ثلثي الليالي في طبعاتها الكاملة. وقد التفت إلى هذه المسألة الدكتور درويش للدرجة التي حدت به إلى تركيز اهتمامه على ما يسميه "الليالي المصرية" لأنها "تشكِّل، من ناحية الترتيب التاريخي، المرحلة الأخيرة الأكثر نضجًا والتي تمتد خيوطها بالضرورة في المراحل السابقة، ولا تنفصل عنها".

ويتساءل الدكتور درويش -مع كثيرين غيره- حول أسرار العبقرية الفنية للراوي المصري المجهول الذي صاغ حكايات كاملة ومكتملة مثل حكاية "أبو صير وأبو قير" وحكاية "دليلة المحتالة وزينب النصابة"، وحكاية "معروف الإسكافي" التي طبقت شهرتها الآفاق، والصعيدي وزوجته الإفرنجية، وحكاية مريم الزنارية، وعلاء الدين أبو الشامات، وحكاية الملك النعمان وولديه شركان وضوء المكان، وغيرها من الحكايات التي يتم نسج الخيوط فيها على يد حكاء ماهر محترف مجهول، استطاع أن ينقل الحكايات الغفل التي وصفها ابن النديم عندما رآها في الترجمة العربية في كتاب "هزار أفسانه" بأنها حكايات "غثة باردة" إلى روايات متداخلة متشعبة محكمة تستطيع أن تأخذ بالألباب، وأن تغري السمار في حلقة الراوي بالعودة إليها في الليلة التالية.

- 5 -

ويرصد الدكتور درويش بدقة جمالية الليالي مع تجسيدها لواقع وتفاصيل المجتمعات العربية آنذاك، فمع الثراء الجمالي للشكل والمزج بين بساطة الواقعية السحرية، وحيل الإبهار الخارقة، حسب طبيعة الموقف، فإن المضامين تشف عند التأمل عن خصائص مهمة في بنية مجتمعاتٍ ما زلنا نعيش امتداداتها، وظواهر ربما لو خضعت لتأملات المتخصصين في شتى فروع المعرفة لوجدنا في بعضها إشارات إلى كثير من مشاكلنا المعاصرة.

ويتخذ الباحث مثالا من الليالي المصرية؛ ليدلل على ما يقول، ويتساءل: فهل يمكن لحكاية "دليلة المحتالة" إلا أن تكون تجسيدا لصراع السلطات على حساب العامة، وتعدد أنواع ذلك الصراع بين سلطة الحاضر وبقايا سلطة الماضي، والقوة الناعمة الخفية والقوة الخشنة الظاهرة، وحسم الصراع من يملك الحيلة أو العنف أو كليهما وليس من يملك الحق، ومساندة السلطات العليا لذلك الموقف بل وتعاونها معه والإفادة من بعض نتائجه؟

وهل يمكن، ونحن نتأمل صورة الفرنجة في أدب عصر الحروب الصليبية من خلال "ألف ليلة وليلة" عبر حكاية الملك النعمان -مثلا- أن نغفل صور الأمراء والقادة وهم يرتمون في أحضان الشهوات، ويغلبون مصالحهم على المصالح العامة وما يترتب على ذلك من آثار مدمرة؟ إلخ..