ثقافة

مرفأ قراءة ... "متعة القص".. أم متعة النقد؟

18 سبتمبر 2021
18 سبتمبر 2021

- 1 -

عبر ما يقرب ما عشر سنوات أصدر الناقد والأكاديمي المعروف الدكتور جابر عصفور (وزير الثقافة المصري الأسبق) ما يقرب من الكتب الخمسة التي ضمت جلَّ ما كتبه من نقد تطبيقي عن نصوص روائية وقصصية (صدر معظمها عن الدار المصرية اللبنانية فيما بين عامي 2012 و2019). وها هو يتوج هذه المجموعة بكتابه الأخير الصادر عن الدار ذاتها في الأشهر القليلة الماضية.

الكتاب عنوانه «متعة القص ـ مراجعات وقراءات» ويقع في 545 صفحة من القطع القريب من المتوسط؛ ويضم ما يقرب من 40 قراءة ومراجعة نقدية لنصوصٍ روائية مصرية وعربية، أصحابها ينتمون إلى أجيال متفرقة من المبدعين المصريين والعرب منذ الخمسينيات والستينيات، وما تلاها، حتى العقد الأول من الألفية الثالثة.

وجابر عصفور من النقاد الذين يشغلهم استخلاص النموذج التفسيري (إذا صح التعبير) لعناصر ومكونات العمل الفني الذي يتصدى له قراءة وتحليلًا؛ فهو الناقد الذي استوعب تيارات النقد الحديث والمعاصر، وتنقل بينها بوعي واستيعاب ووظف أبرز التجليات المفاهيمية في تيارات النقد البنيوي وما بعده وصولًا إلى النقد الثقافي "التنويري" بمفهومه الرحب الشامل.

واستطاع صاحب «نظريات معاصرة» أن يطور منهجيته وأدواته التحليلية والإجرائية عبر ما يقرب من نصف القرن! رحلة نقدية عامرة استهلها بنقد الشعر في أعماله الأولى (كانت أطروحتاه في الماجستير والدكتوراه عن الصورة الشعرية لدى شعراء الإحياء في الماجستير، والصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي في الدكتوراه) ثم جمع بين نقد الشعر والنثر؛ إلى أن غلب كمًّا تفرغه لنقد الرواية الذي أخرج فيه أكثر من كتاب بدءًا من «زمن الرواية» (1999) وليس انتهاء بطبعته المطورة المحدثة «زمن القص ـ شعر الدنيا الحديثة» (2019).

وليس هذا الكتاب هو الأول الذي يفضل فيه جابر عصفور مصطلح "القص" عن "الرواية". ثمة تحول جذري في دلالة المصطلح واتساع المفهوم، وبعد أن نشر جابر عصفور كتابه المدوي «زمن الرواية» (1999) عاد ليصدر طبعة مطورة ومزيدة من الكتاب بعد عشرين سنة بعنوان «زمن القص ـ شعر الدنيا الحديثة» (2019)، ومن قبلها كان أصدر كتابه «القص في هذا الزمان» (2016)؛ وهو الذي يمكن أن نعتبره مجازًا الجزء الأول من «متعة القص».

- 2 -

في الكتب الثلاثة المشار إليها، ويجمع بينها في العنوان مصطلح "القصّ"؛ ينطلق فيها جابر عصفور من تأسيس معرفي وفلسفي عميق؛ يقوم على تحليل مفاده أننا نعيش وضعًا معرفيًّا مغايرًا في صيغه التأسيسية، يمكن التعبير عنه بما ذكره والاس مارتن في مقدمة كتابه الشهير «نظريات السرد الحديثة»، حين ذكر أن الاهتمام بنظريات السرد، ذلك الاهتمام الذي أصبح واضحًا كل الوضوح في النقد الأدبي المعاصر، هو جزء من حركةٍ واسعة، يدعوها توماس كون «‬تغير النموذج المعرفي‮» أو الصيغة المنهجية الحاكمة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويقصد والاس مارتن إلى أن مناهج العلوم الطبيعية ظلَّت نموذجًا‮ يُحتذى في المجالات المعرفية الأخرى منذ القرن التاسع عشر، لكن ثبت منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين أن هذا النموذج لم‮ يعد ملائمًا لفهم ظواهر المجتمع والثقافة، والإنسانيات عمومًا.

وكان من نتيجة ذلك، كما يقول جابر عصفور، أن أفسحتِ النزعة السلوكية التي سادت علم النفس إلى عهدٍ قريب الطريقَ لاستكشاف العمليات المعرفية والفعل القصدي‮.

وأظهر فلاسفة التاريخ أن السرد ليس بديلًا انطباعيًّا لإحصائيات موثوقٍ بها، وإنما منهج لفهم الماضي الذي ينطوي على مبرراته الخاصة.

وانتهى علماء الأحياء والإنسان والاجتماع، إلى أن دراسة السلوك المحاكي لا‮ يقل أهمية عن القياس الكمي في شرح تطور الحيوان والتفاعل الاجتماعي‮، وأثبتت نظرية الفعل في الفلسفة، من حيث هي مؤسسة على المقاصد والخطط والأهداف، أنها مناسبة لمجالاتٍ معرفية طالعة؛ من مثل تحليل الخطاب، والذكاء الاجتماعي‮.

وعادت المحاكاة والسرد (بما يوازيه أو يدل عليه أو يحل محله من القصّ) من حيث كانا في الهامش بوصفهما‮ "‬خيالًا" يناقض الواقع، واحتلا موقع المركز من المجالات المعرفية الأخرى بوصفهما صيغتين ضرورتين لفهم الحياة.

ولسنا في حاجةٍ للذهاب إلى معاهد التعليم لكي نفهم أهمية السرد أو القص في حياتنا فيما‮ يمضي والاس مارتن، فأخبار العالم تأتينا في شكل‮ «‬قصص‮» تُروى من وجهة نظر أو أخرى‮. وتنفتح دراما الكوكب الأرضي كل أربع وعشرين ساعة منقسمة إلى خطوط متعددة، في قصةٍ لا‮ يعاد تكاملها إلا عندما تفهم من منظور شخص أمريكي (أو روسي أو نيجيري‮) ‬ديموقراطي (أو جمهوري أو ملكي أو ماركسي‮) ‬بروتستانتي (أو كاثوليكي أو‮ يهودي أو مسلم‮). ‬ووراء هذا الاختلاف‮، يوجد التاريخ وأمل في المستقبل، كما‮ يوجد لكل واحدٍ منا تاريخ شخصي، سرديات حياته الخاصة التي ‬تمكنه من بناء ما هو عليه، وما‮ يتجه إليه.

وإذا عكسنا هذه القصة بتفسير أحداثها، من وجهة نظر مغايرة، تغير الكثير منها. وذلك هو السبب في أن السرد، حين يدرس بوصفه أدبًا، يغدو أرض معركة عندما‮ يتحقق في ‬صحف وسيرة وتاريخ.

- 3 -

وفي هذا الكتاب الضخم الذي ينقسم إلى قسمين؛ مراجعات وقراءات؛ يمايز بينهما جابر عصفور من حيث الهدف والوظيفة والمساحة؛ فالمراجعات تمثل نوعا من الكتابة التي يمكن أن نعتبرها مراجعة سريعة يفرضها مكان النشر؛ وهي كلها في النهاية كما يؤطرها جابر عصفور كتابة تخضع في المقام الأول "لما تفرضه الجريدة على الكاتب من عدد محدود من الأسطر التي لا ينبغي أن تتجاوز رقما بعينه من الكلمات"؛ وهذا يقتضي لزوما الالتجاء إلى التكثيف والتلخيص والاستغناء عن التفاصيل والاكتفاء بعرض فكرة رئيسية واحدة أو فكرتين على الأكثر.

أما "القراءات" فتختلف تماما عن المراجعات في أن جابر عصفور يعتبرها قراءة موازية للنص الإبداعي ذاته، حيث تتسع الصفحات وترحب المساحة كي تستوعب تحليلا متأنيا وتفصيليا وشارحا للعمل الأدبي الذي يكتب عنه، وهو ما يراه دائمًا، ويلح عليه في كل كتاباته النقدية، بمثابة كتابة على كتابة، أو قراءة موازية لكتابة النص الروائي.

وعلى هذا فبعض المراجعات عن أعمال بعينها كان يرى أنها تستحق قراءات أعمق ومن ثم جهدا أكبر في التأمل والقراءة والكتابة أو بعبارة أخرى "تستحق كتابة جديدة هي من قبيل القراءة"؛ فهل تحولت المراجعات إلى قراءات.. أم أننا بصدد مراجعات منفصلة وقراءات مستقلة؟

يجيب جابر عصفور عن ذلك بوضوح ودون أي مواربة "لم يكن عندي الوقت الكافي لتحويل المراجعة إلى قراءة، ولذلك آثرت إبقاء الوضع على ما هو عليه إلى أن يتيسر الوقت لتحقيق هذه الأمنية".

- 4 -

من بين ما يثيره الكتاب من قضايا أشار إليها الناقد في مقدمته ثنائية القيمة والرواج وهي واحدة من ثنائيات عديدة صارت تشغل جمهور الأدب ومحترفي القراءة والكتابة على السواء؛ فمن بين ما أبرزته تطورات الاتصالات وظهور السوشيال ميديا على الأدب في السنوات العشرين الأخيرة، هذه الثنائية التي شغلت حيزا ضخما من المناقشات والجدل جر وراءه وارتباطا به حديثا آخر حول الجوائز ودورها (الإيجابي أو السلبي) على النشاط الأدبي والإبداعي؛ كما ونوعا.. إلخ هذه القضايا التي ما زالت محل جدل ونقاش أظنه مثمرًا حتى وإن كان ظهوره وسط فوضى عارمة وغير مسبوقة (لا أقول خلاقة أبدا!) وإنما على ثقة بأن كل فوضى سينبثق من قلبها ما يلم شعثها وينظم إياها للوصول إلى ما يمكن أن نطلق عليه تمييز تيارات الكتابة الفنية والجمالية الحقيقية المتجاوزة؛ وهو ما يسعى هذا الكتاب مع نظائر له في السنوات الأخيرة إلى اقتناصه والإشارة إليه..