656565
656565
ثقافة

مرفأ قراءة... ماريو بارجاس يوسا.. الروائي «ناقدا»!

05 يونيو 2021
05 يونيو 2021

إيهاب الملاح -

«على الرواية أن توجد إيهامًا بالواقع أكثر من أن تقدم معرفة موضوعية ومحددة عما يكونه الواقع في أي مجال...»

(ماريو بارجاس يوسا في «الكاتب وواقعه»)

- 1 -

من المواد الشائقة دائمًا بالنسبة لي، ومحل اهتمام أصيل قراءة ما يكتبه الكتاب المبدعون؛ وبالأخص الروائيون (بألف لام التعريف) عن الفن الذي يمارسونه، حينما يكون المبدع مثقفًا حقيقيًّا بفضاءات النوع الكتابي الذي يمارسه، فإنه يمتلك وعيًا فريدًا ومختلفًا بالتأكيد عن غيره ممن يكتبون بلا ثقافةٍ ولا وعي. متعة حقيقية أن تقرأ نظرات الكتاب ورؤاهم النقدية العفوية دون تنظير غليظ في تناولاتهم لمعاناة الكتابة أو قراءتهم لأعمال آخرين غيرهم أو تصوراتهم للفن الإبداعي أو الجنس الأدبي الذي يزاولون كتابته.. متعة ومعرفة واستبصارات عميقة خالية من التقعر والافتعال تتجاوز بكثير الكتب الصماء المخصصة للنظريات الأدبية والنقدية، المؤلفة منها والمترجمة.

كتب الروائي العراقي المعروف أحمد سعداوي، أحد أبرز أصوات المشهد السردي والإبداعي عمومًا في العراق الشقيق، تحت عنوان (ملاحظات حول كتابة الرواية)، كتب يقول:

«الكتب النقدية النظرية قد تكون مفيدة، ولكنها يمكن أن تربك الكاتب الناشئ وتعقد له طرق الوصول إلى إنجاز عمله الأول. أفضل الكتب، بهذا الصدد، هي الكتب التي يشرح فيها الروائيون تجاربهم الشخصية، أو كتب المذكرات الخاصة بالروائيين. وكذلك الكتب التي تقدم دراسات تطبيقية على أعمال روائية مشهورة. بالإضافة إلى التحليل الشخصي للرويات الشهيرة، والقراءة العميقة في عيون الأدب، وهي أمور لا يمكن الاستغناء عنها في تطوير وتربية الذائقة والوعي الروائي للكاتب».

- 2 -

ولطالما كان استجلاء تأملات الكتابة أو استخلاص خبرات عملية الكتابة في ذاتها أو ما يطلق عليه القاص والمترجم محمد عبد النبي «تمرينات الكتابة»؛ لطالما كانت جزءًا من مسيرة أي كاتب، سواءً من المبتدئين أو المكرسين الذي يعرفون قيمة هذه الأداة الثمينة.

وقد نجد في مذكرات بعض أكبر وأشهر الكتّاب، مثل «فلوبير» و«تشيخوف» و«هيمنجواي»، أمثلة عديدة على ما نسميه اليوم تمرينات الكتابة، وإن لم يمنحوها هذا الاسم عندئذٍ. يتحدث ف.سكوت فيتزجيرالد على سبيل المثال عن «حيلة كتابة» تعلَّمها هو وهيمنجواي من جوزيف كونراد. وفي كتابه «فن السرد»، يقول جون جاردنر عن تمرينات الكتابة: «عندما يتناول الكاتب المبتدئ مشكلةً صغيرة ومحددة، من قبيل وصف مشهد أو وصف شخصية، أو كتابة حوار قصير له غرض محدد، فإن مستوى عمله يقترب من درجة الاحتراف».

وأتصور أن كل كاتب كبير وصاحب إنجاز حقيقي (روائيًا كان أو قاصًا أو شاعرًا أو مسرحيًا) لا بد أن ينطوي على ناقدٍ رهيف ذي حساسية عالية، ومزيجٍ مركب وعجيب، لكنه فريد، بين المؤرخ والفيلسوف والمحلل النفسي وعالم الاجتماع.. دون أن يقصد أن يكون هذا أو ذاك بعينه!

على سبيل المثال لا الحصر؛ كان نجيب محفوظ، وهو صاحب الإنجاز الباهر والشاهق في تاريخ الرواية العربية، كان ناقدًا رائعًا ومفكرًا بالرواية ومنظرًا فيلسوفًا دون أن يكتب حرفًا بهذا العنوان؛ إنما كان يفيض منه ما يدل على ذلك خارج دائرة إبداعه الفني المعجز في حواراته وحوارياته وأحاديثه التي ما زلتُ عند رأيي بأنها تمثل كنزًا معرفيًّا ونقديًّا لا مثيل له.

كذلك، معظم كتاب الستينيات كانوا يتحدثون بوعيٍ ممتاز عن نظراتهم للكتابة والإبداع، وتصوراتهم الخاصة عن ماهية الإبداع والرواية والقصة بل النقد أيضًا، وبكل ما تشتمل عليه العملية السردية عمومًا من عناصر بناء وجماليات وتقنيات فنية.. إلخ.

- 3 -

في الآداب العالمية، يمكن القول وباطمئنان، إن ثمة ركن قيم في المكتبة العالمية، يضم كل ما سجله الكتاب والمبدعون والأدباء عن تجاربهم مع الكتابة؛ ويومياتهم وتصوراتهم ورؤاهم وتنظيراتهم الجمالية والفنية (في الشعر والقصة والرواية والمسرحية). عشرات الكتب التي تسجل تجارب الروائيين وخبراتهم الإبداعية في هذا المجال، منها مثلًا كتاب الروائية والقاصة الكندية الشهيرة مارجريت آتوود المعنون «مفاوضات مع الموتي ـ تأملات كاتب حول الكتابة»، وآتوود منذ أعوام على قائمة المرشحين لنوبل، وهي حاصلة على جائزة البوكر البريطانية مرتين!

من أهم ما يمكن أن نقرأه في هذا الإطار، ثلاثية الكاتب الروائي والناقد البيروفي المعروف ماريو بارجاس يوسا الحاصل على جائزة نوبل في الآداب للعام 2010؛ وصاحب الروايات الرائعة: «في مديح زوجة الخال»، و«طفلة شيطاناتي الخبيثة»، و«حفلة التيس»، و«حرب نهاية العالم»، و«حكاية مايتا»، و«من قتل بالومينو موليرو؟».. وغيرها من الروايات العظيمة.

واسم «يوسا» تحديدًا يبرز من بين الكوكبة الزاهرة المتألقة من كتاب أمريكا اللاتينية الذين ظهروا في العقود الخمسة الأخيرة، وملأوا الدنيا إبداعًا ورواياتٍ جميلة كرست لتيارٍ فني كامل عرف بالواقعية السحرية، يتألق اسم الروائي البيروفي الأشهر وسط هذه المجموعة المنتقاة ذات الموهبة العالية من الكتاب النجوم الذين شهروا بـ «كتاب جيل الازدهار»، وهو الجيل الذي دفع بأدب أمريكا اللاتينية إلى صدارة الأدب العالمي.

والقليل من الكتاب نزهاء بشأن أعمالهم مثل بارجاس يوسا، والأقل منهم المتبصرون بأعمالهم مثله. إن استقامته وحياده بخصوص تلك العناصر من حياته التي تحتويها أعماله بوضوح، تضيء شخصيته الأدبية، وتظهر اهتماماته الملتزمة بالكتابة الأدبية عامة، وبفنه الخاص على وجه التحديد.

وثلاثية يوسا هذه تشمل: «الكاتب وواقعه»؛ وصدرت ترجمته العربية عن المشروع القومي للترجمة في 2005، وكتابه المهم «رسائل إلى روائي شاب» (صدرت ترجمته العربية عن دار المدى)، والثالث كتابه الممتع «إيروس في الرواية» وصدر عن دار نشر تونسية في 2009، وسأخص الكتاب الأخير بقليلٍ من التفصيل.

- 4 -

«إيروس فى الرواية»، على صغر حجمه (يقع في 135 صفحة من القطع الصغير) يتضمن مجموعة من الدراسات النقدية الألمعية الممتازة التي كتبها يوسا (وله أيضًا دراسات نقدية مهمة عن ماركيز وفلوبير وآخرين من عظماء كتاب الرواية وأعلامها الكبار.. إلخ)، و«إيروس» كما هو معروف هو إله الحب والرغبة والجنس عند اليونان.

يتضمن الكتاب (هو أقرب إلى كتيب منه إلى الكتاب على الحقيقة) مقالاتٍ عميقة ورؤى جديدة لمجموعة من أشهر الروايات العالمية التي يلعب الجانب الإيروتيكي فيها دورًا محوريًّا، وهذه الروايات على الترتيب؛ هي: «الموت في البندقية» لتوماس مان، و«المحراب» لوليام فوكنر، و«مدار السرطان» لهنرى ميللر، و«امرأة من روما» لألبرتو مورافيا، و«لوليتا» لفلاديمير نابوكوف، و«بيت الجميلات النائمات» لكاواباتا، و«الدفتر الذهبي» لدوريس ليسينج..

وقد ترجمها الشاعر والناشر التونسي وليد سليمان، وصدرت فى سلسلة «ديدالوس»، وبتقديمٍ خاص من يوسا نفسه لقراء الطبعة العربية الصادرة في تونس، ولحسن الحظ فإن كل هذه الروايات الشهيرة متاحة كاملة في ترجمات عربية رصينة وجيدة (باستثناء رواية «المحراب» لفوكنر.. ربما لأني لم أعثر على ترجمة عربية لها حتى الآن) لمن شاء أن يراجع هذه الروايات، عقب قراءة ما كتبه يوسا عنها، وبالجملة فإن متعة قراءة يوسا الناقد، وقراءاته النقدية النافذة، لا تقل أبدًا عن متعة قراءة أعماله ورواياته الإبداعية الخالصة.

- 5 -

وتكشف هذه المقالات عن ناقدٍ من الوزن الثقيل لا يقل أهمية عن يوسا الروائي، ثقافة واسعة، وطاقة حب هائلة لفن الرواية ولكبار مبدعيها، وخبرة حياتية معتبرة، مع قدرة فريدة على التحليل والتفكيك والمقارنة، هكذا يكون نقد الروايات في نماذجه الرفيعة، إبداع مواز للعمل الأصلي، وحوار لا ينقطع مع الذات، ومع الآخر، ومع الفن والجمال. بالإضافة إلى ذلك، فإن مما يسترعي الانتباه تلك التحليلات التي يقدمها يوسا حول صنعة الرواية وآليات البناء، يقدم دروسًا ذهبية ثمينة حول تكنيك الكتابة، ورسم الشخصيات، وإضفاء المعنى وتوليد الدلالة، عن الكيفية التي يتمكن بها الروائي من الحفاظ على فضول وشغف قارئه، إن «الرواية» عند يوسا هي في الأساس فن للإمتاع والإدهاش، قبل أن تكون فنًّا للمعرفة والسؤال والتأمل.

(وللحديث بقية)..