No Image
ثقافة

مرفأ قراءة .. قراءات معاصرة للسيرة النبوية الشريفة

16 أكتوبر 2021
16 أكتوبر 2021

"ولم يكن النبي الكريم شتامًا ولا لعانًا ولا بذيئًا!"

(صلى الله عليه وسلم)

- 1 -

درجتُ منذ سنواتٍ ليست قليلة على طقس يكاد يكون شبه ثابت في ذكرى ميلاد النبي الكريم رسولنا الخاتم محمد (صلى الله عليه وسلم)؛ أقرأ ما تيسر من سيرته الشريفة في الكتب القديمة والحديثة والمعاصرة على السواء؛ لا أقف عند التفاصيل بقدر ما تظهر المعاني وتتجلى الدلالات؛ وكنت كلما أعاود القراءة أكتشف جوانب من العظمة الإنسانية والسمو والرفعة التي تليق بخاتم الرسل والأنبياء ومبلغ رسالة السماء إلى العالمين.

ودائما ما كانت تستوقفني تأملات بعض الكتاب والمفكرين في معنى "النبوة" والمغزى في أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.. وكان مما اقتنصته في هذا الشأن؛ هذه الفقرة البليغة التي يقول فيها الشاعر الباكستاني الأشهر محمد إقبال: «إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مقود يُقاد منه، وإن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو... ومعنى هذا أن على الإنسان ألا ينتظر وحيا جديدًا، وألا يعتمد على وسيلة من وسائل المعرفة التي تشابه الوحي، في تلقائيتها وشمولها، وأن يحدد لوجدانه وغرائزه وظيفة غير وظائف المعرفة، وأن يجعل من العقل وحده الوسيلة الإنسانية الحقة للمعرفة...

ويبقى للدين دوره الخطير في الوجود، لا بكبت العقل أو تحديد مجاله، أو التدخل في تطلعاته، ولكن بضمان استغلاله لخير الإنسان والوجود، وصده عن مغريات التدمير والهلاك ، ونشره الحب لواء يستظل به المفكرون، ويتقون به نداءات الأنانية والكبرياء والعبث واليأس. بذلك يتقدس العقل، ويحقق غزواته، في رحاب الكون وحقيقته العليا، ويصبح تكريس الحياة له عقلانية وعبادة في آنٍ».

وكان من اللافت أن هذا النص الرفيع نقلا عن الهادئ الوديع الصوفي السمح، نجيب محفوظ، في حولياته الرائعة عن الدين والفلسفة والثقافة، (الدار المصرية اللبنانية، ج1، ص 43) وقد كان أديب نوبل من المولعين بقراءة السيرة المطهرة، ومعاودة قراءتها وتأثر بكتب السيرة ومطولاتها في استلهام بعض أعماله الروائية والسردية.

- 2 -

كذلك من بين كتب السيرة النبوية التي كتبها معاصرون، أحب كثيرًا كتاب الراحل محمد حسين هيكل (1886-1956) المعنون "حياة محمد"؛ وهو كتاب ضخم يقع فيما يقرب الـ 600 صفحة من القطع الكبير؛ ويكاد يكون هذا الكتاب أول مؤلف عصري يأخذ بفكرة المنهج العلمي والتحقيق التاريخي في كتابة السيرة النبوية، وليس اعتمادًا على ما ورثناه فقط من مطولات ونصوص ومخطوطات، بل إن مؤلفه قد قرأ أيضًا ما كتبه المستشرقون الغربيون عن السيرة المشرفة، وأخذ في مناقشة الآراء والمقارنة والترجيح بينها، والرد على ما يستوجب الرد منها إن كان فيها ما لا يصمد للادعاء والبحث العلمي؛ وبهذا يستحق هذا الكتاب بجدارة وصدق أن يكون أول مؤلَّف معاصر في السيرة النبوية المشرفة يحظى بما حظي به من انتشار وقبول في أوساط المثقفين المسلمين وغير المسلمين، في مصر والعالم العربي والإسلامي، وخارجها أيضًا.

كان محمد حسين هيكل رجل علم وقانون وسياسة وأدب ونقد، وكان يتسم بالانضباط والحرص على المنطق والعقلانية في كل ما يكتب، حريصا على التوثيق والتدقيق، متثبتا في الوقائع والتواريخ، بيِّنا في أسلوبه وعباراته، وكان ذا تخطيط صارم في بناء كتبه وتبويبها والتخطيط لها.

- 3 -

لقد بدأ محمد حسين هيكل حياته الفكرية معجبًا بالحضارة الغربية وأفكارها، بتأثير دراسته في فرنسا، ونزعته الوطنية إلى النهضة والتهذيب. وسرعان ما اتجه إلى التراث الفرعوني يتلمس مصادر القوة فيه، لكنه استقر على التراث الإسلامي، وكان أول من لفت النظر إلى إمكان توظيف إيجابياته وقيمه الباقية. وقد استغل هيكل فن التراجم ليقدم أفكاره من خلاله، ونشر "حياة محمد" (1935)، وبعد سنوات نشر "الصديق أبو بكر" (1942)، ثم "الفاروق عمر"، جزآن (1944، 1945) كما انتهى من كتابه "عثمان بن عفان"، لكنه لم ينشر إلا بعد وفاته (1964).

وقد استقبلت كتب هيكل مع غيره من كتاب جيله، في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، بحفاوة وترحيب لا مثيل لهما، وقد نفد كتاب هيكل في سنة صدوره ونال شهرة واسعة وعريضة في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي، سواء في أوساط المثقفين أو في أوساط الجماهير والقراء العاديين. وقد اعتبر الكثيرون من الباحثين والدارسين والعرب والغربيين محاولة هيكل في كتابة السيرة النبوية من منظور علمي وعقلاني معاصر محاولة جريئة وموفقة.

ولقد كشف هيكل في عمله هذا، والأعمال التالية، عن عقلية شديدة الاحترام لروح الدين وجوهره وتعاليم الإسلام ومبادئه الإنسانية السامية، وقد بذل هيكل الكثير من الجهد على نحو ما فعل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده حتى يوفق بين مبادئ الإسلام وتعاليمه وبين العلم والعقل والحداثة، وقد احتفى شيخ الأزهر حينها الشيخ المراغي لهذه المحاولة التي تخضع السيرة لدراسة تاريخية تقوم على أسس من المناهج النقدية كما بلغتها الدراسات العلمية طيلة القرون الماضية.

- 4 -

وأخيرًا.. باسم الرسول الكريم وادعاء اتباع سنته وتنفيذ أوامره، ارتكب المجرمون والإرهابيون جرائم تندى لها الجبين والرسول الكريم منها براء. وخير دليل على عظمة الرسول، وكمال خلقه وخلقه، وتمام رقيه وسموه، وشريف دعوته ورسالته، سيرته المطهرة المشرفة التي تؤكد بوقائعها وتفاصيلها ومواقفها أن رسولنا صلى الله عليه وسلم داعية خير وسلام وهداية ورفعة.. ورحم أمته، صلى الله عليه وسلم، والمنتسبين إليه مما يلغُون فيه من جهل وتخلف وتراجع حضاري مفزع..

آذوه في مكة وسبّوه بأقذع السباب، وألقوا عليه قاذوراتهم وفضلاتهم، وهو يصلي، وكانت ابنته فاطمة تبكي وهي تمسح بثيابها بقايا الفضلات والقاذورات التي كانوا يلقونها عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يهون عليها ويقول لا تبكي يا فاطمة.. وحينما ذهب للطائف يدعو إلى ربه أوغروا إلى سفهائهم وأشرارهم بالنيل منه فسخروا منه وعابوه وسبوه وجروا وراءه في الطرقات يقذفونه بالطوب والحجارة فلم يكن منه إلى أن دعا ربه بالدعاء الذي أحفظه ويحفظه الملايين عن ظهر قلب:

«اللهُمَّ إليكَ أشكو ضعفَ قوَّتي، وقلةَ حيلتي، وهواني على الناسِ، يا أرحمُ الراحمينَ إلى منْ تكلُني؟ إلى عدوٍ يتجَهَّمُني، أمْ إلى قريبٍ ملَّكتَهُ أمري؟ إن لمْ يكنْ بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هي أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ لهُ الظُّلُماتُ، وصلُحَ عليهِ أمرُ الدنيا والآخرةِ، أن تُنزلَ بيَ غضبَكَ أو تُحلَّ عليَّ سخطَكَ، لكَ العُتْبى حتى تَرضَى ولا حولَ ولا قوةَ إلا بكِ»..

وحينما منَّ الله عليه بالنصر المؤزر والفتح الأعظم، دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا وملك أمرها وأمر من فيها.. وجاءوه بعشرات وعشرات أسرى مقيدين مسلسلين، كلهم ملك يمينه في الأسر.. قال صلى الله عليه وسلم: ماذا تظنون إني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم.. وابن أخ كريم.. فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء..

لم يسبّ أحدا بفاحش من القول.. ولم يجزّْ رقبةً بغير نفس.. ولم يغدر ولم يخن ولم يزهق أرواحًا بريئة..

هذا هو الرسول الذي أحبِّه وأصلِّي وأسلم عليه.. الرسول الذي لم يدعُ أبدا إلى جزّ الرقاب وإرهاب الناس والإساءة إليهم مهما كان حتى لو كانت الإساءة له شخصيًّا.. صلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين الداعي إلى سلام البشرية، وكمال الدين بتحرير العقل.