مرفأ قراءة... «الفهرست» لابن النديم في نشرةٍ معاصرة
- 1 -
أحرص كل عام في زياراتي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب على تخصيص وقت محدد لزيارة الأجنحة المخصصة لكتب التراث العربي في مجالاتها وفروعها المعرفية، كما أحرص أيضا على متابعة الجديد في حقل الدراسات التراثية؛ منهجا ودراسة وقراءة ونقدا، وذلك بموازاة البحث عن النشرات والطبعات الجديدة من الكتب التراثية ذات القيمة النوعية، وأظن أننا في حاجة ملحة إلى إعادة النظر كل فترة زمنية (في حدود العقد أو العقدين) بتأمل ما سبق لنا إصداره والتأكد من العثور على مخطوطات جديدة يمكن أن تثري النشرة القديمة أو تضيف إليها أو نعثر على مفقود منها .. إلخ.
ولعل من بين أبرز الجهود في هذه الدائرة ما يقوم به العلامة المحقق الدكتور أيمن فؤاد سيد الذي قدّم للمكتبة العربية التراثية عددا من أهم وأفضل النشرات المحققة العصرية المستوفية لشرائط التحقيق العلمي لكنوز من تراثنا التاريخي والديني والمذهبي وفي الطبقات والتراجم .. إلخ.
وكان من حظي أن بدأت أتابع باهتمام جهود الدكتور أيمن فؤاد سيد منذ سنوات بعيدة لاقتناص هذه الأعمال التي أراها أعمالا رفيعة المستوى لا غنى عنها لكل باحث أو دارس أو مهتم بالتراث العربي ومجاليه وحقوله المعرفية الغنية المتنوعة.
- 2 -
من بين أهم ما اقتنيته هذا العام من المعرض تلك الطبعة المحققة تحقيقا جديدا ووافيا من كتاب «الفهرست» لابن النديم؛ أحد المفاتيح الأساسية للتعرف على إنتاجنا الفكري والثقافي والعلمي والفني منذ بدايات تأسيس الحضارة الإسلامية وحتى القرن الرابع الهجري. الكتاب باختصار أحد موسوعات التراث العربي والإسلامي الجامعة، وعنوانه خير مُعبر عن محتواه، فهو «فهرست» وافٍ لكل المؤلفات والكتب التي أنتجها مثقفون مسلمون في القرون الأربعة الأولى للهجرة؛ وهو بحسب محققه القدير أهم كتاب ببليوجرافي مؤسس غير مسبوق لحركة رصد ومسح حركة التأليف في العالم الإسلامي، إذ يستعرض منهجيا في عشر مقالات الإنتاج الفكري العربي الإسلامي، وإسهامات العلماء المسلمين في الحضارة الإنسانية حتى نهاية القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي.
كما يقدم هذا الكتاب «الببليوجرافي» المتفرد من نوعه أول رؤية شاملة في الثقافة العربية التي انفتحت على جميع التيارات الفكرية. ولم تعرف الحضارة الغربية كتابا مماثلا له حتى بداية ظهور الطباعة في نهاية القرن الخامس عشر للميلاد. يقدم الكتاب رؤية شاملة للثقافة العربية، حيث لا يكتفي بإيراد العناوين، إنما يشرح ما تضمّنت أيضا من هذه العناوين، ويعلق عليها.
لقد رتب محمد بن إسحاق النديم كتابه في عشر مقالات؛ بيانها العام كالتالي: في الست الأولى تناول لغات الأمم المختلفة، وشرائعها، ثم القرآن الكريم، واختلاف المصاحف، وأخبار القراء؛ أما المقالة الثانية فللنحويين؛ والثالثة للإخباريين والنسابين وكتاب السير؛ والرابعة للشعر والشعراء؛ والخامسة للكلام والمتكلمين؛ والسادسة للفقهاء والمحدثين؛ أما المقالات الأخيرة، فيتناول فيها موضوعات علمية، حيث خصص المقالة السابعة للفلسفة، والعلوم، والرياضيات، والطب؛ والثامنة للأسمار والخرافات، وفيها يرد أول ذكر في المراجع العربية لكتاب ألف ليلة وليلة؛ أما التاسعة فخصّصها للمذاهب، والمعتقدات؛ والعاشرة للكيميائيين.
- 3 -
ولقيمة وأهمية ومرجعية «الفهرست» أشرك القارئ الكريم في بيان وتفصيل ما احتوى عليه من مقالات غطت كل فروع وحقول الإنتاج الفكري والأدبي والثقافي والعلمي في ذلك الوقت، يضم الكتاب عشر مقالات في فنون العلوم والآداب، بيانها كالتالي:
المقالة الأولى؛ وتتألف من ثلاثة فنون: الفنّ الأول في وصف لغات الأمم من العرب والعجم، ونعوت أقلامها وأنواع خطوطها وأشكال كتاباتها. والفنّ الثاني في أسماء كتب الشرائع المنزّلة على مذاهب المسلمين ومذاهب أهلها. والفنّ الثالث في نعت الكتاب -يعني القرآن الكريم- وأسماء الكتب المصنّفة في علومه، وأخبار القرّاء وأسماء رواتهم والشواذ من قراءاتهم.
والمقالة الثانية تتألف من ثلاثة فنون: الأول في ابتداء النحو وأخبار النحويين البصريين وفصحاء الأعراب وأسماء كتبهم. والثاني في أخبار النحويين واللغويين من الكوفيين وأسماء كتبهم. والثالث في ذكر قوم من النحويين خلطوا المذهبين وأسماء كتبهم.
والمقالة الثالثة تتألف من ثلاثة فنون: الأول في أخبار الإخباريين والرُّواة والنسَّابين وأصحاب السّير والأحداث وأسماء كتبهم. والثاني في أخبار الملوك والكُتَّاب والمترسّلين وعمال الخرَاج وأصحاب الدواوين وأسماء كتبهم. والثالث في أخبار النُّدماء والجلساء والأدباء والمغنين والمضحكين وأسماء كتبهم.
والمقالة الرابعة في فنّين: الأول في طبقات الشعراء الجاهليين والإسلاميين ممن لحق الجاهلية وصُنَّاع دواوينهم وأسماء رواتهم. والثاني في طبقات شعراء الإسلاميين وشعراء المحدثين إلى عصرنا هذا، يعني العصر الذي عاش فيه مؤلّف الكتاب.
والمقالة الخامسة في خمسة فنون: الأول في ابتداء أمر الكلام والمتكلّمين من المعتزلة والمرجئة وأسماء كتبهم. والفنّ الثاني في أخبار متكلّمي الشيعة الإمامية والزّيدية وغيرهم من الغُلاة والإسماعيلية وأسماء كتبهم. والفنّ الثالث في أخبار متكلّمي المجبّرة والحشوية وأسماء كتبهم. والفن الرابع في أخبار متكلمي الخوارج وأصنافهم وأسماء كتبهم. والفنَّ الخامس في أخبار السُّيَّاح والزهّاد والعبّاد والمتصوفة المتكلّمين على الوساوس والخطرات وأسماء كتبهم.
والمقالة السادسة في ثمانية فنون: الفنّ الأول في أخبار مالك وأصحابه وأسماء كتبهم. والفنّ الثاني في أخبار أبي حنيفة النّعمان وأصحابه وأسماء كتبهم. والفنّ الثالث في أخبار الشافعي وأصحابه وأسماء كتبهم. والفنّ الرابع في أخبار داود (الظّاهري) وأصحابه وأسماء كتبهم. والفنّ الخامس في أخبار فقهاء الشيعة وأسماء كتبهم. والفنّ السادس في أخبار فقهاء أصحاب الحديث والمحدّثين وأسماء كتبهم. والفنّ السابع في أخبار أبي جعفر الطّبري وأصحابه وأسماء كتبهم. والفنّ الثامن في أخبار فقهاء الشُّرَاة وأسماء كتبهم.
والمقالة السابعة في ثلاثة فنون: الفنّ الأول في أخبار الفلاسفة الطَّبيعيين وأسماء كتبهم وشروحها والموجود منها. والفنّ الثاني في أخبار أصحاب التعاليم، المهندسين والأرثماطيقيين والموسيقيين والحُسَّاب المنجِّمين وصناع الآلات وأصحاب الحيل والحركات. والفنّ الثالث في ابتداء الطبِّ وأخبار المتطبّبين من القدماء والمُحْدثين وأسماء كتبهم وتفاسيرها.
والمقالة الثامنة ثلاثة فنون: الفنّ الأول في أخبار المسامرين والمخرّفين والمصوّرين وأسماء الكتب المصنّفة في الأسمار والخرافات. والفنّ الثاني في أخبار المعزمين والمشعبذين والسّحرة وأسماء كتبهم. والفنّ الثالث في أسماء الكتب المصنّفة في معانٍ شتى لا يعرف مصنّفوها ولا مؤلّفوها.
وتأتي المقالة التاسعة في فنّين: الأول في وصف مذاهب الثّنوية من المنّانية والدَّيصانية والخرَّمية والمرقيونية والمزدكيّة وغيرهم، وأسماء كتبهم. والثاني في وصف المذاهب الغريبة الطّريفة، كمذاهب الهند والصين وغيرهما من أجناس الأمم.
أما المقالة العاشرة والأخيرة، فتحتوي على أخبار الكيماويين والصَّنعويِّين من الفلاسفة القدماء والمُحْدَثين وأسماء كتبهم.
- 4 -
تأتي هذه النشرة الدقيقة الموثقة العصرية لأحد أشهر كتب التراث العربي على الإطلاق، وأحد مصادره الكبرى أيضًا، وقد كان «الفهرست» من أسبق الكتب التي التفت إليها المستشرقون، وأولوها عناية كبيرة، وعرفوا ما للكتاب من فضل وقيمة، فجمعوا مخطوطاته من مختلف البلاد العربية والإسلامية، وقارنوا بينها، وحققوا الكتاب ونشروه في أكثر من طبعة، وترجموه إلى لغات عدة، ودارت حوله دراسات كثيرة وعميقة بما يصح معه أن يخصص مجال لدراسات «الفهرست» في تراث المستشرقين.
أنجز هذا التحقيق الجديد لـ «الفهرست» الأستاذ الدكتور العلامة أيمن فؤاد سيد الذي أستطيع أن أقول بثقة واطمئنان إنه يحلق منفردا واثقا وحيدا في تلك المنطقة الصعبة الشائكة «تحقيق النصوص التراثية» (وخاصة المرجعي منها) وإخراجها في نشرات علمية مدققة وموثقة، تستوفي شرائط التحقيق العلمي «كما يقول الكتاب ويحدد المنهج».
أما أهم ما يميز هذا التحقيق الجديد أو هذه النشرة الجديدة فهو فصل الدراسة عن الكتاب. ففي القسم الأول من الكتاب المستقل أفردت دراسة كاملة شاملة عن النديم وكتابه «الفهرست». على النهج ذاته الذي أخرج به الدكتور أيمن فؤاد سيد نشرته المحكمة من كتاب المقريزي «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار».
أما القسم الثاني من الفهرست، فقد شمل الكتاب كاملا في جزئيه (المجلد الثاني والمجلد الثالث) وكشافاته. كما يميز هذه النشرة استدراك العمل الذي قام به العلامة المغربي محمد بن تاويت الطنجي -رحمه الله- في الكتاب، إضافة إلى تصحيح الأخطاء السابقة، وتحديث المعلومات وتحيينها، بعد الأخذ في الاعتبار الملاحظات التي زُوّد بها المحقق من طرف العديد من العلماء والأصدقاء.
- 5 -
صدرت هذه الطبعة الرائعة عن مؤسسة الفرقان الإسلامي للتراث؛ وتقع في أربعة مجلدات من القطع الكبير (يتجاوز عدد صفحاتها الألف وتسعمائة صفحة)، وبهذه الطبعة وبهذا التحقيق الفاخر يعدّ كتاب «الفهرست» من أهم وأبرز الكتب التراثية التي حققها الدكتور أيمن فؤاد سيد لتكون بين أيدي الباحثين والمتخصصين، والمعنيين عموما بتراثنا الزاخر؛ مخطوطه ومطبوعه.
