مرفأ قراءة .. «الظاهر بيبرس» من السيرة إلى الإذاعة !
- 1 -
في عام 1958 قدمت الإذاعة المصرية الحلقة الأولى من البرنامج الدرامي الإذاعي الظاهر بيبرس الذي كتبه للإذاعة الشاعر الراحل بيرم التونسي وأخرجه السيد بدير، ومنذ الحلقات الأولى حقق المسلسل نجاحا يفوق أي تصور وتابعه الملايين عبر الأثير ليس في مصر فقط وإنما في كل مكان يصل إليه البث الإذاعي.
وخلال الفترة من 1958 وحتى 1961 (السنة التي توفي فيها بيرم التونسي) أذيعت مائة حلقة من الجزء الأول وكان زمن الحلقة الواحدة نصف ساعة، ثم بدأ إذاعة حلقات الجزء الثاني التي توقفت عند الحلقة 88 وكانت مدة الحلقة ربع الساعة وبذلك تنتهي هذه الصورة الدرامية الإذاعية الإبداعية المستلهمة من سيرة الظاهر بيبرس بعد أن شغلت الجمهور والمستمعين في مصر والعالم العربي لما يزيد على السنوات الثلاث.
- 2 -
ويختتم الشاعر الراحل بيرم التونسي سيرته الذاتية «المذكرات» بتفاصيل مهمة عن معالجته لسيرة الظاهر بيبرس ويكشف بعض الوقائع التاريخية المرتبطة بها وكيف مثلت في تلك الفترة عملا قوميا عروبيا يلتف حوله جمهور المستمعين في جميع أنحاء العالم العربي، كما يوضح في الآن ذاته الفروقات بين العمل الفني والعمل التاريخي، صحيح أن أي سيرة شعبية لا تخلو من مكونات تاريخية، مهما كانت درجة الكثافة الأسطورية والتخييلية في خطابها؛ حيث تشير عناوين السير الشعبية إلى شخصيات، أغلبها مذكور في التاريخ العربي والإسلامي، لكنها في النهاية تقوم بكاملها على بنية «تخييلية» صرفة. يقول الشاعر الكبير الراحل بيرم التونسي (1893- 1961) في مذكراته:
«إن إنتاجي الآن وأنا أعيش في حلوان التي لا يلائم صحتي سواها، قاصر على ملحمة الظاهر بيبرس التي تقوم الآن محطة الإذاعة بإذاعتها في حلقات يومية بعد أن كانت قاطعتها بزعم أنها لا تُمثل الحقيقة التاريخية، ولكن ملحمة الظاهر بيبرس مثلها مثل الأدب الشعبي الخاص بالملاحم مثل قصص ملاحم أبوزيد الهلالي سلامة والزناتي خليفة وعزيزة ويونس والزير سالم وعنترة بن شداد، ليس المقصود منها التاريخ بقدر ما هو مقصود منها حفز الهمم نحو تقليد أصحاب البطولات في هذه الروايات، لا سيما أن رواية الظاهر بيبرس كانت تمثل الفصل الأخير من فصول انتصار الصليبيين في العصور الوسطى، فلعلَّها تذكير للعرب بأن واجبهم الأول أن يقتفوا أثر الظاهر بيبرس بطردهم الصهاينة من فلسطين، كما طرد هو والعروبة معه الصليبيين والمغول منها!
ووجود مبالغات فنية وخيالات براقة أمور لازمة لاستكمال روعتها الروائية، وإلا كان يجب وضعها ضمن علوم التاريخ إذا كان المطلوب هو سرد الحقيقة عارية! الذي كان له الفضل في إعادة إذاعتها واستكمال حلقاتها، هو الرئيس جمال عبد الناصر الذي أمر بألا تنقطع حلقاتها.. عسى أن يمتدَّ بي الأجل حتى أقوم باستكمال حلقات هذه الرواية، وبهذا تنتهي حياتي مكافحا كما بدأت مكافحا؛ إذ لا أنوي أن أقوم بعدها بأي عمل إلى أن ألاقي ربًّا كريمًا، والحمد لله الذي وفَّقني إلى ما وفقني إليه».
- 3 -
بيرم التونسي كان يرى أن «سيرة الظاهر بيبرس» هي سيرة البطل المنقذ أو المُخلِّص، وهي أقرب إلى فن «الرواية التاريخية» (المتخيلة) وليست تاريخا (مرجعيا واقعيا صرفا)، إنها إبداع قصصي جماعي لبطل عظيم؛ فقد برز بيبرس أولا كمملوك وكأمير من خلال دوره الحاسم في معركتي لويس التاسع لمصر عام 1249 التي انتهت بمعركة المنصورة، ومعركة المغول بقيادة هولاكو عام 1260 التي أوقفها المماليك في عين جالوت، ثم قضى جل سلطنته في جهاد لا يفتر ضد الصليبيين في فلسطين وتمكن من استرجاع عديد من المدن والحصون منهم، وضد المغول الذين كانوا يتحيَّنون الفرص دوما لاحتلال سوريا، ولكنه صدهم عن ذلك مرارا، بالإضافة إلى قتاله الإسماعيليين في حصونهم على جبال قلعة ألموت في سوريا، والأرمن في دولتهم المتاخمة لسلطنته من الشمال.
كما أن بيبرس «التاريخي» أيضا هو من أحيا الخلافة العباسية في القاهرة بأن عيَّن شخصًا من العائلة العباسية خليفة بعد أن كان تائها في البادية السورية بعد فراره من المغول الذين دمَّروا بغداد وقضوا على الخلافة فيها عام 1258؛ مما سبَّب أزمة وجودية عميقة للعالم الإسلامي كله الذي اعتاد وجود خليفة على رأس السلطة الإسلامية لأكثر من ستمائة سنة.
وهكذا، وبفضل هذه الجهود والإنجازات الكبيرة لهذا الحاكم المملوكي، كانت صورة السلطان بيبرس، بسبب أعماله المتلاحقة وانتصاراته المتتابعة، وإنشاءاته المتتالية، في أذهان الناس ووجدانهم، وملء السمع والبصر، حتى صار مع مرور الوقت وتنامي البطولة في ذهن عامة الشعب إنسانًا أسطوريًّا، تنسج حوله القصص، وتنظم في حياته السير.
ويرى بعض الباحثين المتخصصين في السيرة الشعبية والقصص الشعبي أن أي سيرة شعبية لا تخلو من مكونات تاريخية، مهما كانت درجة الكثافة الأسطورية في خطابها؛ حيث تشير عناوين السير الشعبية إلى «شخصيات»، أغلبها مذكور في التاريخ العربي والإسلامي، والواقع أن استعمال السير الشعبية للمادة التاريخية أبعد من هذه الإشارة، فأغلب هذه السير يدور حول شخصيات ووقائع لها أصل تاريخي، وغير قليل من المعالم والمواقف والأحوال الموصوفة فيها تحوي أصولا تاريخية، ولكن هذا لا يعني أن السير الشعبية مؤلفات أو كتب تاريخية تُؤرخ لأشخاص أو فترات أو أحداث، ولا يعني أيضا أنها تلتزم بضوابط الصحة التاريخية والتوثيق المنهجي.
- 4 -
ولهذا يجب ألا ننسى أبدا أن السير الشعبية أعمال فنية أدبية قصصية، تلتزم في المقام الأول، بالقواعد الفنية القصصية في رسمها للشخصيات، وتحريكها للأحداث، ووصفها لمجال حركة هذه الشخصيات والأحداث، وعندما تتعامل السير الشعبية مع وقائع التاريخ، فإنما تتعامل معها باعتبارها مادة تستعملها وخيوطا فنية تنسجها مع خيوط أخرى في نولها الفني؛ حيث يجري على المادة التاريخية ما يجري على المواد الأخرى من إعادة التشكيل والصياغة، إلى أن تتسق سائر العناصر الفنية وتتكامل، وفق منظور مُنتجيها ومعاييرهم الجمالية.
والسؤال: كيف تعامل بيرم التونسي مع هذه المادة التاريخية الهائلة (في المصادر والكتب التاريخية التي أرخت للظاهر بيبرس ودولته في تاريخ مصر المملوكية أولا).. ثم كيف استوعب النص الفني الإبداعي الموازي؛ نص السيرة الشعبية الهائلة التي تشكلت حول الظاهر بيبرس، وقد خلدته الذاكرة الشعبية والوجدان الجمعي الشعبي، وصنعت له هذه «السيرة الشعبية» الكبيرة التي جُمعت فيما يقرب من ثلاثة آلاف صفحة من الحجم المتوسط، كما أشرنا في الحلقتين السابقتين من (مرفأ قراءة) إلى تشكل النص وجمعه وتدوينه، وأخيرًا طباعته ونشره على يدي جمال الغيطاني في سلسلة (أدب الحرب) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995.
لقد بنى بيرم التونسي معالجته الإذاعية للسيرة الشعبية «الظاهرية»، على فكرة إبراز سيرة البطل الفرد، المنقذ، المخلص، ومن الواضح أنه كان يريد بإعادة بعث «سيرة الظاهر بيبرس» الإيماء صراحة إلى زعامة الرئيس عبد الناصر القومية، بوصفه بطل العرب ومخلصهم وموحدهم في مواجهة الاستعمار والكيان الصهيوني.
ولأن بيرم التونسي شاعر كبير جدا، واسع الاطلاع والثقافة والقراءة والوعي، فقد رجع إلى الأصول التاريخية لسيرة الظاهر بيبرس قبل أن يقدم معالجته الفنية الدرامية المبدعة في حلقات إذاعية، ولا أشك أنه توقف طويلا أمام السيرة التاريخية أولا للظاهر بيبرس قبل أن يتوقف أمام السيرة الشعبية، لأن النص الدرامي الإذاعي الذي كتبه للإذاعة يبرز تماما وعيه وإدراكه للحدود التي تفصل بين السيرتين ويدرك أيضا كيف يتعامل معهما كمصدر للاستلهام والتوظيف.
- 5 -
تمثل بيرم التونسي كل ما سبق وهضمه، تاريخيا وفنيا، وقام بإعادة تشكيله وصياغته في نصه الإذاعي، الذي كتبه مباشرة للإذاعة، وظل سنوات طويلة في صورته المسموعة إلى أن أعاد الباحث في التراث الشعبي سيد مهدي عنبة نشر هذا النص الإذاعي في صورته الكاملة، وصدر منه حتى ثلاثة أجزاء عن سلسلة (الثقافة الشعبية) بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
وقد جاءت معالجة بيرم التونسي للسيرة خصبة ومتنوعة فيها السرد وفيها الشعر وفيها الزجل وفيها الأغنية الشعبية، وفيها اللغة الدارجة المستخدمة في السيرة وفيها إبداع الراوي الشعبي وأداؤه المخصوص، كل ذلك دون أن يقع في فخ النقل المباشر أو المحاكاة الساذجة للنصوص السابقة عليه، وجاءت مواقف السيرة ووقائعها تحمل الكثير من الإيماءات والإسقاطات على الواقع السياسي والاجتماعي المصري والعربي في ذلك الوقت.
