ثقافة

مرفأ قراءة... الشيخ سيد المرصفي الأستاذ الأول لطه حسين!

16 يوليو 2022
16 يوليو 2022

- 1 -

الصدفة وحدها هي التي قادتني إلى استقصاء سيرة هذا الشيخ الأزهري الأديب الأريب الذي قدِّر له أن يكون صاحب الدور الأول والواسع والعميق في نفس ووجدان وتكوين طه حسين في فترة مبكرة للغاية من سيرته، بالتحديد في السنوات التي قضاها طالبا للعلم بالأزهر (1901-1908).

كنت أدرس النقد العربي القديم على يدي أستاذي الجليل عبد الحكيم راضي (مد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية)، صاحب «نظرية اللغة في النقد العربي»، وكنت أدرس مذاهب النقد الحديث والمعاصر على يد أستاذي الراحل الجليل الدكتور جابر عصفور (1944-2021). وكل منهما قد خصص لبواكير حركة النقد الإحيائي، في إطار حركة الإحياء والبعث أو النهضة الفكرية والثقافية التي عرفتها مصر وأجزاء من العالم العربي في تلك الفترة، دراستان مرجعيتان مهمتان؛ هما النقد الإحيائي وتجديد الشعر في ضوء التراث (الاستمداد المباشر للتراث) للدكتور عبد الحكيم راضي، و«الخيال المتعقل ـ دراسة في نقد الإحياء» للدكتور جابر عصفور.

ومنهما عرفت اسم الشيخ حسين المرصفي صاحب كتاب «الوسيلة الأدبية إلى علوم اللغة العربية»؛ المتن الأهم والنص التأسيسي في حركة نقد الإحياء وصاحب التأثير واسع النطاق في كل شعراء مصر والشام آنذاك؛ وهو الأستاذ الأول والمباشر الذي استقى منه كل من البارودي (رائد الشعر العربي الحديث) وأحمد شوقي (أمير الشعراء)، استقى كل منهما منه مصادر تكوينه وثقافته اللغوية وذائقته الشعرية حتى باتا على رأس حركة إحياء الشعر العربي كله، منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين.

- 2 -

وتوقفت طويلا أمام الرجل وسيرته، وكتابه المرجع، ودوره النقدي، وإذ بي أفاجأ بنص لطه حسين في الجزء الثالث من (أيامه) يقول فيه:

"استأثر بقلب الفتى وعقله.. وحتى أصبح للفتى أستاذان يختصُّهما بحبه وإعجابه، أحدهما يذكِّره بأئمة البصرة والكوفة؛ وهو الشيخ سيد المرصفي، والآخر يُذكره بفلاسفة اليونان الذين سمع أسماءهم في الأزهر وجعل يدرس أطرافًا من فلسفتهم في الجامعة، وهو [أحمد] لطفي السيد".

وكانت هذه الإشارة كافية للفت انتباهي لاسم الشيخ سيد المرصفي، وقد ظننت حينها أنه يقصد الشيخ حسين المرصفي باعتبار أنهما شخص واحد، وأن عميد الأدب العربي قد أخطأ في إيراد اسمه! هكذا ظننت وتوهمت! لكن مع البحث والتقصي والإمعان في التدقيق والتوثيق (وهي صفة أصبحت ملازمة لي ورثتها معرفيا وعلميا عن أساتذتي في كلية الآداب؛ وإن كنت لم أر مثل جابر عصفور هوسا بالتدقيق والمقارنة وإثبات ما تأكد وتيقن من ثبوته) اكتشفت أنهما شخصان مختلفان في الزمان والمكان والإسهام، ولم يجمع بينهما سوى اللقب "المرصفي" فهما معا ينتسبان إلى أسرة المراصفة الشهيرة بدلتا مصر (محافظة القليوبية قرية مرصفا)، وأنهما من شيوخ الأزهر وكلاهما كان له إسهامه الأصيل والمهم في بعث التراث العربي وإحياء العلوم العربية وإحياء وتجديد حركة الشعر العربي كله.

أقدمهما هو الشيخ حسين المرصفي (1810-1889) صاحب كتاب «الوسيلة الأدبية»، كما أشرت آنفا، وصاحب كتاب «الكلم الثمان»، وهو كتاب فكري خطير لم يحظ بما يستحقه من شهرة وانتشار وقراءة؛ وقد أرسى فيه مفاهيم تعد من دعائم الحداثة والمدنية الحديثة والدولة الوطنية في وقت كان ينظر إلى هذه الأفكار بريبة واسترابة وتوجس!

وقد نعود إلى ريادة الشيخ حسين المرصفي في حركة النقد الإحيائي، وتحليل أفكاره النقدية واستمداده المباشر من التراث في مناسبة أخرى قريبة.

- 3 -

أما الشيخ سيد بن علي المرصفي (1862-1931) فيعرفه قاموس «الأدب العربي الحديث» بأنه أديب ودارس للأدب وناقد مصري، يعد في طليعة من قاموا بتطوير تدريس الأدب العربي بالأزهر منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وطوال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.

وُلد بقرية مرصفا بالقرب من بنها بمحافظة القليوبية التحق بالأزهر، وأثناء دراسته وقعت الثورة العرابية فشارك فيها، وكان من أشد المتحمسين لها؛ فقد كتب قصيدة في مدح أحمد عرابي واصفا إياه بأنه «حامي حمي الديار المصرية»، واعتُقل المرصفي بعد فشل الثورة فانكب على دروسه بالأزهر.

وبعد حصوله على الإجازة عمل بالتدريس في عدد من المدارس، وحين أخذ الشيخ محمد عبده يعمل على إصلاح الأزهر وتطوير مقررات الدراسة وطرائقها عهِد إلى المرصفي بتدريس كتاب «الكامل في اللغة والأدب» للمبرد، فأصبح المرصفي مدرسا بالأزهر فأخذ يدرس بالإضافة إلى كتاب «الكامل»، «حماسة أبي تمام»، و«شرح نهج البلاغة»، و«الأمالي» لأبي على القالي وغيرها،كما عمل في الوقت نفسه، في عام 1913، بتصحيح عددٍ من أمات كتب التراث في دار الكتب المصرية مثل «أساس البلاغة» للزمخشري، و«الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وحقائق الإعجاز» ليحيى بن حمزة العلوي.

وفي أكتوبر من عام 1924 أصبح عضوا بهيئة كبار العلماء بالجامع الأزهر، وظل عضوا بها إلى نهاية حياته. كذلك كان المرصفي شاعرا نظم شعرا كثيرا لم يهتم بجمعه في ديوان، وقد ظلت من أشعاره مجموعة قليلة بعضها نظم لمادتي الفقه والتوحيد.

- 4 -

والمرصفي واحد من أوائل من أسهموا في تطوير تدريس الأدب العربي القديم والوسيط بالجامع الأزهر، وتتجلي جدة طريقته في سعيه إلى استجلاء جماليات النصوص وتفعيله آليات البلاغة العربية في تبيان طرائق الصياغة في النصوص الشعرية. ومن هذا الجانب يعدو عمل المرصفي مرحلة وسطى بين جيلين من مجددي الدرس الأدبي في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين بمصر: جيل محمد عبده وجيل طه حسين.

ولعل هذا النص لطه حسين في مقدمة كتابه «تجديد ذكرى أبي العلاء» يوضح ويكشف طبيعة هذا الدور الوسيط الذي لعبه هذا الشيخ الأزهري في تدريس الأدب العربي وشرح نصوصه لطلاب الأزهر، وكان من بينهم طه حسين؛ يقول:

"أستاذنا الجليل سيد بن علي المرصفي أصح من عرفت بمصر فقهًا في اللغة، وأسلمهم ذوقًا في النَّقد، وأصدقهم رأيًا في الأدب، وأكثرهم رواية للشعر، ولا سيما شعر الجاهلية وصدر الإسلام. كان يدرس الأدب في الأزهر الشريف، وبدأت أختلف إليه، ولما أعد السادسة عشرة، فلزمته أربع سنين ما أذكر أني انقطعت عن درسه، أو تخلفت عن مجلسه، ولم يقف الأمر بيني وبينه على ما يكون بين الأستاذ والتِّلميذ من الصِّلة، بل نشأ بيننا نوعٌ من المحبة يشوبها في نفسي الإجلال والإكبار، وفي نفسه العطف والحنان، وتبعث كلينا على أن يتعصب لصاحبه، ويُناضل عنه، على نحو ما يكون بين الأبناء البررة، والآباء المشفقين.

سعدت بهذا الحب قديمًا، وسأظل سعيدًا به طول الدهر؛ لأنَّه صادف قلبي في غضارة الطفولة ونضارة الصبا، ولأنَّه حبٌّ مصدره العلم لم تُفسد عنصره المادة، ولم تُكدر جوهره مآثم هذه الحياة. حبُّ الأستاذ ودرسه قد أثَّرا في نفسي تأثيرًا شديدًا؛ فصاغاها على مثاله، وكونا لها في الأدب والنقد ذوقًا على مثال ذوقه".

- 5 -

ولهذا السبب تحديدًا "وكونا لها في الأدب والنقد ذوقًا على مثال ذوقه"، كان احتفاء طه حسين الكبير في مرحلة بداياته النقدية، في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين، بمنهجية المرصفي النقدية التي تتجلى في كتابيه «أسرار الحماسة»، الذي صدر جزؤه الأول في عام 1912، و«رغبة الآمل من كتاب الكامل» الذي صدر في ثمانية مجلدات بين عامي 1927 - 1930. وقد فصل فيها القول طه حسين في مقدمة «تجديد ذكرى أبي العلاء».

وتبدو معالم تلك المنهجية، كما يحددها بدقة الدكتور سامي سليمان في مادته المحررة عن الشيخ سيد المرصفي، في التقديم للنص الأدبي بمجموعة من المعلومات الأساسية التي تهيئ للمتلقي تفهمه وتذوقه، وتحقيق الرواية الصحيحة للنص لاتخاذها أساسا للدرس، وبيان نسبة النص إلى قائله، وتحديد دلالات الألفاظ طبقا لموافقتها مقام القول، وشرح غوامض الكلمات، ونقد جماليات النص في ضوء مقولات البلاغة العربية القديمة، وتأكيد قيمة الحرية الفكرية في تناول النصوص..