ليالي الإعصار تأملات الجفاف والغرق
الليلة الأولى 3-10-2021
تقول النبوءات أن شاهين يصل الليلة، تضحك السماء قطرة قطرة ويزأر الرعب رويدا رويدا، ويلمع البرق كسن ذهبية في فم سماء تضحك. تقول النبوءات أيضا؛ أن شاهين سيأتي فاردا جناحيه محلقا نحو الشمال، حيث القلب، حيث الحب، حيث الجمال ورائحة الطفولة المضمّخة بالأغاني والحناء، وغنج المسافة بين وريدين وذاكرة. وأنا من هناك من الشمال حيث الماء أزرق وأخضر معا، يخصنا بالأمان، ويخضنا بالرعب.
يجيء شاهين بغتة وهو لا يعرف كم كنا ننتظر الماء كنبات صحراوي يأكل الجفاف جذوره في عمق الرمل، كجمل يجتره ويخزنه في سنامه الكبير، وأنّا للتو قد عدنا من دياجير العزلة والجفاف، وحمى الخوف متآكلين بصمت الرعب نحو عوالمنا المرتجاة، نحو فرح الحياة وعفويتها بينما ما يزال الحر حتى البارحة يحكم قبضته على أرواحنا المضطربة، ويعصر أجسادنا الوهِنة، وأرواحنا التواقة للماء.
عدنا قبل زمن قليل ونحن ندرك أنه لا أمان لكل شيء، لا أمان للأرواح المرهقة من الذوات المثقلة بأوزار النرجسية وغرور الكرسي، ولا أمان للكرسي ولا لغطاءات الوجوه وأقنعتها السوداء والزرقاء، ولا دافع لوهم المرض الذي يتطاول في بعض النفوس، وحمى السلطة التي تتصاعد في تلاوينها الصفراء.
عدنا نبتسم فلا شأن لنا بالأصفر إنه لون المرض والمرضى، ووحده الأخضر يعرّش على الروح في حين يستطيل الأزرق في القلب والذاكرة، والله أمان العشاق والمحبين والأوفياء والأولياء، وحده أمان القلوب الطيبة التي يعرفها، كما يعرف روح الشر التي تسكن بعض البشر، ويدفع بلطفه ورحمته كل شيء بـ"حسبنا الله ونعم الوكيل" وبالأمل الآمن الذي تربيه النفوس الخيرة، وابتسامة إنسانية دافئة تصدفك ذات عبور.
وتمضي الحياة نحو السلام فلا شيء يبقى تأكل "الرمة" الكرسي والمنسأة معا، ويطير الوهم في الهواء محلقا تاركا ذاكرة مريضة ونفوسا محمومة، في حين تحلم الأرواح النقية بالراحة والدفء، وصوت الرب ينسكب كالماء في تلويحة شاهين التي ما تزال بعيدة وهو يصفق بجناحيه في تربص أبناء الماء.
أخ يا شاهين؛ لم نكن ننتظر الإعصار بل كنا نفتقد الماء والبرد وعذوبة الشتاء، ورائحة الخبز والقهوة في حوش الدار في الشمال، ولكن لا بأس فنحن سمكات الوجود النبيلة في بحر عمان، نحن ضفادع الخير في السواقي، ونحن هدير الوديان من الجبال للسهول، نحن عنفوان الماء ولذته، فمن أنت أيها البعيد إلا ماء! ونحن لا نخشى الماء بل نرقص ولها وعشقا وصلاة في انتظاره وطلبا له، ولا نخشى إلا الجفاف والتصحر الذي إن أصاب الأرواح شققها، وإن أصاب القلوب أمرضها وأماتها!
الليلة الثانية 4-10-2021
ننام على المطر ونفيق على المطر، ومسقط تغرق وتبتهل للبارئ وقد أصبحت جزيرة محاصرة بالماء، وجدار الإعصار نصيبها فقط، تغرق لكنها تتنفس أملا أن يكون قد اكتفى، لكنه يتربص قلب الوطن ويحلق نحو الشمال، وكل ما في مسقط يبتهل، سكانها، وخاصة أهل الشمال منهم، والنبوءات تقول "صحم العمانية عينه" وصحم عين القلب وقلب العين، يتحرك بسرعة ليليّة ليقضي وطره في الظلام، ويفترس القلب، فأين يصب ماءه الليلة؟! وكيف يصيب غايته وجسد الشمال ضعيف، وهن لا طاقة له بالأعاصير، ووديانه تنتظر غمزة برق لتنفجر أوردتها الجافة، والأزرق رب المتعبين يشجيه الليل والهواء والماء العذب فيتآمر على البلاد والعباد، "فيا رب سلِّم البلاد والعباد، والطف بالبشر والدواب والشجر" هكذا تلهج القلوب.
كانت السويق مأربه الأول، وجنونه الكبير، ومسقط مائه الغزير، فتنهار كانهيار سد مالك بن فهم في مرجعية الماء والقلب والذاكرة، ومنها يمضي بقوته الغاشمة للخابورة حيث استوى الماء على الماء، وعلى الأرض والأرواح والأجساد، واستوى الرعب على القلوب والأجساد النائمة؛ ويتحرك الماء بقوته وجبروته يجرف كل شيء، وصرخات البشر تقتص من سكون المكان المنعزل، وتأتلق في دجى الليل الأصم، والخوف بنابه المسموم يعض الأمهات والأطفال والشيوخ والحيوانات والأشجار، ويقبض على كل ما يقع تحت يده وعينه وجسده الثقيل ثقل الماء ولا عاصم إلا الله، فتسقط البيوت والجدران، وترتفع الصرخات والبطولات ومحاولات النجاة، وترتّل أناشيد الرهبة والرغبة، وتمتد أطواق الأمل والحياة.
الليلة الثالثة 5-10-2021
يضعف إعصار شاهين ويمضي ملوحا بابتسامته المشؤومة التي تشبه القلوب الصفراء، ليترك في قلوبنا ندبة عظيمة، ووجعا على البلاد والعباد، وملاحم وبطولات -كل كتب العالم أضعف من أن تسطرها- تجمع الوطن وشعبه العظيم، لتعيد له الأمان وتطبطب على روحه الخائفة، أنت بخير ما دمنا شعبك، وشعبك بخير مادام منك وفيك.
في المساء كنا نتتبع عبر التلفاز الملحمة الوطنية التي تدمع لها القلوب فرحا، وترقص لها الأرواح فخرا وطربا عن تآزر أبناء الوطن ومساندتهم لأهلهم في المناطق المنكوبة بكل ما يمكن من طعام وشراب وأمان والتي ستستمر طويلا، ثم نشاهد فيلم shawshank على نتفليكس للمرة الثانية، تأسرني فكرة من الفيلم "الوطن هو المكان المألوف حتى لو كان السجن" وكيف أن الإنسان قد يموت خارج الوطن وربما ينتحر لشعوره بعدم الأمان، كما انتحر الرجل الذي خرج من السجن في الفيلم لأنه لا يستطيع الحياة بعيدا عما عرفه وألفه وعاش فيه عمرا طويلا. أتساءل ما هو الوطن؟ هل هو الأرض أو الأرواح، أو العائلة، ولماذا كل هذا الحب للأوطان حتى حين تقسو وتظلم أحيانا، وأنه فكرة نفسية غرست في الإنسان لتكون إحدى أسباب الحياة.
أفكر أيضا في مفهوم الحرية ومعادلة السجن والظلم والعدالة معا، وأن الحرية فكرة قد تتحقق في السجن، وأن العدالة فكرة، وأن الظلم فكرة أيضا، وقد تتصير في الداخل أكثر منها في الخارج، أفكر أيضا أن المجرم قد يكون مريضا نفسيا؟! وأن الأمر يستوجب علاجا أكثر من التأديب، المرض النفسي الذي لا يرى، وأفكر كم منا مريض نفسي، وهل يوجد شخص بلا مرض نفسي، أو بلا عقدة أو ندبة أو شرخ، أو وهن؟!!
أفكر في كل مسؤول يقف خلف ستار المسؤولية، وفي كل منفّذ خلف ستار القانون، أفكر كثيرا في مفهوم الظلم هل هو ضد العدالة فعلا؟!، وهل العدالة قابلة للتحقق أصلا وهي بسببية نسبية الفكرة والإنسان؟!! أخرج من دوامتي الفكرية بالثقة بالرب وعدالته المطلقة وأن كل ما دون ذلك ناقص.
أتذكر كل كتاب قرأته من "أدب السجون" هذا الموضوع الذي أغراني كثيرا منذ زمن للقراءة فيه، السيرة الذاتية الموغلة في الوجع والألم، وأكثر ما قرأت في حياتي هي السير الإنسانية التي تخبرني أن أحدهم عبر هذا العالم بقوة، وتألم فيه وجاهد ليستمر، وربما مرت عليه لحظات سعادة ما بشكل ما، من أبشعها في سجون النازية مثل "الإنسان يبحث عن المعنى" لفيكتور فرانكل، و"تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون، و"شرق المتوسط" و"الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" للكبير عبد الرحمن منيف، والكثير من الكتب والأفلام أيضا التي كانت شوقا للوطن، واحتجاجا على الظلم، ورغبة في العدالة، وأملا وضوءا في آخر النفق.
ينتهي الفيلم وينتهي الإعصار، ونظل نتتبع كارثة الشمال الحبيب، وندعو للمتضررين، ونصلي لشهداء الماء صلاة رحمة وغفران، وحتى تغيب الروح سيظل الإكبار والحب للوطن وشعبه العظيم.
