لمــــــــــــــــــــــــــــاذا يترجمــــــــــــــــــــون؟!
أزهار أحمد: أترجم لأتعرف على الضوء في حياة الآخر
زوينة آل تويه: الترجمة فعل حياة، تحيي النص فيتجدد ويزدهر في اللغة الأخرى
ناصر الكندي: أترجم لكي أنقل الخريف لبلد لم يعرف الخريف إلا عبر الكلمات
ثابت خميس: ألا نترجم يعني ألا نفهم، ألا نشعر، ألا نتذكر، ألا نحلم، ألا نتواصل، ألا نعيش
حاتم العامري: الترجمة بالنسبة لي سفر وليس جغرافيا فقط
أيمن العويسي: على الضفة الأخرى قارئ نهم يتطلع لقراءة ما كتبه الآخرون
عهود المخينية: اللغة كيان كائن أحب العيش في رحبائه، ليس مملولًا ولا ملولًا
رحمة الحبسية: أترجم من أجل تقريب وجهة نظر أخرى وجعلها حاضرة قريبة من القارئ
**************************************
يصادف غدا، الثلاثون من سبتمبر من كل عام اليوم العالمي للترجمة، وبعيدا عن المصاعب والإشكالات التي تواجهها الترجمة والمترجمون سواءً كفعل فردي أو كفعل جماعي، نحتفي بهذا اليوم في السطور القادمة مع مجموعة من المترجمين العمانيين هم: زوينة آل تويه وأزهار أحمد وناصر الكندي وثابت خميس وأيمن العويسي وحاتم العامري وعهود المخينية ورحمة الحبسية، بسؤالهم: "لماذا تترجم؟" على غرار لماذا تكتب؟ فما الذي قاله أصحاب المهمة المستحيلة –كما أطلق عليها فيلهلم فون همبولت- في يومهم.
مغامرة عبور إلى الجانب الآخر
في إجابتها على السؤال قالت الكاتبة والمترجمة العمانية أزهار أحمد: "أترجم لأعرف ما لا يعرفه غيري".
وتابعت: "الترجمة بالنسبة لي مغامرة عبور إلى الجانب الآخر الذي لا يرى بوضوح ويترتب عليّ مهمة تمهيد الطريق للوصول إلى ذلك الجانب المخفي الذي لا تكشفه سوى الكتابة، لأن الكتابة بجميع مجالاتها هي التي تنبش في عمق الأشياء. أنا أترجم لأتعرف على الضوء في حياة الآخر وعلى تاريخه والتطورات التي تحدث بين الزوايا والشقوق والحقائق التي تحتاج لمن يظهرها. يهمني أن أعرف طريقة تفكير الآخر وأسلوب تعامله مع الأشياء، لذلك أترجم حين يقع بين يدي كتاب أو موضوع مختلف أراه يستحق الاكتشاف، وأسعد بالفرصة التي تتهيأ لي وأسعى إلى أن أنقل للقارئ أحاسيس ومشاعر وتفاصيل دقيقة لا يعبر عنها سوى الكاتب. هذا من ناحية معرفية، أما من الناحية الأدبية والفنية فأنا أترجم لأكتشف خصائص الإمكانات الإبداعية لدى الكاتب الذي يكتب بغير لغتي، الكاتب الذي يعيش عالما مختلفا عن عالمي، ودرس مواد ومواضيع لم أدرسها ولا تسند في مؤسساتنا. يهمني أن أغوص في أعماق الكاتب لأفهم كيف يكتب ولماذا وبماذا يختلف عني.
ولأن الترجمة عملية عبور شديدة الصعوبة، يواجه فيها المترجم تعرجات ومطبات يتطلب التخلص منها مهارة كبيرة، لذلك فالتوقف والهدوء والتفكير في الحلول التي لا تبعد المترجم عن الطريق الأصلي أمر لا يجب التغاضي عنه".
فضل الكتابة
المترجمة العمانية زوينة آل تويه في إجابتها على سؤال: "لماذا تترجم"؟ قالت: "لكي أجيب عن هذا السؤال لا بدّ أن أعرج على الكتابة، فبفضلها وبفضل القراءة بطبيعة الحال وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. كتبت قصصًا قصيرة طوال سنوات وجمعتها في كتاب ثم توقفت عن الكتابة. بدا كأنني ما عدت قادرة على قول ما أريد عبر الكتابة، فحدث فراغ. وماذا بعد؟ ماذا سأفعل إذا لم أكتب؟ من أنا بلا كتابة؟ أسئلة كهذه كانت مصيرية ووجودية بالنسبة إليّ. كان لا بد من وسيلة إبداعية أخرى للتعبير عن هذا الوجود، ولم يكن أمامي من عزاء إلّا المواظبة على القراءة والمراهنة عليها إلى أن اهتديت إلى الترجمة التي بالتجريب والممارسة أصبحت شغلي الشاغل، ومنها ولجت عالم الكتابة من باب أوسع، فالترجمة كتابة إبداعية أيضًا ولا تقل أهمية عن الكتابة كما نعرفها".
وتابعت: "أترجم لأن الترجمة أداة مهمة لمعرفة الذات والآخر وفهمهما وتقديرهما وتجاوز سوء الفهم، وهي تمنح النص والعالم والإنسان رؤية جديدة، لأنها تضع المترجم أمام لغة وثقافة أخريين، وتدعوه إلى النظر إليهما من وجهات نظر مختلفة ومن ثم يكون بوسعه رؤية نفسه في مرآة الآخر فيكتشف أوجه الشبه والتلاقي بين البشر وأن ما يجمعهم أهم مما يفرّقهم. أترجم لأن الترجمة فعل حياة، تحيي النص فيتجدد ويزدهر في اللغة الأخرى والثقافة الأخرى بفضل الترجمة كما يذهب والتر بنيامين في مقاله البارز "مهمة المترجم". أترجم أيضًا لأن الترجمة فعل مقاومة إلى جانب كونها وسيلة معرفية ثقافية لفهم العالم والإنسان، مقاومة عزلة الإنسان الوجودية، ومقاومة كل ما من شأنه تقزيم حياة الإنسان في أدق تفاصيلها باسم المجتمع والدين والأخلاق. أترجم لأن الترجمة تمدّني بعدّة لا يستهان بها من الحيل والمعارف فهي ميدان خصب للتأويل والاستكشاف".
رؤية الآخر
أجاب المترجم العماني ناصر الكندي بقوله: "أترجم لكي أكون الآخر، أو بعبارة أخرى أترجم حتى لا أكون نفسي، أو لكي أخرج من نفسي لكي أستطيع رؤية الآخر.
الترجمة فعلا خيانة، ولكن ليس خيانة النص المترجم لصالحي، بل بذل الجهد لكي أخون نفسي لأجل النص الأصلي.
أترجم لكي أنقل عبر الكلمات توتر النص، وغرابته، وهرطقته، وتفاهته، وأسلوبه، وحكمته، وأن أنقل ملوحة البحر لسكان الأنهار العذبة، وقلق المدن ليقين القرى، وتاريخا بملابسه وعملاته ومقاييس مساحته لزمن تجاوزه وتبدلت معالمه.
أترجم حتى أنسى حمولتي الثقافية والأخلاقية لوهلة، وأن أرى الآخر بأكثر من عينين، وأزيح جانبا كلمات الصحراء والسهوب وأعوضها بكلمات الغابات والأحراش لنص استوائي، وأن أحافظ على قلق الضباب ولا أقشعه بالشمس الساطعة للفهم!
أحاول ترجمة ارتعاشة القمر المنعكس على بحيرة راكدة دون رميه بحجر يبدده، وأن أنقل التحولات النفسية للشخصية دون تجميدها بتفسير قاتل، فماكبث في رائعة شكسبير متحوّل نحو الشر وليس شريرا! أترجم تلك الزرقة الداكنة في جثة تتحلل دون طمسها في عفن الجثث الباهت.
أترجم بنفس مسافة الأرض من الشمس، تلك المسافة التي تسمح بوجود الحياة، دون أن أكون عطارد فأحترق أو أن أكون بلوتو فأتجمد، فالكلمات تحتاج إلى ظلال لتنتقل عبرها، وإلى حيوات متغيرة كتغير الفصول. أترجم لكي أنقل الخريف لبلد لم يعرف الخريف إلا عبر الكلمات".
الارتباط بالوجود
يقول المترجم العماني ثابت خميس في إجابته على سؤال لماذا تترجم: "لعل من المبالغة القول بأن الإجابة على سؤال لماذا نترجم؟ أقرب للإجابة عن سؤال لماذا نعيش؟ وما أحوجنا للمبالغات حين يتعلق الأمر بالحديث عن شيء كاللغة. لطالما ظننت بأن الفضول هو باعث كل بدعة عرفها التاريخ الإنساني، ولكن ماذا يحدث حين ينتهي الفضول، أين يذهب؟ هل يتحوّل لشيء أخر؟ وهل يعقل أن يبعث الفضول مزيداً من الفضول؟ كل إنسان هو مترجم بالضرورة، فنحن نقوم بعدد يستحيل إحصاؤه من عمليات الترجمة في أجزاء من الثانية بشكل تلقائي. تنقل السيالات العصبية للمخ المشاهد والأصوات والروائح والملامس والأحاسيس، ثم يعبر عنها الإنسان لنفسه ومن حوله، فعجز الإنسان عن وصف ما يستشعره بحواسه ويستنتجه بعقله لا يجعل للحياة أي معنى. إننا مخلوقات بقاؤها على قيد الحياة مرتبط بعلاقاتها مع الكائنات والجمادات، ومع تطور الترجمة وانتشارها خارج دائرة التعامل البسيط، صرنا نجدها في الحقول الأدبية والسياسية والطبية والاقتصادية وغيرها الكثير، لنجد معها مطالبات جادة بأن يكون النقل من لغة (هي بالأحرى ثقافة) إلى أخرى أميناً وأصيلا. الترجمة كما يراها الفيلسوف الإيطالي امبرتو ايكو هي "عملية تفاوض مستمرة، إذ يتحتم على المترجم أن يتفاوض مع شبح مؤلف هو في أغلب الأحيان غير موجود، ومع الحضور المهيمن للنص المصدر (الأصل) ومع الصورة التي لا تزال غير محددة للقارئ الذي يترجم له"، كل هذا يجعل الأمر أكثر تعقيداً بشكل يتجاوز قدرة الفضول على استثارة المزيد من نفسه، فالترجمة عند هذا الحد تصبح مستوى متقدماً من عملية عقلية سحيقة ترتبط بغريزة البقاء، فلا وجود للحياة بدون ترجمة؛ ألا نترجم يعني ألا نفهم، ألا نشعر، ألا نتذكر، ألا نحلم، ألا نتواصل، ألا نعيش".
لأجل القارئ
يجيب المترجم العماني أيمن العويسي عن سؤالنا قائلا: "أترجم لأن على الضفة الأخرى قارئا نهما يتطلع لقراءة ما كتبه الآخرون من أدب وعلم وتاريخ، فما يكتب في الثقافات والحضارات الأخرى يبقى مجهولا لنا حتى يأتي المترجم ويصلنا بتلك الضفة، أجيد الإنجليزية وأقرأ ما يكتبون؛ بيد أني لا أجيد الصينية وأتطلع لمعرفة ما يكتبه الصينيون، لذا فإني أترجم لأجل القارئ، ومع القارئ هناك باحث مجد يدرس تخصصا دقيقًا لكنه لا يستطيع الوصول إلى معلومات مهمة قد تكون كتبت بالفرنسية أو الأمهرية؛ وبدون المترجم ستحول اللغة بينه وبين تلك المعلومة التي قد تكون إضافة ثمينة لبحثه، ومع القارئ والباحث أترجم لأجل لغتنا العربية العظيمة وإثراء محتواها، فلا يكفي أن نقرأ ما يكتب في ثقافتنا، وإلا سنظل حبيسين بين جدران ثقافتنا؛ فحين ترجمت عن الأدب الروسي انفتحت أمامي أبواب مشرعة قادتني لثقافة ثرية ومنها زرت روسيا واقتربت منها أكثر، لذا فإني أترجم لأجل القارئ والباحث وكله من أجل لغتنا العربية العظيمة".
إضاءة مواطن العتمة
أجابت المترجمة العمانية عهود المخينية بقولها: "يكون السؤال في الوهلة الأولى مبادهةً. ثمّ تزاح عنه هذه الصفة بتقليب خيوطه الممتدة وشدّها حتى تكون واضحةً للرائي أو السامع الأوّل وهو المترجم الذي وجّه إليه السؤال ثم للسامع أو الرائي الثاني وهو القارئ. لم نترجم؟ سؤال أشمل، أما لم تترجم؟ فهو سؤال يتوخّى تفرّدًا في التجربة. لا يشغل التّرجمان نفسه بالسؤال متوخيًا إجابته باحثًا عن أسباب محددة يحتمل أن تكون ردًّا يخبر عمّا يخفى قبل بلوغ النتاج الأخير، يشغل نفسه بما هو أخلق؛ التّرجمة. يكبّ عليها قارئًا باحثًا محقّقًا ومنوّرًا. يبتغي أن يضيء مواطن العتمة وأن يطأ ما لمْ يوطأ. يشقّ ساعات ظاهرها الصمت وباطنها صخب الدأب الحريز، ليخرج نصًّا لم يكن معلومًا به تكون إجابته.
في اللغة الكثير ممّا لم يسبر بعد، ومن كان ترداده على باب الترجمة عادةً، أدرك في كل مورد بيانًا يستعين به في مسيره الآتي، هو زاد.
أترجم لأنّ اللغة كيان كائن أحبّ العيش في رحبائه، ليس ممْلولًا ولا ملولًا. أدرك في هذا الفعل ما لا أدركه بغيره، وبه أفهم".
رحلة وجسر
وقال المترجم العماني حاتم العامري: بدأت الترجمة كعمل تطوعي للمساهمة في تعريب المحتوى في الإنترنت، تحول هذا العمل إلى هوس وشغف. الترجمة بالنسبة لي سفر وليس جغرافيا فقط، إنما عملية اختراق لثقافته وأسراره وعلومه.
وأضاف: "وأنت تمتطي حصانك العربي في رحلة الترجمة، لا تنفك من المقارنة بين العالمين، بل من الممكن القول بأن عملية الترجمة هي بنظري أكبر مشروع دراسة مقارنة ليس فقط من الجانب اللغوي، بل أكثر من ذلك.
أترجم لأن الترجمة من زاوية أخرى جسر معرفي، ليس بالضرورة أن تنقل تلك المعارف كعمل مترجم فعلي، ففي الحقيقة قراءتك وإلمامك اللغوي، يحقن تلك الأفكار في منظومتك الفكرية بمجرد قراءتها، وبالتالي تصبح جزءا من منطوقك وحديثك اليومي ولكن بلسان عربي.
ما يأسرني حقا في الترجمة، أنها ليست فقط "شغل قواميس"، بل تدفعك إلى التنبيش عميقا عن المقاصد الحقيقية للكاتب الأصلي، أو لنقل المقاصد الجمعية إن كانت رؤيته مؤطرة بإطار بيئة وجغرافية معينة. العوالم السرية والبواطن في مشروع الترجمة لا تقل عن الظواهر. بل ما يميز المترجم أنه يستطيع أن يحوّر "جاءك الذي يفعل كل شيء" إلى "فلان أبو سبع صنائع". هذه النزعة اللاتقليدية ولكن مع قليل من المسؤولية تجاه فهم القارئ الذي سيقرأ عملك، هي جوهر الترجمة.
وبغض النظر عن كل ذلك، الترجمة بالنسبة لي مشروع تطوير شخصي. ذلك النوع من التطوير الذي ينبهك أن هنالك دائما أشياء لا تعرفها عن هذا العالم. البروج العاجية، تهدمها الترجمة عبر توسيعك الافتراضي لحدودك المكانية والزمانية".
تقبّل الآخر
واختصرت المترجمة العمانية رحمة الحبسية إجابتها قائلة: "أترجم من أجل تقريب وجهة نظر أخرى في بقعة ما في العالم وجعلها حاضرة قريبة من القارئ الهدف لحثه على دراستها والنظر فيها ومناقشتها، فأنا أترجم لأقترب نحو الآخر عبر جسر الترجمة ، وهي تعبير عن تقبلي للآخر ورأيه -على اختلافه- ومحاولة مني لتبادل الفكرة معه ببدء الخطوة الأولى وهي الترجمة".
