46456
46456
ثقافة

قمر الضحى «1 من 2»

24 أكتوبر 2021
24 أكتوبر 2021

سمعت للمرة الأولى عن الخريطة من أحد أساتذتي. لم تكن تلك من المعلومات التي يفترض أن يلقننا إياها، لكنني أظن أنه كان يشعر بالضجر أحيانا مما يتحتم عليه أن يفعله، فينجرف في بعض الأحيان إلى موضوعات غير متوقعة. لم يكن معلمنا الدائم، برغم أنه كان معلما في مدرسة ابتدائية في البلدة وكانت له سمعة بأنه مثقف. كان اسمه مَعَلِّم حسن عبدالله، وكان قد انتقل حديثا لسكنى بيت مجاور لنا استأجر طابقه السفلي من جارينا، عم عبدالرحمن والست فاطمة. كنا نناديهما بعمي وخالتي بوازع من الاحترام. لم يكن لديهما أطفال، وكانا يقيمان في الطابقين العلويين من البيت فلم يلزمهما الطابق الأرضي. وكان عم عبدالرحمن معلما هو الآخر، ولكنه معلم أهم كثيرا.

فقد كان يدرِّس في المدرسة الثانوية، إذ يجري التدريس كله بالإنجليزية، وكان قد درَس في كلية جامعة مكيريري في كمبالا. في ذلك الوقت، كان أغلب المعلمين في المدارس الثانوية أوروبيين فكان لعم عبدالرحمن ما يشبه السحر من مطاولته أولئك الأسطوريين كتفا بكتف. لا بد أنه ومعلم حسن كانا يعرفان أحدهما الآخر من قبل، أو لعلهما درسا معا وهما صغيران.

كانت أمي هي التي اقترحت أن نذهب إلى معلم حسن. لم تكن من حاجة واضحة إلى درس خصوصي. فلم تكن حصص ضاعت علينا، أو تخلفنا، مثلما كان يحدث أحيانا حينما يصاحب التلاميذ آباءهم لزيارة أقارب أو حينما يمرضون. فكان يبدو حينذاك أن الأولاد لم يمرضوا لأيام قليلة، بل لشهور، وحين يرجعون إلى المدرسة يكونون متخلفين كثيرا عن الجميع، أو الجميع فيما عدا ذوي الرؤوس الصلبة الرافضين لتعلم أي شيء معتبرين ذلك شرفا وسمعة. ولا كان آباؤنا قد وقعوا على المطامح المهنية المرهقة لنا بما تستوجبه من دراسة إضافية، كما كان حال تلاميذ المدرسة الهنود الذين دأب آباؤهم على إرسالهم إلى دروس خصوصية منذ بواكير أعمارهم بعدما انتهوا إلى أنهم سوف يصبحون أطباء أو محامين أو عباقرة في الرياضيات.

ما كان ليخطر لأبويّ أن يتخيلا هذه الأمجاد لنا، ولا أتصور سببا أيضا كان يدعوهما إلى القلق على أدائنا الدراسي. فقد كان أخي الصغير (حاجي) ينجح في المدرسة بلا جهد يبذله، أو أن معلميه على الأقل كانوا يحبونه ويثنون عليه، وكان له كثير من الأصدقاء. كان يعقبني بعام، وبدلا من أن يتعرض لغطرسة المعلمين وأمرهم له بالاقتداء بي في الجد والاجتهاد، كنت أنا الذي يحثه المعلمون على التعلم منه وإظهار نزر من الذكاء. لقد كنت الكادح المجتهد الذي ينبغي شرح كل شيء له، والمتردد الشاكّ قبل كل وثبة. وأحيانا كانا الناس يسألون أينا الأكبر سنا.

أما عن أختنا رندة، فكانت قد التحقت بالمدرسة للتو، لكنها حينما سمعت أننا ذاهبان إلى بيت الست فاطمة لحضور درس خصوصي طالبت بالانضمام إلينا. فقد كانت الست فاطمة خالتها المفضلة التي أشبعتها تدليلا منذ أن كانت طفلة رضيعة.

لا أعرف ماذا كان رأي أبي في دروس العصر تلك. قال لي غير مرة إن عليَّ أن أبقي عيني مفتوحتين، وأن أكون أشد انتباها، وأحرص على نفسي. كان ذلك جزءا من الموشح المرهق الذي تحتم عليّ احتماله في المدرسة. كان يقول لي لا بد أن تكون أكثر انتباها للعالم. لكنه لم يتوقع من المعلم حسن أن يعلمني ذلك. وعلى أي حال لم أفكر في أسباب بعثنا إلى معلم حسن. خمنت أنها بدت لأمي فكرة جيدة، تظهر من خلالها عنايتها الأمومية بتعلمينا. وأبي لم يكن يماثلها دائما في حماستها بل لقد كان يشكو في بعض الأحيان من تفاهة بعض المعارف التي نرجع بها من المدرسة. فبماذا ينتفع أي امرئ بمعرفة أغنيات الأطفال الإنجليزية أو بالإنصات إلى التفاخر بمغامرات الجشعين؟ أما أمي فقد كانت المدرسة بالنسبة إليها هي المعرفة، برغم أنها هي الأخرى كانت لها أفكارها الخاصة عن النافع وغير النافع. فالإنجليزية والحساب نافعان، ما دام النجاح فيهما يؤهلنا للتقدم إلى المدرسة الثانوية. على أي حال، كان المعلم يعيش في بيت الجيران ويقال إنه قرأ من الكتب أكثر مما قرأ أي أحد في البلد، وكان لديه وقت فائض.

كنت أعرف معلم حسن قبل أن يصبح معلما لنا. لم يكن قد تكلم معي قط، لكن لو كان غريب سألني من ذلك الرجل لكنت ذكرت اسمه بلا تردد. كنت أعرف أيضا أنه يعزف على العود في فرقة أحيانا. ففي عام من الأعوام اشترى لنا أبي تذاكر لحضور حفلة عيد، ولم يذهب هو شخصيا إذ كانت الموسيقى عموما تتسبب له في الصداع، وأحسب أنه كان يرى الوجعي الغرامي في أغنيات الطرب tarab أمرا محرجا. كان معلم حسن ضمن الفرقة في تلك الليلة، وشأن بقية الموسيقيين، كان يرتدي سترة سوداء وربطة عنق فراشة، وهو زيٌّ ما كان أحد يرتديه في أي وقت آخر. كان محاكاة للفرق الموسيقية المصرية التي دأبت على الارتداء بتلك الطريقة تعبيرا عن حداثتها، والتي كان لها أثر هائل على الطرب سواء من ناحية الموسيقى أو الزي.

كانت في المعلم حسن صرامة. كان منغلقا ومرتابا، ويتكلم بصوت فيه حدة، ويمسك نفسه بطريقة ما عن الإساءة للآخرين. وكان يسير مطأطئ الرأس، ناظرا إلى أسفل، لا يحيي الناس إلا بتحية مقتضبة بل متوترة. وكان في هذا مغايرا لأغلب رجال حيِّنا الذين لا يكفون عن تحية بعضهم بعضا، فيعبرون الشارع أو يترجلون عن الدراجات للمصافحة، ويتكلمون ويضحكون فتعلو أصواتهم في الشوارع. وكانوا يجلسون في المقاهي في أواخر العصر وبدايات المساء، يتكلمون ويتناقشون وينمّون ويعرفون أخبار الدنيا. ففي ساعات الطراوة من النهار كان الرجال يعيشون في الشوارع بقدر ما يعيشون في بيوتهم. ولذلك السبب كان يحسن اجتناب بعض الشوارع. لم يكن معلم حسن يصخب في حديث أو يسرف في ضحك شأن بقية الرجال. ولا كان أبي يفعل، إذ كان يرى في تلك الوقاحة هوانا، فلم يكن يرفع صوته على أحد أو في أي أمر من الأمور. لكنه لم يحب شيئا مثلما أحب العروج على المقاهي لقضاء ساعات من الحديث في السياسة، أما معلم حسن فلم يكن يقضي فيها غير دقائق يحتسي فيها قهوته ثم يمضي إلى حال سبيله.

الآن فقط، إذ أرجع بأفكاري إليه محاولا وصفه، أستعيد تلك التفاصيل. لم أكد أنتبه إلى انتقاله لسكنى غرف البيت المجاور لنا. فقد كان الرجال يفعلون ذلك، يستأجرون غرفة سفلية ويعيشون فيها منفردين بأنفسهم. لعلهم كانوا يعملون في البلدة بينما تقيم عائلاتهم في الريف. وربما لم يكن في بيت العائلة متسع، لوجود كثير من الإخوة والأخوات، والعمات وأبناء العمومة، فيغص الهواء بالمشاحنات والمشاجرات. أو لعلهم كانوا يعيشون بمفردهم لأسباب معقدة، أو ليتنفسوا بمزيد من الحرية، أو بحثا عن أسلوب حياة يروق لهم.

أتصور أن تعليمات صدرت لأبي ليتولى أمر التفاصيل ويدفع ما اتفق عليه مع أبوي. ولعل ذلك الأمر أثار الشجار المعتاد. فقد كانت أمي شهيرة بلينها. فكان الجيران والأقارب يستدرون دموعها بقصص شقائهم، فتعطيهم ما لم يكن ينبغي أن تعطيهم أو ما لا تقوى على إعطائه: أفضل ثوب كانجا عندها، أو حليها، أو عشاؤنا. وكان رد فعل أبي يتراوح بين الغضب والضحك دون تصديق، لكن أمي لم تكن تملك ألا تفعل ذلك. ولم يخطر لي في حينه، لكنني لاحقا بدأت أتساءل إن كانت الغاية من تلك الدروس الخصوصية هي مصلحة معلم حسن بقدر ما هي مصلحتنا نحن الأطفال. على أي حال توجهنا في عصر أحد الأيام لحضور تلك الحصص.

كانت الغرفة التي يدرِّس لنا فيها معلم حسن في مقدمة البيت. ولها شباكان عليهما قضبان حديدية ويمتدان من الأرض إلى السقف. أحدهما في المقدمة والآخر في الجنب، وكانت الضلف الخشبية في كليهما تفتح باتساعها فيفيض على الغرفة نور العصر. وكان أثاثها أربعة كراسي صلبة بجوار الجدار ومكتبا صغيرا بجوار الشباك الجانبي رأينا معلم حسن جالسا إليه عندما وصلنا. بدت الغرفة أشبه بمكتب حكومي منها بصالة بيت، متقشفة بسيطة، وأرضيتها الخرسانية عارية، بلا حصيرة أو سجادة. وكان عوده معلقا على مشجب في الجدار.

كنت أحب رهبة مقابلة المعلمين الجدد مع انتقالنا في المدرسة من صف دراسي إلى التالي. ولكن عيني معلم حسن المنخفضتين وشاربه المحفوف كانا يضفيان عليه سَمت الحزن والتخويف في الوقت نفسه، فخلعت صندلي على عتبة غرفته لحضور الحصة الأولى بينما ينتابني إحساس طاغ. كنا قد طولبنا بالمجيء ومعنا كتب التمارين المدرسية، فنظر معلم حسن إلى هذه الكتب بسرعة ونحن جالسون في أركان منفصلة من الغرفة التي أدخلنا إليها. ثم إنه حدَّد لكل منا تمارين مختلفة وقضى وقتا مع كل واحد فينا وهو يكافح في تمارينه. ولما تكلم، بدا صوته أجش مهزوزا كمن لم يستعمله لفترة. لم يكلم أحدنا الباقيين، ولا تبادلنا النظرات تقريبا. واستمر هذا الأداء المتوتر ثلاث حصص ـ وكنا نقصده مرتين في الأسبوع ـ وفي الرابعة، وصلنا لنجد ضلف الشبابيك السفلية مواربة للوقاية دون نور العصر. ووجدنا أيضا بساطا صوفيا وراء الباب فلعل النور الشديد والأرض الجرداء كانا مقصودين تحسبا للعبث، فلما تبين أننا مطيعون ومرعوبون تمام الرعب، سمح معلمنا بشيء من تلطيف الأجواء.

كانت أختي رندة قد انسحبت، باكية شاكية شقاءها بحس مأساوي عثرت عليه دونما قصد وما كان بوسع أمي أن تقاومها. لم تلجأ لتلك المأساوية قط مع أبي الذي كانت تأسره بعشق منها له يقابله عشق منه لها، لكنها كانت تعلم أن أمي لا تملك أن تقاوم دموعها وغضباتها. كنت أتساءل حتى في ذلك الوقت كيف ستعالج رندة الحزن حين يحل عليها في قابل حياتها، أم أنها ستكون قد تلاعبت به طويلا فلا يبدو لها عند حلوله إلا تفاهة. في عصر ذلك اليوم مضت في طريقها وقد سمح لها بالتوقف عن حضور الدروس الإضافية التي لم تكن لها على أي حال إلا عبثا، ولم تكن رندة تحتمل الحرمان من أي شيء.

بعد مرور وقت في حصة العصر، قرر معلم حسن أن يختبرنا في التهجِّي. وكنت أحب هذه الاختبارات لا لأنني كنت ماهرا فيها للغاية، ولكن لاستغراقها وقتا طويلا، ولحبي لدراما تبادل كتب التمارين وتصحيح عمل شخص آخر. كان حاجي ماهرا جدا في اختبارات التهجي، لكن هزَمَته إحدى الكلمات التي امتحننا بها المعلم حسن في ذلك اليوم. تبين أنها Constantinople [القسطنطينية]. ابتسم معلمنا لجهلنا وقال، إسطنبول. كان يطلق عليها القسطنطينية قبل أن تصبح إسطنبول. جعلنا نكتب الكلمة على النحو الصحيح ونرددها بصوت عال مرات قليلة. حكى لنا أن المدينة سميت باسم إمبراطور روماني عظيم، وإن الاسم يعني مدينة قسطنطين، ثم حكى لنا عن سقوط المدينة سنة 1453، وكيف قاوم المدافعون ببسالة، ولفترة طويلة، وكيف منعوا البحرية العثمانية من دخول البسفور بإقامتهم سدا على مدخله، وكيف نقل السلطان محمد الفاتح سفنه برا بجرها على جذوع مدهونة بالزيت إلى البحر الأسود فاستطاع أن يستولي على المدينة من الخلف. حكى لنا معلمنا عن سقوط المدينة بوصفه نصرا ومأساة في آن واحد. وبعد ذلك صرنا نحضر كل حصة على أمل أن يضجر معلم حسن من الإنجليزية والحساب فينسل بنا إلى أحد عوالمه الحلمية المستنيرة.

لم يحك قصصه بالكثرة الكافية لأخي حاجي الذي بدأ يتغيب عن الحصص بعد أسابيع قليلة، لكن لا هو حكى لأمي ولا أنا حكيت. وكان معلم حسن يسأل عنه فأكذب عليه أي كذبة تبدو متماسكة. وكان يبدو عليه الارتياح لوجودنا نحن الاثنين فقط، فيكون أقل عبوسا، ويجلس إلى مكتبه ليقرأ بينما أنهمك أنا في أي واجب يكلفني به. وفي بعض الأحيان كان يتدرب على العود، لكنه يتوقف فور أن أبدي اهتماما، فتعلمت أن أطأطئ رأسي وأتظاهر بعدم الانتباه. كان الاستماع إليه وهو يعزف مبهجا بينما أنا متراخ في تنفيذ التكليف الرتيب الذي عهد به إليّ. كان يحتفظ بكتبه الشهيرة في غرفته الأخرى، لكن كان على مكتبه دائما كتاب في تلك الحصص، تحسبا للحظات تتوفر له للقراءة. كان يبتسم أكثر، ابتسامات حذرة مترددة يتبدل بها وجهه. وكان يخاطبني باسمي ويطرح عليّ أسئلة عن نفسي. أي رياضة ألعب؟ قال لي إنه في ما سبق كان سباحا متحمسا، لكن ذلك في صغره. ومنحني واحدة من ابتساماته حينما حكيت له عن مدى استمتاعي بالذهاب إلى المدرسة.

مع اعتيادي المعلم حسن وتخففه قليلا من صرامته معي، تعلمت كيف أستل منه قصصه البسيطة. كان البحر دائم الحضور في قصصه. ومن خلال ذلك حكى لي ذات يوم عن الخريطة. كنت قد لاحظت في أول يوم دخلنا فيه غرفته مطبوعة مؤطرة بالبني والذهبي على جداره. ولم يكن من زينة في غرفته الجرداء الحارة إلا تلك المطبوعة وصورة فوتوغرافية لما بدا أشبه بتخرج دفعة دراسية. لفترة طويلة لم أستطع أن أتبين ما معنى مخطط الانتفاخات والأعلام ذلك. لقد كان عالمنا حافلا بصور كلها تقريبا مفهوم بدرجة ما وبرغم أنني لم أكن أعرفها على وجه اليقين فقد خمنت أن أغلبها يتعلق بإله هذا الشخص أو ذاك. ففي حانوت الخياط صورة رجل بدين له رأس فيل. وثمة نصوص بالأوردو معلقة في أطر بدكان الحلاق، وصور نجوم وأقمار في أشكالها المتورمة المتنوعة. ومتجر الكتب الدينية كانت فيه صور لحصان مجنَّح وأخرى لسيوف منحنية متصالبة. وكانت التقاويم تعرض صورة امرأة ذات ثماني أذرع، ورجل ضخم اللحية، وبنايات هائلة وكلمات وأرقام بمختلف الأبجديات. فلم يكن لمطبوعة ذات نتوءات بنية وذهبية أن تثير القلق. خطر لي أنه في يوم من الأيام سوف يحكي لي عنها. وفي عصر يوم حار من أكتوبر، وسط الانهماك في فقرة كلفني بها، فتبين أنها مهمة لا تطاق، وجَّهته إليها. حملقت في المطبوعة في استغراق تام، مميلا رأسي إلى الجنب، ثم إلى الجنب الآخر، عسى أن أتبين معناها. وعلمت أنه كان يرقبني، فرجوت ألا يقاوم إخباري بأمرها.

سألني «أتعرف ما هذه؟»

كنت في ذلك الحين أحضر حصصه وحدي منذ بضعة أسابيع، فباتت تتاح لي بعض الحريات الصغيرة. نهضت واقتربت أكثر من الجدار. تمهلت أمام المطبوعة، ثم رأيت فجأة أنها خريطة أولية للعالم مقلوبة رأسا على عقب. وكان شكل أفريقيا هو الذي ألهمني الإجابة. قلت «خريطة. لماذا هي مقلوبة رأسا على عقب؟»