56465
56465
ثقافة

فاروق خورشيد و«أدب السيرة الشعبية»

26 مارس 2022
26 مارس 2022

-1-

أجمل ما في «أيام الشارقة التراثية» التي تعقد بإمارة الشارقة خلال الفترة من 10إلى 28 مارس 2022 هذه الروح الإنسانية الصافية التي تغمر الجميع، فلا يهم مَن أنت أو مِن أين أو ما جنسيتك.. المهم ماذا ستقدِّم من إبداع أو فن أو معرفة أو علم كي تسعد الناس وتفيدهم وتمتعهم في آن..

فقط لغة واحدة يفهمها الجميع في كل مكان تخطو فيه على أرض الشارقة في ساحتها التراثية بقلب الإمارة أو في أطرافها الهادئة (خورفكان وكلباء والذيد ودبا الحصن)؛ لغة ترسم البهجة على الوجوه، هي لغة الفن والإبداع والابتسامة التي يتصافح بها الضيوف في أرجاء الساحة التراثية وبين قاعاتها وساحاتها الخارجية أو في مثيلتها بكلباء أو خورفكان أو دبا الحصن أو الذيد..

أما المحاضرات والندوات العلمية التي شكلت حجر الأساس في فعاليات الأيام، فجمعت في جلساتها نخبة من أميز وأرقى الباحثين المتخصصين في التراث الثقافي المادي واللامادي على السواء؛ فالاستماع إلى باحثة كبيرة وأستاذة جليلة بقيمة الدكتورة نجيمة طاي طاي من المغرب أو الدكتورة نارين جريجوري من النمسا أو الدكتور حمد بن صراي من الإمارات، أو لباحثٍ جاد ودؤوب وصاحب مشروع حقيقي مثل الدكتور منِّي بونعامة دينامو إدارة المحتوى والنشر بمعهد الشارقة للتراث.. أقول إن الاستماع إلى كل هؤلاء متعة خالصة فضلًا على العمق والابتكار في طرح أوراقهم البحثية وطروحاتهم وفرضياتهم المنهجية التي تغطي كل جوانب التراث والمستقبل، ورؤى حفظ التراث وصونه في كل مكان في العالم فتحية للإبداع الشعبي وللتراث والمعرفة الإنسانية في كل زمان ومكان..

-2-

كانت هذه مقدمة موجزة عن السياق الثقافي والتراثي الذي صدر ضمنه، وفي إطاره، الكتابان الثاني والثالث من سلسلة (عالم التراث) التي دُشِّن إطلاقها قبل شهرين في معرض القاهرة الدولي للكتاب الـ53، وصدر العدد الأول منها بعنوان «الثقافة العربية» للراحل الكبير عباس محمود العقاد.

صدر العددان الثاني والثالث من سلسلة (عالم التراث) بعنوان «مدخل إلى أدب السيرة الشعبية» (الجزءان الأول والثاني) للرائد الفولكلوري الكبير والباحث الراحل في التراث الشعبي فاروق خورشيد (1925-2005).. يقول محرر السلسلة في تقديمه لهذه الطبعة من هذا الكتاب النادر:

«... ويسعدنا أن نقدم اليوم لطبعةٍ جديدة لواحدٍ من أبرز وأهم كتب المرحوم فاروق خورشيد التأسيسية في التعريف بالسير الشعبية، وهو الذي عنوناه بـ«مدخل إلى السيرة الشعبية»؛ الذي يتضمن بالإضافة إلى النص الكامل لكتاب خورشيد المرجعي «أدب السيرة الشعبية» دراسته المطولة «السير الشعبية العربية» التي نشرت كدراسةٍ مستقلة في أحد أعداد مجلة عالم الفكر الكويتية.

والنصان معًا يشكلان أحد أفضل المداخل للتعريف بالسير الشعبية، وقد فضلنا أن تتصدر كلمة «مدخل» هذه الطبعة الجديدة لأنها تستوفي تمامًا كل خصائص وسمات كتابة «المداخل» من حيث الاهتمام بوضع حدود للتعريف، وتتبع المسار التاريخي لفن السيرة الشعبية، والوقوف عند نصوصها، وتحليل البناء الفني لها، وتحليل سياقات الظهور والتشكل والخصائص النوعية الفارقة عن غيرها من فنون القول والإبداع والأداء».

-3-

أما لماذا هذا الكتاب تحديدًا واختياره للنشر ضمن أعداد السلسلة؛ فيجيب محررها بوضوح ويقدم بين الكتاب حيثيات اختياره وإصداره، وأهميته وضرورته المعرفية والثقافية؛ ولماذا صدر على جزءين بقوله «لأنه يظل واحدًا من كتبنا المرجعية الضرورية التي تتيح لقارئها المثقف العام، فضلًا على المتخصص، معرفة تأسيسية وضرورية بسيرنا الشعبية الرائعة؛ التي أتصور أن جهود الراحل فاروق خورشيد بها مثَّلت انعطافة حقيقية في إعادة النظر لها والاهتمام بها خارج دوائر التخصص الأكاديمي، وقاعات الدرس المنهجي، وهو ما تجسد في جهود ودراسات وأعمال تالية ما زالت تترى وتظهر إلى النور وتؤكد حيوية وجدة ونضارة هذا التراث السردي، وأهمية حضوره والاعتناء به، فضلًا على استلهامه وإعادة إنتاجه.

وقد ارتأت هيئة تحرير «عالم التراث»، مراعاة للشكل الفني والقطع الموحد الذي تصدر به السلسلة، أن يصدر الكتاب في جزءين متصلين؛ يضم الجزء الأول تقديم الطبعة الجديدة ومقدمة المؤلف والمدخل المعنون بـ«السير الشعبية العربية»، ثم الفصلين الأول والثاني. فيما يحتوي الجزء الثاني على بقية فصول الكتاب (من الثالث إلى الخامس) فضلًا عن الهوامش والتعليقات الملحقة بالكتاب كله.

-4-

وقد اعتنى فاروق خورشيد بدراسة السير الشعبية اعتناء كبيرًا ومثيرًا للإعجاب، ففي إطار الجهود التي قدمها فاروق خورشيد في دراسة والتعريف بالسير الشعبية، قدم خمسة كتب كاملة، من أشهرها «أضواء على السير الشعبية» (1964)، و«فن كتابة السيرة الشعبية» (1964) بالاشتراك مع محمود ذهني، و«أدب السيرة الشعبية» الذي نعيد تقديمه اليوم، ودراسته «السيرة الشعبية» التي قدمناها أيضا في طبعتنا هذه، غير الفصول التي خصصها للسيرة الشعبية أو ما يتصل بقضية من قضاياها في كتبه الأخرى؛ مثل «الموروث الشعبي»، و«الجذور الشعبية للمسرح العربي»، و«أديب الأسطورة عند العرب»، فضلًا على الصياغات الكاملة المعاصرة التي قدمها لنصوص سيرٍ شعبية قديمة، كما أشرنا آنفًا.

حينما صدر كتابه الأول عن السيرة الشعبية في العام 1964 «لم يكن أحد من المثقفين حينها يعرف شيئا يذكر عن فن السيرة الشعبية، اللهم إلا قلة قليلة جدا من تلاميذ الشيخ أمين الخولي، وعلى رأسهم الدكتور عبدالحميد يونس، ورشدي صالح، وفاروق خورشيد، وزكريا الحجاوي. لقد لفت هذا الكتاب أنظارنا إلى المنبع الأصيل الذي ينبغي أن نستقي منه الري الحقيقي لعطشنا الثقافي ولهويتنا الثقافية».

وبالتالي كان كتابه «أضواء على السير الشعبية» أول كتابٍ من نوعه في الثقافة العربية الحديثة، يكون موجهًا للقارئ العام، والمتخصص على السواء، لإلقاء أضواء كاشفة وساطعة على خمس سير شعبية في تراثنا العربي؛ وهي: «سيرة عنترة بن شداد»، «سيرة الأميرة ذات الهمة»، «سيرة الظاهر بيبرس»، «سيرة علي الزيبق»، و«سيرة سيف بن ذي يزن».

و«السير الشعبية» كما يعرفها فاروق خورشيد «فن قصصي قائم بذاته، له أصوله، وقواعده الفنية التي تسير عليها كل السير المتكاملة، وتسير نحوه السير التي لم يقسم تكاملها، ودونت قبل أن تكتمل لها كل مراحل القيمة الفنية، وقبل أن تتحقق لها كل ملامح السيرة الشعبية الفنية».

ويفرق خورشيد بين السيرة الشعبية الخالصة، وبين القصص الشعبي، فالقصص الشعبي كما يرى عبارة عن كم هائل اهتم به المسامرون وكتاب الأخبار والحكاؤون منذ مطلع التاريخ العربي، ودونت أعمال كثيرة منه، واستمد وجوده من المترسبات الشعبية العربية من الجزيرة، ومن غيرها من أجزاء المنطقة العربية، كما استمد وجوده أيضًا من الوافد من الشعوب المجاورة والبعيدة على السواء.-5-

وفي كتابه هذا يتوقف فاروق خورشيد أيضًا بالدرس والتحليل أمام قضايا ذات طبيعة خاصة في علاقة السيرة الشعبية أو اتصالها بغيرها من الفنون والأنواع الأدبية الأخرى، فيرصد على سبيل المثال تحولات نص «السيرة» من الشفاهة إلى التدوين في إطار دراسته للسيرة الشعبية بين الفولكلور والأدب، وربط ذلك كله بالهدف القومي «العروبي».

ويتوقف فاروق خورشيد تفصيلًا أمام ملامح البطل في السيرة الشعبية، ويحددها، وعلاقة السيرة الشعبية بالإبداعات الشعبية الأخرى، والشعر والسير الشعبية، وأدب السيرة الشعبية، والخيال العلمي المعاصر.

وكعادته في أعماله البحثية ودراساته؛ كان المرحوم فاروق خورشيد يتوقف بالتفصيل أمام النصوص التراثية الغنية ويوردها في مواضعها معلقا عليها ومقارنا بينها، ويورد أقوال ونصوص الباحثين والدارسين المعاصرين، محللا ومعلقا، موافقًا لها أو مختلفًا معها، وكل ذلك في إطار من العرض الناصع والبيان الجلي، ولم يكن يتعمد أبدًا أي تقعير أو غموض أو التواء في الاصطلاح أو عرض المفاهيم، ومن هنا كانت تأتي جاذبية كتبه وأعماله وانتشارها بين عموم القراء والمهتمين بالتراث والسيرة الشعبية أو المتخصصين على السواء... (وللحديث بقية)