عن كتاب «بنية اللغة الشعريّة» لجان كوهن
ما زال الشعر من الموضوعات التي يتطور الجدل حولها بتطور الفكر والذائقة البشريين، ولأنه فلسفة اللغة يصعب اكتشاف حدوده؛ وإن حددنا أدواته كما يرى جاكبسون، ولهذا يعد كتاب (بنية اللغة الشعريّة)، للعالم والفيلسوف الفرنسي جان كوهن، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري؛ من الكتب التي وجهت الجهود البحثيّة إلى دراسة التجربة الشعريّة بأسلوب مختلف.
تتبّع كوهن في كتابه (بنية اللغة الشعريّة) الشعريّة من علاقة المصطلح بالشعر في شكل القصيدة الكلاسيكيّة إلى النص الذي يتميّز بما يثيره إحساسا في وقتنا الحالي، فيعرض ثلاثة أنماط من الشعر: القصيدة النثريّة، والقصائد الصّوتيّة، والشعر الدلاليّ، وضرب لكل نمط مثالا خلال الصّوتي والدّلالي، ومن هنا طرح قضيّة ثنائيّة (النثر / الشعر)، وهدف الشعريّة هو تصنيف النص في واحد من هذين، وعدّ ذلك وظيفة علميّة، فخرج إلى أهم ما يجعل النص شعرا من خلال الأسلوب؛ إذ الأسلوب عنده كل ما ليس شائعا ولا عاديّا ولا مطابقا للمعيار العام المألوف، وله قيمة جماليّة هي الانزياح؛ حيث يتأكد لقاء هام بين الأسلوبيّة والإحصاء.
في المسألة الشعريّة يناقش كوهن الدّال والمدلول أو العبارة والمحتوى، فالشكل علاقات العنصر داخل النّسق، والمادة هي وظيفة كل عنصر بهذه العلاقات، ووجهة النظر الشكليّة هي التي تطبّقها البنيويّة على اللسان، ويعرض كوهن القضيّة الشكليّة في التمييز بين الشعر والنثر، فالزخرف الصّوتي يحدث أثرا جماليّا خاصا يتعلق باعتبارات (الجرس والتناغم) لدى الشاعر؛ من تكرار الأصوات والحرفيّة والنظم، ولكن القصيدة كذلك لغة تحيل على المحتوى؛ فيخرج إلى الترميز إذ فهم النص هو كما يراه تبيّن ما يختفي وراء الكلمات، وهو الفكر الذي لا يوجد بدون لغة، لكن الشعر شكل لغويّ يصعب ترجمته، والشكل هو الذي يحمل الشعر، والشاعر خالق كلمات؛ والشعريّة محايثة للشعر، فتختلف طرق القصائد وترجع عبقريّة الشاعر كلها إلى الإبداع اللغويّ والانزياح، وقد ميّز كوهن بين صنفين من الصور البلاغيّة: صور إبداع وصور استعمال، وتجسد الكلمات الجديدة الأولى بعبقريّة الشاعر، ولا تخلو الأخرى من تناقض؛ إذ إن الاستعمال هو نقيض الانزياح، والشعر لغة الفن يرى كوهن الصور البلاغيّة جوهر الفن الشعريّ، فتجاوزت البلاغة القديمة التي وقفت محاولتها عند وضع المعالم، بينما يعيد الشعر بناء اللغة العاديّة على مستوى أعلى، والشعريّة عند كوهن تساعدنا في توكيد عدم التباس قانون اللغة باللغة ولا بالمنطق، بل بتجاوزهما معا.
من خلال مبحث النظم في المستوى الصّوتيّ يرى كوهن أن النظم من مقومات العمليّة الشعريّة، ويحقق الدلالة في الشعر، ويختلف من لغة إلى أخرى بعناصر مصوّتة، لكنه ليس الإيقاع فهذا الأخير موجود في النثر، وناقش كوهن النبر والوقفة والعلامة الطباعيّة كالبياض بصفته نظما شعريّا في صفحة شعريّة تتميّز عن النثر، لا بد - عنده - من فهم الخطاب بتعيين علاقات الترابط المتغيّرة؛ منطقيّا ونحويّا، وفي هذا الفصل طرح جان كوهن تطبيقات وقراءة على نماذج شعريّة تتبّع فيها مقوّمات النظم الشعريّ وتحققّا في النص الشعريّ وتحقيقها للدلالة فيه، وعلاقة النظم بالجملة في مستوييها الدلاليّ والصوتيّ، وهنا يخلّ النظم بنظامها في الشعر، وكأن الشاعر يسعى إلى إضعاف بنيات الخطاب، وبالنظم يحدد البيت القافية ولا تحدد هي نهايته، وهكذا يعارض النظم الشعر.
«ما يجيزه النحو ليس بالضرورة أنْ يكون قابلا للفهم»؛ هذا ما يراه كوهن في مبحثه (مستوى الدلالة: الإسناد)، فالقواعد النحويّة ذات طبيعة صوريّة خاصّة، حتى لو لم يوافق المنطق على ذلك، والفرق بين الجملة الكاذبة والجملة غير المعقولة فرق دلاليّ، مثال «الفيلة تجرّها الخيول» لبرسون، فهي صحيحة نحوا وغير معقولة، وناقش كوهن علاقة الخطاب الشعري بالنحويّة بعرض القرائن، ومعنى الكلمة حسب نظريّة الدلالة السياقيّة عند اللسانيين الأنجلوسكسونيين، وفاعليّة الانزياح والمنافرة في الخطاب الشعريّ من خلال النماذج، وعمل الاستعارة باعتبارها خرقا لقانون اللغة لتحقيق المستوى الاستبدالي، فالشاعر عنده لا يقول أبدا ما يرغب فيه بطريقة مباشرة ولا يسمي الأشياء بأسمائها.
ضمن مستوى الدلالة عالج كوهن في كتابه التحديد، بإضافة كلمة أو كلمات أخرى يدعوها محدّدات، وقد اعتنى من بينها بالنعت، وطرح مقولات حول وظيفته السابقة وقيمته باعتباره محددا خالصا، وبعيدا عن موقع الصفة خبرا؛ فالنعت يشكل انزياحا حين تقوم بدور التحديد، لأن الدرجة الأولى لنفي الانزياح تكمن في تغيير الوظيفة. وفي المستوى نفسه عالج الوصل الذي يخضع للمقتضيات النحويّة المقعَّدة، وهو بمعناه الأعم الجمع، وفي الخطاب الشعري الجمع بين أفكار لا علاقة منطقيّة واضحة بينها، وناقش معناه منطقيّا ونحويّا وموقعه في الشعر الكلاسيكيّ والرومانسيّ؛ وبهذا الأخير صار مقوّما دائما، طرح بعدها كوهن الصورة بين الابتكار والاستهلاك، والانزياح في هذا المقوم، وفاعليّة المجازات كونها مولودة الشعر.
في الفصل السادس كان ترتيب الكلمات في مبحث الطريقة الشعريّة الخاصة التي تكسر قوانين الخطاب، وموقف الخطاب الشعريّ من متطلبات النحو، ويؤكد كوهن على أن النحو الركيزة الأساسيّة التي تستند عليها الدلالة، فاحترام قواعد النحو يحقق الجملة، ويرى أن المسافة بين الشعر المعاصر والجمهور سببها عكس ذلك، فلا بد من استعمال الانزياح باحتياط.
أما الفصل الأخير فخصّ به كوهن الوظيفة الشعريّة، حيث ناقش طبيعة الفارق بين النثر والشعر، وعلاقات الدال والمدلول التي يقيمها الشعر، ومشكلة معنى المعنى، ومكانة الإيحاء في الشعر المختلف عن المطابقة في الشعر، والاستجابات العاطفيّة، والصورة بوصفها نزاع الوظيفة.
