No Image
ثقافة

صورة الجَدّة في رواية "لا يُذكرون في مجاز"

17 أكتوبر 2022
17 أكتوبر 2022

تُقدّم رواية (لا يُذكرون في مجاز) لهدى حمد الصادرة عن دار الآداب 2022م انتقالا زمنيا للأحداث، وارتباطاً مهماً بين الشخصيات عبر أزمنةٍ مختلفةٍ؛ ومعها تبرزُ شخصية الجّدَة متمثّلة الدور الأبرز في عملية ربط الأحداث زمنياً، واتصال الشخصيات فيما بينها وصولاً بالحكاية إلى نهايتها. فما الصورة التي قدّمتها الرواية لشخصية الجَدّة؟ وما دلالات الأدوار التي تقوم به في الأحداث؟

تبدأ الرواية باستعراض علاقة الحفيدة بجَدّتها، ورسم صورةٍ بسيطة لهذه الجَدّة؛ إذ إنها أحبّتْ الحفيدة حبّاً كثيراً في طفولتها الباكرة، لكنّ الأيام باعدتْ بينهما، كونها لم تكن مقبولة في العائلة، فعاشتْ منبوذة بسبب الخلافات بينها وبين العائلة، فمنذ أنْ قال الأب للجَدّة:"تمارسين الخرافة المحرمة" هجرها الجميع. (ص17-18)

يبدو من ذلك أنّ الرواية ستقوم بإيجاد علاقة اتصال بين الحفيدة وجَدَّتها، ومعها ستتضح الأحداث أكثر، إلا أنه بالمضي في أحداث الرواية سنجد أنّ الرواية تأخذ القارئ إلى مسارين اثنين:

المسار الأول: متمثّل في تشكّل شخصيات مهمة تعمل على توسيع الأحداث وإقامة رابطٍ زمني يمدُّ القارئ بأحداثٍ جديدة، لعلّ أهم هذه الشخصيات وجود جَدّتين في الرواية ترتبطان ارتباطاً كبيراً بالحفيدة؛ فتقوم الجَدّة الأولى (بثنة الثائبة) بدور الكاتب للأحداث وإرسالها من الزمن الماضي إلى الحاضر عبر كتابٍ لها، كونها عايشت أحداثاً مختلفة منها. أما شخصية الجَدّة المتأخرة فإنها تقوم بدور المُمرّرة لكتاب الجَدّة الأولى إلى الحفيدة التي تقوم بدور القارئ للأحداث. إذن فهناك مُرسِلٌ، ومُمَرِّرٌ، ومُستقبِل ومعهم يبدأ السرد في التكوّن والتوسع.

المسار الثاني: يتمثّل في توالد الحكايات وصنعها من حكايةٍ رئيسة، فتقوم الحكاية بإيجاد حكاية أخرى لها ارتباط مكاني وزماني بالشخصيات، وهكذا تتسع الأحداث أيضا كون الرواية مجموعة من الحكايات والقصص المبتكرة في دائرة المكان الذي تدور فيه الحكاية الرئيسة.

تُظهر الرواية صفات الجَدّة المتأخرة، فهي إضافة إلى خبرتها في العلاج الشعبي كما يظهر لنا، فإنّ صفاتها الجسدية تظهر في السرد من وصف الحفيدة لها حين تقول: " التجاعيد ملأت وجهها وجبينها، وعيناها الصغيرتان تضيقان كلما ابتسمت لي، كانت خفيفة الحركة ويداها ممتلئتان بالخواتم غريبة الشكل على هيئة نجوم وشواهد، وتضع فوق صدرها فضَّتها على هيئة قروشٍ قديمة، ولم تسقط أسنانها كما ظننتُ، شعرها مفروق وما يزال شديد السواد، وغطاء رأسها يخفي النصف الآخر من شعرها المعقوص فوق ظهرها". (ص33) لكن هناك دورٌ آخر يظهر لها وهو أنها ليستْ سوى مُمرّرة لكتاب الجَدّة الأولى إلى الحفيدة أي ناقلة عبر الزمن، وهو ما منح الأحداث -لطول مسارها الزمني- صبغة خيالية وغرائبية في السرد، يتّضح هذا الدور في الحوار الآتي مع الحفيدة:

"-هل أنتِ مستعدة لقراءة ما تركتْ جدتُكِ لكِ؟

-ما الذي يحدثُ هنا؟ أريد أنْ أخرجَ، أريدُ أن أعود إلى مسقط.

-ليس قبل أن تقرئي الكتاب الذي تُرك لأجلكِ.

هدأتُ قليلا وقرّرتُ أن أصغي للجدّة. يبدو أنّها وصلت إلى عمرٍ يؤهّلها للهذيان. عليَّ أن أفرّ من هنا بأي طريقة.

-جدتكِ بثنة الثائبة من مئات مئات السنين، تركت هذا الكتاب لأجل حفيدة مختارة، وها قد ظهرتْ عليكِ العلامات.

وعادت الابتسامة تملأ وجهها:

-لا أخفيكِ لطالما تمنّيتُ أن أكون أنا الحفيدة المختارة، منذ أن أعطتني جدّتي الكتاب، كان لدي فضول القراءة، ولكن لم أكن إلا مُمرّرة للكتاب. حفيدات بثنة الثائبة، إما مُمرّرات للكتاب، جيلا بعد جيل، وإما قارئات، ولا تظهر إلا قارئة واحدة، كل مائة عام. تصوري أي شرف تنالين يا حلوتي! (ص37-38)

إذن يقتصر دور الجَدّة المتأخرة على ذلك، وسرعان ما يختفي أثرها لتحلَّ الجدّة الأولى (بثنة الثائبة) مكانها في السرد، فتعمل على تحريكه، والكشف عن الشخصيات ونفسياتهم، وتحديد الأُطر المرتبطة بالمكان (قرية مجاز) ودورها في احتواء الأحداث. إلا أنّ الرواية ستعمل على إعادة الجدّة المتأخرة في السرد بين الحين والآخر حين تعرض مشاهد الحفيدة في المستشفى أو تحت وطأة المرض، فيعمل حضورها هنا على انقطاع سرد حكايات الجدّة الأولى إلى وصف مشهد الحفيدة وهي طريحة الفراش يتخلّلُ ذلك حوارٌ داخلي بينها وبين جدّتها.

وإذا كان دورُ الجدّة المتأخرة مقتصراً على تمرير كتاب الجدّة الأولى إلى الحفيدة وتوجيهها إلى القراءة، فإنّ الدور الأكبر في الرواية يتمثل في حضور الجدّة الأولى (بثنة الثائبة)، فهي إحدى شخصيات السرد التي تُفتتح بها الأحداث وبها تُختتم، وهي الناقلة والمصوّرة لكل مضمرات المكان والشخصيات، إنها شخصية مؤرّخة لتاريخ القرية المجهولة.

تستنطق الرواية -من كتاب الجدّة- مضمرات القرية، ومضمرات الشخصيات لتصنع من خلالها حدثاً يتشكّل منه النص السردي، وتتمثل هذه المضمرات في الهيمنة والإقصاء ورفض الآخر والتمييز المتمثل في سيّد الحصن وألماس في مقابل أهل القرية البسطاء والمهمّشين الذين تحكمهم ظروف اقتصادية وسلطة مهيمنة في تسيير حياتهم، وتغيير واقعهم، فكلما حاول أفراد المجتمع التغيير أو الوصول إلى الحقيقة عاجلتهم السلطة بنفي أحدهم إلى جبل الغائب بحجة الخطيئة التي ارتكبها وأثّرت في مستقبل القرية، وهكذا يضمن سيد الحصن وألماس استمرار مستقبلهم بالهيمنة على جميع الأفراد.

فيما روته الجدّة الأولى تظهر الشخصيات متأزمة نفسياً، خائفة من المستقبل، ومرتبطة بواقعها الاقتصادي السيء، فتعيش حالة من الجهل المتوارث عبر أجيالهم وهو ما مرّرته السلطة في أفرادها قرونا طويلة.

وتظهر الأحداث/ الحكايات في الرواية في مشاهد عجائبية غير مألوفة واقعياً. إنّ هذه الحكايات المتناقلة عن القرية تُعيدنا إلى حكايات السرد القديم مثل حكايات ألف ليلة وليلة وما شابهها من نقلٍ للمتخيل السردي عبر أزمنة وأمكنة مختلفة. تردُ غرائبية الحكايات متمثّلة في الشخصيات وفعلها، والمكان ونوادره، والأحداث وسيرها، فيتحرك القارئ معها محاولاً الربط بين الحفيدة وحياتها وبين الجدّة الأولى وحكاياتها في المكان الذي امتدّ عبر السنين باسطاً يديه لتشكّل الأحداث فيه، تنقل الرواية في مشاهد من الغرابة: "انحنى نجيم تحت صفحة السماء الصافية بحضور الشقيقات السبع. سأل الثريا أن تنزل لتكون زوجة له، فنزلت الثريا كما ينزل شعاع من الضوء، وتمثّلتْ في صورة امرأة باهرة الجمال أذهلت أهل مجاز، إذ لم يروا في حياتهم كلها امرأة مصنوعة من الضوء، وجسدها يتّقد بحرارة غير مألوفة. سُئل نجيم عن حاجته، فقال إنه يود لو يصطحب معه صندوق كتب النجوم، فنُفّذ له طلبه. امتطى نجيم والثريا عربة جرّتها ثلاثة خيول يقودها ثلاثة من الرجال الأشداء بعد أن زوّجهما ألماس في صحن الحصن. وفي تلك اللحظة التي طوّقت الثريا خاصرة نجيم بيديها، وأمالتْ رأسها على تجويف عنقه، أمسك هو صندوق كتب النجوم، وتبدد حزنه وتعبه، وشعر أنه لا يرغب بشيء أكثر من هذا. كانت حوافر الخيل لا تصطدم بالأرض، بل ترتفع به لصفحة السماء التي شاهدها أول ما أبصر الدنيا عشية ميلاده". (ص91) وفي موضعٍ آخر تنقل قائلة: "يقال بأن الحُبّ بين الخبابة وألماس جمعهما منذ مئات السنين، منذ أن كانا في العدم، حب لا مثيل له، وأنّ قصة عشقهما تصلح لأن تُروى، وكان على وشك الزواج بها، لكنّ غيرة شديدة استحوذت على قلبي فأعمتني، غيرة ظلّت تأكلني كل ليلة ولكني لا أفصح عنها، ثم وقعت لي تلك الحادثة ورفست بنت الجنية، وبقيت لأيام طويلة أمشي في صحراء مجهولة بلا هُدى، لا ماء بحوزتي ولا طعام. ظننتُ أنني معاقبة من السماء بسبب كراهيتي لحظ صديقتي الأفضل من حظّي. وبينما كنتُ هناك، غائبة بعقلي عن الحياة، جاءت الجنية الأم ووقفت أمامي، كانت على هيئة زوبعة بعينين أشبه بفراغين كبيرين في صفحة السماء، وقالت لي بصوت يخرج من بئر مهجورة: «لقد شُفيَت ابنتي، وتعويضا عن شقائكِ الفائت سوف أهبكِ ما لا يملكه أحدٌ في الدنيا»، ونظرتْ إلى يديَّ ثم جذبتهما إليها برفق شديد، وقالت: «بهاتين اليدين يمكنكِ أن تُقلّبي القلوب كما تشائين، فأحسني استخدامهما»، وطارت الجنية وابنتها واختلطتا برياح الصحراء فلم أتبيّنهما، ثم أفقتُ لأجد نفسي بين إخوتي وحياتي الماضية". (ص165)

تُريد رواية (لا يُذكرون في مجاز) أنْ تقولَ ما يُسكتُ عنه، وأنْ تُظهر ما يُضمَر، حيث إنها تستندُ على استنطاق المضمر من الحكايات، فنجدها تُظهر السلطةَ في صورةٍ مستبدّة، وتُظهر الفقير الجاهل الذي تشغله حياته اليومية عن مواجهة الآخر فكرياً وثقافياً، وكلّ مَنْ حاول النهوض قارئاً أو مُفَكّراً فإنّ مصيره النفي. إنّ الجهل السائد المتمثّل في أهل القرية هو ما تنبشُ فيه الرواية، وهو ما تُريدُ أن تثيره في القارئ، وإنّ العلم هو السلاح لنهوض الإنسان في مواجهة الجهل والخرافة.

تظهر صورة الجدّة الأولى (بثنة الثائبة) في الرواية متقاطعة مع سير الأحداث؛ فهي التي أثارتْ أسئلة الحكي، وهي التي ساعدتْ على فعل المواجهة، وهي التي عملتْ على المشاركة في الفعل بقتل الساحر (حِبِين) مما ساعد على هدم الحصن وسقوط أسطورة سيده ومساعده، إنّها صورة قائمة على رفض الأسطورة والخرافة، ومواجهة الظلم.

تُقدّم لنا هدى حمد في روايتها أسلوباً مغايراً عن كتاباتها الأخرى سواء في المضمون الذي تُقدّمه بالغوص في عجائبية الحكي أو استعادة الحكايات القديمة وإعادة تطويرها، ثم تغليفها بمرجعيات الحكاية الشعبية في غير موضع، أو بتناصها مع قصص أخرى مثل قصّة انهدام الحصن والرمة التي تأكل عصا ألماس حتى "صاح الطفل متأتئا: انظروا.. الرمة.. الرمة تأكل عصاه!" المتقاطعة مع قصة منسأة سليمان عليه السلام في حادثة الجن الواردة في القرآن الكريم. إضافة إلى اعتماد الرواية على تعدّد الشخصيات والحكايات والتحولات الزمنية بينهما. إنّ الرواية -بما تُمثّله من ذلك كله- انتقالٌ هادئٌ وجيد في مسيرة الكتابة الروائية عند هدى حمد، فقد حاولت من خلالها استمرارية تناول القضايا الإنسانية في إطار تشويقي خالص وخيالي بديع.