رواد الأدب العماني.. أبو بكر الستالي
أبو بكر أحمد بن سعيد الخروصي، ولد في قرية (ستال) من وادي بني خروص وإليها ينسب إذ يشتهر بالستالي، وذلك سنة 584هـ. نشأ وترعرع وتعلم علوم الدين ومبادئ العربية، ولما برع وأخذ الحديث عنه يطرق مسامع الأمراء انتقل إلى نزوى، حيث محط رجال أهل العلم والأدب، لاسيما (سمد) في علايتها، حيث مقر أمرائها، وهي العاصمة التي فتحت أبوابها لطلاب العلم ورواد الأدب، وكان ذلك في عهد ذهل بن عمر بن معمر النبهاني حاكمها آنذاك، فوجد عنده كل ما يأمله من الجميل، فسكن على جميله واطمأن تحت رايته، وقضى ريعان شبابه بين أخيار الزعامة النبهانية، حتى أصبح شاعرهم بلا منازع، وأسهم في حفظ تاريخ هذه الدولة التي لم يهتم بها المؤرخون اهتمامهم بالدول العمانية الأخرى.
فأقام مع النباهنة ولم يغادرهم إلا ما نجده من قصائد في مدح بعض الملوك الذين كانوا في شرق إفريقيا، يذكر منهم في ديوانه (سبخت، وبختان، وإسحاق).
كلّ قصائد الستالي تدور حول محور المدح وتهدف إليه، حتى غدا بارزا في كلّ قصائده، وكان لقصائده تلك قيمة تاريخية عظيمة، إذ لولا شعره لما عرفت كثير من أسماء ملوك وأمراء النباهنة، نظرا لتجاهل المؤرخين العمانيين لهذه الحقبة من التاريخ العماني، فنجد في ديوان الستالي العديد من الملوك الذين مدحهم مثل: أبو عبد الله محمد بن عمر بن نبهان وأخوه، وأبو الحسن أحمد، وأخوه أبو محمد نبهان، وأبو عمر معمر، وأبو القاسم علي بن عمر بن محمد، وأبو الحسن ذهل بن عمر، وأبو العرب يعرب، وأبو إبراهيم بن أبن المعمر.
ولديوان الستالي قيمة أخرى فهو أول توثيق للشعر العماني، إذ لا يعرف ديوان شعر مكتمل لشاعر عماني قبل الستالي في بدايات القرن السادس الهجري، وما وجد قبل ذلك كان مقطوعات شعرية أو قصائد متناثرة، أو أعمالا شعرية لشعراء من أصل عماني كابن دريد مثلا وهؤلاء هم من الأعلام الذين تجاوزوا في تأثير عطائهم البعد العماني فكانوا ألصق بدائرة الثقافة العربية العامة.
أما أهم الأغراض التي تناولها الشاعر الستالي في شعره: المدح والغزل والحنين والرثاء، إلاَّ أن المدح كان أغلب شعره. والستالي شاعر رقيق العاطفة، منتفض الأحاسيس، صادق اللهجة في شعره الغزلي الذي ربما كان صورة واقعية عن حياته اللاهية المترفة.
يقول مادحا:
حُلِيُّ الملوكِ وتيجانُها
وبيتُ المعالي وإيوانُها
وبأس الكماةِ وإقدامُها
وحُلم الكُفاةِ وإحسانها
توارثها الأزدُ حتى انتهت
إلى أن حوى الإرثَ نَبهانُها
أميرُ العتيكِ تسامى به
كُهُولُ العتيكِ وشُبَّانها
أنبهان إنك من عصبةٍ
نماها إلى المجدِ قحطانُها
همُ العينُ في يعربٍ كلِّها
وأنتَ من العينِ إنسانُها
إذا طلبت مكرماتِ العُلى
بدا في جبينك عُنوانُها
وأنتَ إذا صَعُبَتْ حاجةٌ
أتى من يمينكَ إمكانُها
وقال يمدح السلطان معمر بن عمر بن نبهان:
هو الصب يبكي والمتيّم يأرقُ
وإن لم يُهيّجه الحمام المُطوّقُ
بكائي وتَساهدي وما قلت شاقي
نسيمُ الصَّبا والبارُ المتألقُ
فتقذى لها العينان حتى كراهما
يجانب أو دمعُ الأسى يترقرقُ
ولاغير ذكرى من أميمة يعتري
وطيف خيال من أميمة يَطرَقُ
وقال يمدح أبا القاسم علي بن معمر:
ماذا ألمَّ بلمَّتي فأشابها
وخضبتها فنضا البياض خضابها
سرت الهموم الطارقاتُ فغادرت
بين الجوانح والحشى أو صابها
وقال يمدح السلطان أبا المعالي كهلان بن محمد:
شاقتك يوم رحيل الحي أظعانُ
ما هيّج الشوق إلا أنهم بانوا
زالت حمولهُم والآل يرفعها
كما ارجحنَّت بعون التحل قِنوانُ
ويقول في وصف أيام الشباب:
لله أيامُ الشباب فإنها
ألقت عليَّ من الصِّبا أفراحها
ولَبسْتُ بهجتها وذقتُ نعيمَها
وشرِبتُ قهوتها وزرتُ مِلاحها
ورَتعت بينَ الغانياتِ مقَبِّلاً
وردَ الخدودِ مُعَضعِضا تفاحها
وإذا السهامُ من العيونِ جرَحنَني
داويتُ من ريق الثُّغور جراحَها
وعزيزةٍ ملء السِّوار كأنها
لبَسَتْ على الغصنِ الرطيب وِشاحها
سامرتُها ليلَ التمامِ تَبُثُّ لي
مَثْوى الهوى وِعتابها ومزاحها
ولزَمْتُها تحتَ الشّعار مُعانِقا
رَيّا الروادف والعِظام رَداحها
وقال يمدح شعره:
ومحكمة راح الستالي واغتدى
بمدحك في أبياتها يتفوق
فهذبها لفظا ومعنى وصيغة
وأحكمها فيه البديع المنمق
فجاءت تسر السامعين بمثل ما
شداه جرير أو شداه الفرزدق
ومما يصوّر احترام بني نبهان له، موقف صوره التاريخ، يصور إباء الشاعر وتعامل بني نبهان معه، فتذكر كتب التاريخ العمانية أن الشاعر أحمد بن سعيد الستالي، أهدى إليه السلطان أبو العرب يعرب بن عمر النبهاني، ألف دينار وثيابا فاخرة، ففصل الشاعر من تلك الثياب قميصا لابنته واسمها: حسناء، فلما كان يوم العيد مضت ابنة الشاعر إلى بيت الإمارة وذلك بنزوى، فسلمت على السلطان ثم جلست حذاء ابنته ريَّا، ولما خرجتا إلى المصلى لاستماع الخطبة، تعلق قميص إبنة الشاعر بشجرة صغيرة ذات شوك، فجذبته جذبا قويا حتى انشق أكثره، فالتفتت إليها ابنة السلطان وقالت لها لما رأت انشقاق ذيل قميصها:
- لو كان أبوك اشترى هذا القميص لما صنعت به هذا الصنيع.
فأخجلتها بذلك الكلام، ولم تحر ابنة الشاعر جوابا، فلما انقضت الصلاة والخطبة رجعتا، وشيعت ابنة السلطان إلى بيت الإمارة، ثم سارت إلى بيت أبيها وقعدت بين يديه مطرقة رأسها إلى الأرض،
فقال لها أبوها: ما وراءك يا بنية؟
فأخبرته بما قالته لها ابنة السلطان، فقال لها: ارجعي وقولي لها أن أباك كسانا حلة تبلى وكسوناه حللا لا تبلى فالفضل لنا عليكم.
فرجعت وقالت لها مثل ما قال لها أبوها، ثم خرجت مسرعة إلى بيت أبيها، ودخلت ابنة السلطان على أبيها مغضبة وأخبرته بما قالته لها ابنة الشاعر، فقال لها: لقد صدقت في كلامها يا بنية فإن الفضل لهم علينا، لقد كسانا أبوها حللا لا تبلى وكسوناه حللا تبلى، فليتك ما قلت لها ما قلت.
ونختم بأبيات غزلية رائقة له، يقول فيها:
قصرن الخطى وهززن الغصونا
ورقرقن تحت النقاب العيونا
وفلّجنَ كالأقحوان الثنايا
وكحّلن بالسحر منها الجفونا
ووشين بالتبر بيض التراقي
وغشين سود الفروع المتونا
وأقبلن يخطرن مشي الهوينا
ويبدين من كل حسن فنونا
فلما عرضن لنا سافرات
أعدن الهوى وبعثن الشجونا
وذكّرننا عهدنا بالمغاني
إذ الحي للربع كانوا قطينا
ومرعى الصبا ومحل الغواني
وكنَّ بهن زمانا غنينا
وطوع الهوى وإتباع الملاهي
وما كان ذلك إلا جنونا
نعمنا بتلك الملاهي زمانا
وعشنا بتلك البطالات حينا
فلما تغشى البياضُ الرؤوس
جَفونا الصبا وقطعنا القرينا
رأينا وقارا من الشيب ألقى
على حركات الشباب السكونا
