جرجس شكري: الشعراء أصبحوا مجموعة سرية تكتب وتسمع وتصفق لنفسها
الأجيال الجديدة تفتّح وعيها على الصورة فأصبح خيالها محدودًا -
منذ التقيت الشعر وأنا أخطط للهروب منه -
بحثت في الغابات والمزارع السويسرية عن جان جاك روسو -
في أمستردام هالني أن أرى لوحات فان جوخ بعيدًا عن الحقول -
اهتممنا بمتابعة خطوط الموضة الشعرية لكننا أهملنا الشعر نفسه -
خلوّ قصيدة النثر من المعايير التقليدية أغرى هواة الأدب بكتابتها -
قرأت ت. س. إليوت مع أحمد شوقي.. وامرأ القيس مع أدونيس -
يرى الشاعر المصري جرجس شكري أن كثيرًا من الهواة اتجهوا لكتابة قصيدة النثر ظنًا منهم أنها تفتقر إلى كثير من الأمور الجوهرية، وهو ما تسبب في شيوع قصيدة واحدة يكتبها الجميع. جرجس شكري أصدر ستة دواوين هي «بلا مقابل أسقط أسفل حذائي» عام 96، و«رجل طيب يكلم نفسه» 98، و«ضرورة الكلب في المسرحية» 2000، و«الأيدى عطلة رسمية» 2004 و«تفاحة لا تفهم شيئًا» 2012، و«أشياء ليس لها كلمات» 2017، استطاع من خلالها أن يمتلك صوتًا شعريًا متفردًا في الثقافة المصرية. وهو كذلك صاحب مؤلفات مهمة بعيدًا عن الشعر، مثل كتاب أدب الرحلات «كل المدن أحلام»، الذي ننطلق في هذا الحوار منه، لكننا نعرج كذلك إلى تجربته الشعرية التي تمتد عبر أكثر من ربع قرن.
نبدأ من كتابك الأحدث «كل المدن أحلام».. متى فكرت في الكتابة عن رحلاتك وتجميعها في كتاب؟
حين شعرت أنني أحلم ولا أسافر، حين تشابهتْ المدن، وفقدتْ الشعور بالزمن، حين كنتُ أهبط من الطائرة، أخطو على الأرض في هذه المدينة أو تلك، وأشعرُ أنني كنت هنا رغم أن قدمي لم تطأ هذه الأرض من قبل، حين ازدحمتْ الصور في مخيلتي وراحت المدن التي زرتُها تطاردني في النوم واليقظة بما عليها من بشر وبنايات وشوارع..
دون شك في بداية زيارتي إلى هذه المدن لم أفكر مطلقًا في الكتابة عنها أو الاتجاه لأدب الرحلات، لكن كنت أفكر فقط: كيف يعيش الناس فيها، وكيف أندمج معهم.
عشت في أوروبا عابراً، أحياناً بضعة أشهر وفي أحيان أخرى أسابيع أو أيام، وغالباً كانت الرحلة لا تستغرق سوى أسبوع أو بضعة أيام، وفي الزيارات الأولى لم أكن أكتب شيئاً، وإنما أعيش فقط بصحبة الصمت، أتأمل، أشاهد ما يمر أمامي كشريط سينما، أشعر أن المدن أحلامٌ أشاهدها في المنام!
أجلس في الشوارع ضيفاً على المقاهي والمطاعم والحانات الصغيرة والأرصفة، أحاول أن أقيم علاقات مع البنايات والطرقات والأنهار، فأنا أكره المتاحف والآثار، أزورها فقط من باب الفضول المعرفي، أحب الناس والشوارع كأنني في عرض مسرحي، وكأن المدينة بكاملها تحولت إلى مسرحية وأنا جمهورها العريض، أشاهدها بدقة وأعود في اليوم التالي إلى نفس المكان لمشاهدة العرض مرة أخرى.
أشاهد كيف يمشي أصحاب هذه المدن، في سويسرا يمشي الناس غالباً في خطوط مستقيمة وأيضاً السيارات، كنت أراقب الناس من شرفة الفندق ومن خلف زجاج المقهى بينما تهطل الأمطار، وفي ألمانيا الخطوط أكثر حدة، وغالبًا ما يحمل البعض حقائب صغيرة يمشون بصرامة وكأنهم في الحرب، أو في مهمة رسمية، وكأنني أدرس حركة الشخصيات على المسرح، ودائمًا ما كنت أقارن بين هذه المدن والقاهرة وأقول لنفسي: هذا الميدان يشبه ميداناً في مصر وهذا الشارع كأنه منسوخ من شارع في مدينة مصرية، وهذه الحارة وهذه البناية أيضاً مصريتان، بل وأعود إلى الوراء وأقول إن هذا كان في مصر منذ زمن. حين تزاحمت هذه الصور في رأسي بعد سنوات بدأت أفكر في الكتابة.
ما الذي كنت تعنيه بعصور الصمت في هذا الكتاب؟
كانت هذه الفكرة حاضرة في ذهني قبل السفر، كنت أفكر في العصور السابقة على ضجيج التكنولوجيا وما نعيشه الآن، وأفكر كيف تأثر الأدب بهذا التحول.. في عصور الصمت كانت المعالم تبدو للدنيا أكثر وضوحاً وتحديداً، كانت الحدود صارمة بين الفرح والحزن، بين الصمت والصوت، والظلمة والنور، والقرية والمدينة، كان التباين بين هذه الأشياء مثل التباين بين الصيف والشتاء، ويذكر تاريخ العصور الوسطى أن المشهد الواقعي كان يتميز بالعنف والقسوة والعلانية بدءاً من مشهد الوعاظ إلى تنفيذ أحكام الإعدام في الشوارع ومشاهد التعذيب العلني في عصر كان يميل إلى اختراع أسلوب لكل شيء فكانت حفلات الزواج ومراسم الموت ترتقي إلى مرتبة الطقوس والأسرار المقدسة فقوة المشهد الواقعي كانت عنيفة عنف الانطباع الذي كانت تتركه الكلمة المنطوقة، وهذا ليس مقتصراً على حضارة دون أخرى بل تشابه إلى حد كبير أوربياً وعربياً.
هذه الأفعال العنيفة والطقوس الصارمة تراجعت من أرض الواقع وانتقلت إلى «الميديا» التي أصبحت بدورها واقعاً آخر أو واقعاً زائفاً، فالمجتمع أصبح عبارة عن كائن يستعد لالتقاط صورة. أصبحت الصورة معيار الواقع ومحك الحكم عليه، وأنا أسأل نفسي: ماذا ستفعل الكتابة في هذا الضجيج، والعشوائية وكل المتناقضات المتجاورة التي يجمعها مكان واحد؟ وكيف تستطيع اللغة أن تلتقط هذا المشهد؟ وهل هي قادرة على خلق أساليب جديدة لمجاراة هذا المشهد في الواقع الذي استعاض عنه الناس بواقع آخر هو الميديا؟
كتابك هو أقرب إلى صور مرسومة بالكلمات عن مدن مختلفة زرتها.. هل الكلمة تستطيع فعلاً أن تصمد في وجه الصورة؟
تستطيع دون شك رغم سلطة الصورة، رغم الواقع الافتراضي الذي أصبحت له الكلمة العليا، رغم وسائل الميديا، نحن الآن نتحاور، والقوة الفاعلة في هذا الحوار الذي يعتمد على الكلمة كتاب ورقي هو «كل المدن أحلام» وكتب أخرى، الصورة ضرورة، واقع لا بد أن نتعايش معه حتى وإن كان افتراضياً، لكن سيظل سحر كلمة قوياً وفاعلاً. وسأقول لك: إن الأجيال جديدة بائسة لأن وعيها تفتح على الصورة فأصبح خيالها محدوداً، أو قل لا يعمل، وظني أن جيلي، جيل التسعينيات، هو الجيل الأخير الذي تفتح وعيه على سحر الكلمة في الكتاب وفي الارتباط بالراديو وفنونه فكان الخيال يعمل وبقوة.
كتبت عن سويسرا وألمانيا والنمسا وفرنسا وهولندا وإسبانيا والسويد وسلوفينيا.. ما الحكاية الإنسانية التي ربطتك بكل واحدة؟
كتبت صفحات من هذا الكتاب بعد العودة من كل رحلة في صورة رسائل أو نصوص أدبية، حول المدن التي عشت فيها، ونشرتها في بعض المجلات في ذلك الوقت، كما كتبت بعض النصوص من الذاكرة وأنا أعدّ هذا الكتاب، حيث تذكرت أياماً ورحلات عديدة لم أكتبها من قبل عن عمد، فلم أرغب أن أفرغ نفسي تماماً على الورق، احتفظت بشخصيات ولحظات ومواقف وأماكن عديدة كرصيد من الزاد الروحي، وأن تكون لي ذكريات لا يعرفها سواي.
في البداية فكرت أن أضع هذه الرحلات وفقاً لترتيبها الزمني، ثم رتبتُها وفقاً للمدن، فكل مدينة حالة خاصة، وقد شعرت وأنا أكتب وكأنني أسافر مرة أخرى، وهذا ما حدث، أتذكر الشوارع والبيوت والشخصيات وأسأل ماذا تبقى منها في ذاكرتي وما حفظته في الأوراق التى سجلتها وأنا هناك أو بعد عودتي.
وما الدولة أو المدينة التي تركت أثرها في روحك؟
هناك علاقة بيني وبين هذه المدن قبل أن أسافر إليها، ففي سنوات المراهقة كنت أبني المدن من الشعر والموسيقى والفلسفة والشخصيات التاريخية، أعرف شيئاً يسيراً عن الأشجار والشوارع والمتاحف والبحار والمحيطات، عن الموارد الاقتصادية، عن الزراعة والصناعة، ولكنها تظل مجرد صور، مجرد ظلال خافتة وبعيدة، أما البناء العميق لهذه المدن فقوامه الكلمات والموسيقى، الأفكار واللوحات الفنية، الشخصيات المسرحية وأبطال السينما والأحداث التاريخية، فحين أسافر إلى مدينة أبحث عن هؤلاء الذين شيدوا عمارتها الروحية وأتخيل أنني سألتقي بهم في الشوارع والمقاهي رغم رحيلهم منذ قرون. أقتفي أثرهم، أمر أمام بيوتهم إن لم أستطع زيارتها..
في زيارتي الأولى لسويسرا مثلاً بحثت بين الوجوه عن فريدريش دورينمات، كلما مررت بقرية بحثت بين الغابات والمزارع عن جان جاك روسو هائماً على وجهه بين جنيف ونيوشاتل وبيرن ولوزان في سنوات الصبا والتشرد يطلب طعاماً من الفلاحين ويبحث عن الإنسان الخيّر بفطرته، وبعد سنوات عرفت مقهى الأديون الذي كان يرتاده دورينمات مع ماكس فريش في زيورخ، كنت أذهب إلى هناك وأنظر إلى مقعد خالٍ يطل على الشارع والنادل يرتاب في سلوكي، وأسأله هل كان يجلس هنا وكأنني أنتظره!
وفي أمستردام بحثت عن باروخ سبينوزا متشرداً في الشوارع بعد حرمانه من الكنيس اليهودي واتهامه بالهرطقة فراح يعمل معلّماً للأطفال ويحترف صناعة صقل العدسات وتخيلت أنني سأجده يجلس في دكان صغير يصقل العدسات ويناقش الزبائن في طبيعة المادة ووحدة الوجود..
وفي أمستردام أيضاً هالني أن أرى لوحات فان جوخ في مبنىً من الطراز الحديث، وتخيلت أنني سأشاهد اللوحات وسط الفلاحين متناثرة في الحقول والمقاهي الليلية. وفي شوارع المدن الألمانية كنت أشاهد الفلاسفة والمفكرين يهرولون في الطرقات هرباً من ضجيج السيارات وأنا أعدو خلفهم، وفي برلين عشت يوماً كاملاً بين بيت ومسرح ومقبرة بريشت، ولم أترك فايمر إلا بعد أن تجولت في بيت جوته، أين يكتب، أين ينام؟ كل المدن أحلام كنت أعيشها أثناء القراءة ثم أصحو منها على الواقع الذي أحاول أن يكون قريباً من أحلامي. وقد تركت هذه المدن أثراً روحياً لا يمكن أن ينمحي من داخلي.
ابتداء من العنوان الرئيسي «كل المدن أحلام» والعناوين الفرعية وعلى سبيل المثال «سويسرا.. حدث في مدن الأعمار الطويلة» ومروراً بالحكايات المتعددة.. هناك طموح شعري لك في هذا الكتاب.. لماذا؟
في كل المدن التي زرتها أقمت علاقة وثيقة مع الشعر، صارت العلاقة حميمية بيني وبين ما أكتب من قصائد، حين أصبح للنصوص حيوات بين الناس، حيث القراءة المستمرة للنصوص مع الجمهور والمواقف والحكايات التي جعلت الروح تدب في هذه النصوص، في السترة والمطرقة والصحن والسكاكين والبيت والغرف، أصبحت أشاهد شخصيات نصوصي تعيش معي وتتجول في هذه المدن، «لعازر» الذي قام من الموت بعد أربعة أيام كان يعيش معي في مدينة روتردام، وكذلك اللغوي الذي أكل الناس جثته وغيرهما.. وكأنني أكتبها مرة أخرى. هذه النصوص التي أصبحت بلا جمهور في مصر، فقط يعرفها الشعراء ويكتب عنها النقاد صار لها حياة صاخبة في أوروبا، وكأن مُخرجاً قام بتجسيدها على خشبة مسرح فبُعثت ورحت أتأملها ليس فقط لأنها في لغة أخرى ترتدي ملابس جديدة، وإنما أتأملها كأنني أقدم عرضاً مسرحياً، كل قصيدة تصعد بشخصياتها، بعالمها من البشر والأشياء على خشبة المسرح فتدب الحياة في البشر والأشياء، شعرت أن السترة والمطرقة والصحن والسكاكين كائنات حية تسافر معي وتتجول في المدن، فالسفر مع الشعر ومن أجله ليس كأي سفر. أن تحمل هذه القصائد، تحمل الكلمات وتقطع هذه الأميال طائراً وراكباً وماشياً ليستمع هؤلاء الغرباء إلى مشاعرك التى كنت تخجل منها حين بدأت الكتابة، المشاعر التي كنت تخبئها وتحجبها عن الآخرين لهو أمر مدهش بل وأقرب إلى الغرائبية.
كنت قد افتقدت هذه العلاقة منذ أيام الجامعة والسنوات الأولى في القاهرة حين كنا نحمل مسودات النصوص ونقرؤها للأصدقاء في المقاهي والحانات وعلى قارعة الطريق. لا أعرف كيف تلاشى هذا فجأة، حتى الندوات أصبحت عقيمة بلا جمهور وأصبح الشعر قاصراً على من يكتبونه فقط. أما الجمهور فذهب إلى طريق بعيد عن الشعر، إلى الأغاني الهابطة ثم أغاني المهرجانات، وظل من يكتبون الشعر في مقاطعة خاصة ومستقلة بعيدة عن الجمهور، مقاطعة ربما تهتم بالمدارس الحديثة والاتجاهات العالمية بالتجديد والتحديث ومتابعة أحدث خطوط الموضة الشعرية، بعيداً عن الشعر، وفي النهاية كان الناتج نصوصاً متشابهة أقرب إلى خطوط الموضة العامة والعمومية التي يلهث خلفها الناس، مجموعة تكتب الشعر وتسمعه وتصفق وتشجع وتمنح الجوائز وتطبع الدواوين فيما بينها، عملية غالباً سرية، كمن يربي زهوراً من البلاستيك يرويها بالماء ويرعاها، تخصه وحده ولا يعرف الناس عنها شيئاً.
هناك تأمل وأفكار عن الناس والعمارة والشوارع ربطتها بأفكار كالتسامح وكذلك جعلتها مرآة لمثيلاتها في مصر.. وأنت تقرأ الكتاب هل ترى أنك عبَّرت عن كل ما تريده؟
لا يمكن أن أعبّر عن كل ما أريد، وأحياناً أشعر أنني لم أكتب شيئاً، وبالفعل هناك مواقف وأحداث عديدة لم أكتبها، في أحيان كثيرة عن عمد، فهناك لحظات تصلح فقط أن تعيشها وإن حبستها بين السطور اختنقت وماتت، هناك حكايات ربما تترك تأثيرها فيما بعد، ولا تنس أنني انتظرت أعواماً حتى أقدم هذا الكتاب.. دون شك هناك أفكار وأحداث وشخصيات ولكنها خرجت في صور أخرى بعيداً عن هذا العمل، وبعضها مازال قابعاً في ركن ما من الذاكرة لا أعرف متى سيخرج.
وهل تفكر في كتابة جزء آخر من الكتاب؟
ربما أضيف بعض الفصول، بعض النصوص في طبعات تالية، لكن لا أظن أنني سأفكر في جزء آخر، لأنني لم أكتب عن الرحلات بقدر ما كتبت عن علاقتي بهذه المدن، بعد ما يقرب من عشرين عاماً جمعت ما كتبته وتذكرت ما لم أكتب، وتقريباً سافرت مرة أخرى وأنا أعيد صياغة الكتاب، ولا أظن أن الحالة التي كانت أقرب إلى الشعر يمكن تكرارها مرة أخرى، ما أفكر فيه الآن كتاب عن الرحلات العربية.
أنت من مواليد أغسطس 1967 ما الذي يجمعك بمواليد هذه الحقبة من الشعراء والكتّاب؟
يجمعني بهم الشعر والنكسة ومطرقة 67 التي هوت على رأس المجتمع المصري، ففقد المجتمع توازنه، وما إن بدأ في التقاط أنفاسه مع نصر أكتوبر في 73 إلا وهبت عاصفة الانفتاح الاقتصادي فأصابت أضراره السواد الأعظم من شرائح المجتمع ولم ينجُ أحد حتى الشوارع والبيوت والملابس والطعام أصيبت بأمراض الانفتاح. كان عقد السبعينيات بداية تداعي القيم وانحراف قطار النهضة عن مساره، حقبة التحولات التي سوف تستمر سنوات، وفي تلك الحقبة سيكتسب المسرح سمعة سيئة، وتطفو على السطح أفلام المقاولات والأغاني الهابطة، وسوف تعيش الثقافة عزلة طويلة بين المثقفين بعيداً عن الشارع، وسيصبح الأدب للنخبة!
قاموس جديد عرفه المجتمع المصري الذي سيتخلى عن قيم ومعتقدات، أعراف وتقاليد وحتى القوانين الراسخة. فما حدث في السبعينيات من انفتاح اقتصادي لم يكن على مستوى البضائع والمنتجات، لم يكن في الملابس والأحذية، في أصناف السجائر والملابس المستوردة فقط، لقد أصاب الانفتاح بكل مساوئه العقل المصري فأصاب الأدب والفنون، أصاب المسرح والسينما، الشعر والرواية والنقد الأدبي، ولم يكن هذا تقدما وانفتاحاً على الغرب، لم يكن سوى نوع رديء من ثقافة الاستهلاك، وكان بداية العبث بالهوية المصرية بكل عناصرها فأصبح النجوم لا يولدون أمام الكاميرا في استديوهات شارع الهرم بل في كباريهاته، وأصبح الممثل ينال جواز المرور ليس على خشبة المسرح بل من الأغاني الهابطة والأفلام التجارية.
أصدرت ستة دواوين والملاحظ هو مرور فترة طويلة تصل إلى سنوات في بعض الأحيان بين كل ديوان وآخر، فهل يخاصمك الشعر أحياناً أم أنك تتأنى في النشر؟
منذ أن التقيت بالشعر وأنا أخطط كيف أهرب منه، كمن ذهب في طريق مجهول ويحاول أن يحتاط للعودة، ودائماً ما أفشل في الهروب، أو دائماً ما يكون الهروب مؤقتاً. وأنا بصدق لا أعرف كيف يستطيع الشعراء البقاء مع الشعر طيلة حياتهم، كيف يحتملون دون استراحة، عندي وسائل وأساليب عديدة للهروب، وكلها فاشلة لكنني متمسك بها، فمنذ أن عرفت الشعر في طفولتي وأنا أمارس الكر والفر معه، عكس ما يشيعه البعض من أن الشعر يهرب منهم فأنا أشكو حضوره الدائم الذي لا أحتمله، نعم منذ الطفولة وأنا أهرب، كنت أهرب إلى الحب، أفكر في عشيقات كثيرات دفعة واحدة، أصعد إلى السماء وألتقي ملائكة وقديسين، تعمل مخيلتي وتسافر إلى بلاد بعيدة وأعيش حيوات أخرى. الشعر ليس فقط أن تكتب القصائد بل أن تعيش الشعر نفسه، وأنا أعيش الشعر في وجوه الناس، وفي أحيان كثيرة أكتفي بمعايشته دون أن أكتبه، ودون أن أحاول حبسه بين السطور.
تنتمي إلى جيل التسعينيات الذي نادى بقصيدة التفاصيل اليومية.. لكن تلك الصيحة أنتجت ما يشبه قصيدة واحدة مكررة عند معظم الشعراء.. ما رأيك؟ وماذا تبقى من ذلك الجيل؟
لا يتبقى إلا الشعر، الشعر في كل صوره: العمودي، التفعيلة والنثر، وعلينا أن نعترف رغم ما حققته قصيدة النثر من إنجازات وإضافات كبرى للشعر العربي وخاصة على مستوى اللغة، إلا أن خلو قصيدة النثر من المعايير التقليدية أغرى عدداً كبيراً من هواة الأدب بكتابتها وهم لا يعلمون أنها أصعب من الشعر العمودي وشعر التفعيلة، وهؤلاء أساؤوا لقصيدة النثر وللشعر بشكل عام، وتلك هي المشكلة الرئيسية. وكما يقول الحطيئة: «فالشعر صعب وطويل سلمه - إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه زلت به إلى الحضيض قدمه» وهذا الزلل يحدث كثيراً في قصيدة النثر، بل أصبح من سماتها الأساسية للأسف.
من هم أساتذتك في الشعر مصرياً وعربياً وعالمياً؟ وما الحكايات التي تربطك ببعض الكبار ممن تعاملت معهم؟
لا أعرف بالتحديد، قرأت كثيراً وتفاعلت مع العديد من الشعراء، بعضهم لا يزال أثره باقياً في الروح وبعضهم نسيته، قرأت المتنبي مع شكسبير، وقرأت ت. س. إليوت مع أحمد شوقي، وامرأ القيس والنابغة الذبياني مع إزرا باوند، قرأت أدونيس وبشار بن برد، قرأت صلاح عبد الصبور مع البياتي وسعدي يوسف، قرأت القديم والحديث، الأجنبي والعربي، ورغم أنني أكتب الفصحى وأنحاز إليها إلا أن وجداني مزدحم بشعراء الأغنية المصرية والعربية. أحب حسين السيد ومرسي جميل عزيز وبيرم التونسي ومأمون الشناوي والشيخ عبد الفتاح مصطفى وغيرهم، ولا أنكر فضل تجربة الرحبانية التي كان لها أثر كبير في رؤيتي للشعر، فهي تجربة استثنائية ليس فقط في الموسيقى والغناء بل وفي الشعر أيضاً. ولا أظن أن التأثير يأتي فقط من خلال القراءة، بل أيضاً من خلال المعايشة مع قراءة الشعر والمناقشات المستمرة سنوات طويلة كما حدث لي مع سعدى يوسف وبول شاؤول وسيف الرحبي وعبد المنعم رمضان.
تعددت ترجماتك إلى كثير من اللغات الألمانية الهولندية والإنجليزية والفرنسية والسلوفينية.. هل الترجمة تفقد الشعر روحه؟ وكيف تم تلقيك في الخارج؟
في كل مدينة كنت أكتشف قصيدة تتجسد، تُبعث من بين السطور تتحول إلى كائن حي وتلعب دور البطولة في الرحلة وتكون لي رفيقاً من لحم ودم، قصيدة يحبها الناس، يتفاعلون معها وتصبح موضعًا للحديث بينى وبينهم، قصيدة ترتدي ملابس أخرى في لغة جديدة.
بدأت بقصيدة «سترة» في الغابة السوداء بألمانيا حين جاءت فتاة عمرها لا يتجاوز اثني عشر عاماً لتقدم لي بعد انتهاء القراءة كتاباً لي (مختارات من دواويني الثلاثة الأولى) بعنوان «ما تبقى منا لا يهم أحداً» وهي تفتحه على قصيدة أحبتها وتشير لي بأن أوقّع هنا، وفي اليوم التالي أهدتني لوحة رسمتْها لسترة تمشي وحيدة في الشارع، سترة لها ساقان ويدان، بدون رأس تمشي في شوارع المدينة، وظلت الفتاة واسمها آن تيرزا أخنيو أوليفير تقرأ ما يُترجم لي من شعر وهي تحتفظ بسترتي التي تمشى وحيدة ولا تكلّم أحداً.
وفي مدينة بيرن السويسرية اقترب مني رجل ضخم الجثة، وشخص آخر ذو ملامح حادة كأن نحاتاً قدها من حجر صلب، عرفت من أصدقائي أنهما من الضواحي يمتلكان الأراضي والحيوانات وقال الأول لي: أنت كتبت عن معطفي الذي يعيش معي منذ زمن بعيد، وابتسم الثاني فبرزت عظام وجهه وسألني: هل لديك مطرقة في مصر كهذه التي في القصيدة؟ وضحك قائلاً: أعرف من تقصد. وهمس عجوز في أذني بعد أن انتهيت من القراءة في برلين وقال لي وهو يمسك بكتابي: أنا أيضا أتكلم مع الغرف في بيتي.
كُتب عنك نقدياً بشكل جيد.. فما أحب الكتابات النقدية إليك؟ ولماذا؟
كتابات كثيرة منها ما كتبه شعراء أحبهم مثل عبده وازن ومحمد علي شمس الدين وعبدالمنعم رمضان ومحمود قرني وفتحي عبدالله، ونقاد أعتز بهم مثل د. سيزا قاسم، د. صلاح فضل، د. شاكر عبد الحميد، د. نجوى عانوس، وآخرين. أما لماذا أحببت هذه الكتابات فلأنني رأيت فيها ما لا أعرفه عن نفسي، ما زلت أقرأ بعضها حتى الآن ومنها ما كتبه بول شاؤؤل تحت عنوان «صرخة الصمت» حول ديوان «أشياء ليس لها كلمات» فأرى في كل مرة ما لا أعرفه عن نفسي.
وصفك الكاتب الصحفي وائل لطفي بالكاتب الإصلاحي.. فما رأيك في هذا التعبير؟
دون شك أسعدني هذا التوصيف كثيراً، وخاصة أنني أنحاز بقوة إلى الجيل الذي حمل لواء النهضة وقاد قطار التقدم من أوروبا إلى مصر في القرن التاسع عشر بدءاً برفاعة الطهطاوي، مروراً بالعديد من الكتَّاب والمفكرين، مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وسلامة موسى وعباس العقاد، وغيرهم.
