جرة قلم : فونولوجيا الرحلة في «ترانيم الديم» لمحمد الراشدي
محمود الرحبي
عن دار نثر بمسقط صدر هذا العام 2022 كتاب يندرج في سياق المذكرات، حمل عنوان «ترانيمُ الدِّيم» وهو الإصدار الأول لمحمد الراشدي، نتاج رحلة دراسية إلى مدينة بيرمنجهام البريطانية. وقد كان هذا الاسم يتردد كثيرا في ما قرأت من كتب النقد، حيث انطلقت من جامعتها العريقة الدراسات الثقافية، بفرعيها النقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية، ولكن بسبب هذا الكتاب التجوالي الدقيق الذي تحيط به الطبيعة وتؤثثه شعرت وكأني داخل المكان، أتجول بين الحقول والشوارع، ولا ينقص بعد ذلك سوى مشاهدتها عيانا. في الحقيقة سبق أن قرأت هذا الكتاب حين كان مخطوطا وأعجبت به، ثم قرأته لاحقا ما إن طُبع بورق صقيل أجادت دار نثر العمانية اختياره.
البداية / السبب:
انطلقت الرحلة بعد حصول الكاتب على بعثة دراسية إلى جامعة نوتنجهام، وكانت أسرته الصغيرة برفقته. ولكن شاءت الأقدار أن يكون مقر السكن في مدينة برمنجهام حيث مكان عمل زوجته، التي هي الأخرى حصلت على فرصة للعمل في مستشفى الملكة إليزابيث ضمن برنامج الزمالة الطبية. وعلى الرغم من المسافة الشاسعة بين المدينتين إلا أنه وفّر للكاتب الكثير من المشاهدات (الطبيعية) الجديرة بالملاحظة والتدوين. وبالإضافة إلى التنقل اليومي؛ كان الكاتب مع أسرته يسافرون في أوقات الإجازات إلى مدن أخرى، وتكون الكتابة حاضرةً في جميع تلك الظروف.
فونولوجيا الرحلة:
تبدو الرحلة وهي تنتقل بين المعالم القديمة والحديثة، صامتة تأملية لشاب يتلمس فارق الهواء والطبيعة بجميع حواسه، لذلك تتوزع الرحلة على ثلاثة أصوات خفية أساسية تصل بين مكونات الكتاب، وهي الثمار المعلقة والمتساقطة، والقنوات المائية المنتشرة بكثرة، وفصول السنة المتقلبة ببطء، وبين هذا وذاك، وتحت هذه العناوين الثلاثة تقوم أحداث ومواقف ومشاهدات، والمقاطع التالية التي استللتها من الرحلة، طبيعية وصامتة، ولكنها توضح هذا المقصد، ما يدلل على ثراء المكان طبيعيا وجاذبيته الخضراء، الأمر الذي جعل من إقامة كاملة تتأثث انطلاقا من هذا المناخ وتقلبات فصوله:
الثمار:
1- وأول ما شد انتباهي هي الثمار والأوراق المتساقطة على الأرض وكان حينها فصل الخريف.
2- وعندما كنت أمشي إذا بي أشاهد على الأرض كمية من ثمار فاكهة التفاح وظننت بأن أحدهم ألقى بها متفرقة تحت جذع إحدى الأشجار، ولكن عندما رفعت بصري للأعلى وجدت أن الشجرة هي نفسها شجرة التفاح وتلك ثمارها.
3- وأما شجرة السنديان وتسمى البلوط كذلك لها مكان خاص في المتنزه القريب من البيت وهي شجرة عظيمة ويبدو أنها معمرة.
4- شجرة الكرز كذلك لم أنتبه لها إلا بعد أن أثمرت.
5- وأما التوت البري فكنت أظنه من الأشجار الضارة لما يحتويه من الأشواك، ولكن بعد أن اكتشفنا أهميته قمنا بقطافه.
6- أشجار الكستناء متوفرة بكثرة، إذ تتوزع على ضفاف الشوارع الداخلية لجامعة نوتنجهام وكذلك بعض الشوارع الخارجية في مدينة برمنجهام. ويبدو أن طلبة الجامعة يستهويهم قطف ثمارها، إذ الآثار تبدو واضحة عند مسيري إلى الجامعة.
7- وأما أشجار الصنوبر فتوجد بفئات مختلفة.
8- وجميع هذه الأشجار تسقى بماء المطر إذ لم أر أحدا يسقيها.
القنوات المائية:
1- يقول بعض الناس بأن برمنجهام توازي مدينة البندقية في القنوات المائية.
2- ما يزيد كثرة الماء في تلك القنوات هو الأمطار المستمرة، إذ يكون تصريفها نحو تلك القنوات.
3- هطلت أمطار غزيرة على مدينة برمنجهام، والمناطق المجاورة، فيما لم أر مثلها من قبل. فقد أظلم الجو كأنه بدايات الليل. وصاحب هطول المطر البروق والرعود المتتالية بعضها إثر بعض. ولأول مرة يكون الرعد والبرق بهذه الشدّة. ولم يكن فيما سبق أن صاحب الأمطار رعود، أو بروق، على الرغم من عدم ندرة الأمطار. ولكن هذه المرة، كان المطر شديد الغزارة. إذ صَعُبَ على التصريف أن يتحمل كميات الماء الهائلة، المتدفقة من الشوارع إلَّا بعد ما يقارب الساعة، ويعتبر وقتًا طويلًا مقارنة بجودة التصريف، كل ذلك بدأ من وقت الصباح إلى عند الظهيرة. بعد ذلك توقف المطر، وسالت المياه لمجاريها، وتفرق السحاب، وظهرت الشمس، وكأنَّ شيئا لم يكن. فسبحان الله على خلقه، وسبحان الله على تصريف أمره وعجائب قدرته.
الفصول الأربعة:
1-من الأمور المهمة جدا هو الوضوح التام لكل فصل من فصول السنة وهي ميزة شدت انتباهي ورأيت بأنها جديرة بالتدوين، ففصل الخريف له مميزاته الخاصة (وهنا يذكر الكاتب الخريف بداية؛ لأنه الفصل الأول الذي رآه في رحلته) وبعد أن تساقطت الأوراق والثمار ولم يبق سوى الأغصان كان ذلك بداية الشتاء. ولم يكن الشتاء في الأشجار وحسب وإنما تغير الطقس وازدادت البرودة وقصر وقت النهار إلى أن تساقط الثلج.
2- وبعد أن انتهى فصل الشتاء بدأت الأشجار تورق والزهور تتفتح والحرارة ترتفع والنهار يطول وكان ذلك هو الربيع وبعد أن اكتملت الأوراق والأزهار واستقر الطقس، كان وقت الصيف وصاحبه ارتفاع الحرارة وطول وقت النهار وثمار الأشجار.
3- تستيقظ عصافير الربيع بأغاريدها الشجيّة، وألحانها العذبة. وهي تتنقل بين أغصان الأشجار، المصطفة على ضفاف القناة المائية، بين (سترتشلي فيليج) و(بورنفيل) على شارع (أكسفورد) المؤدي إلى محطة القطار.
4- ربيع برمنجهام مختلف تماما عن ربيع البحتري، فهو خال تماما من المقارنة. ولم يكن بينه وبين من حوله ذلك التوافق الذي ذكره في قصيدته. فقد أتانا الربيع طلقا ضاحكا من الحسن والبشاشة، على عكس الوجوه التي نرى خلوّها من البشاشة غالبًا، على الرغم من حسن بعضها.
5-ها أنا أعود من جديد لأكتب مشهدا آخر من المشاهد الطبيعية غير المألوفة، فقد سمعت سابقا عن تقلب الطقس. حتى أن بعضهم يصف هذا التقلب باحتمالية حلول الفصول الأربعة في يوم واحد، وبالفعل فإنني شعرت بذلك. فكثيرا ما يمسي الليل بعكس ما أشرق عليه الصباح. وكثيرٌ ما بزغت الشمس في سماء؛ لا يُتَوقَّع أن يخفيها إلَّا الأفق الغربي. بينما في أقل من ربع نهار إلَّا وتتلبد السماء بالغيوم، وتحتجب الشمس لعدة أيام. وكم من سماء صافية ما لبثت إلا وأظلمت، واسودَّ سحابها. وما جعلني أكتب في هذا الأمر هو التعجب من سرعة تقلب الطقس.
تركيب:
رغم أن «ترانيم الديم» مذكرات شخصية مكتوبة بصيغة لا تنزع إلى التعبير الشعري والقصصي إلا لماما، إلا أن القارئ سيجد فيها – انطلاقا من هذا الوضوح الطوبوغرافي – الكثير مما يحتاجه في السفر إلى بلاد الساكسون كما يسميها بورخيس باعتبار الأصول الجرمانية الأولى، حيث اشتق – انطلاقا من ذلك- مصطلح « الأنجلو سكسوني» المتداول.
الكتاب جولة استطلاعية بعين مقيم وفد إليها من الشرق العربي، من أقصى جنوب أرض العرب ليرتمي في أحضان حضارة زاخرة بما يغري للكتابة والتوثيق لمشاهدات وسلوكيات ومواقف ارتبطت بالكاتب مباشرة لمسها بناظريه ووجدانه. إلى جانب وصف ما تتميز به الحضارة الغربية وسلوك المشارقة والعرب فيها ودورهم في تنويع الثقافة هناك، مع سيادة قوانين وحقوق إنسانية جامعة وحامية لمختلف الثقافات والأفكار.
يعود الكاتب كذلك إلى مرجعيات وأخبار ومعلومات سابقة لما رأى، من أجل تثبيت وإغناء مشاهداته؛ ما ينم على جهد توثيقي رافق كل جولة من جولات إقامته. كذلك نجد اجتهاد الكاتب في وصف الطبيعة بتحولاتها وفصولها، تقلباتها وسكونها، مع تعريفات توضيحية للأماكن والمرافق قديمها وحديثها.
كما أن للمتاحف التي عرفت بها بريطانيا نصيبا من الوصف والكشف، ما يصحب ذلك من نزوع تفاعلي لا يكتفي بالنظرة المحايدة الصامتة، إنما يتدخل لإبداء الرأي والإعراب عن المشاعر قدر الإمكان، وفقا لوجهة نظر (مدهوشة) لطالب شرقي كان «يرى ما يريد» حسب الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
المؤرخ العماني سعيد المغيري حين رأى لندن أول مرة قال « لا يمكن أن تكون مدينة واحدة» على اعتبار متاهاتها في السطح والأنفاق؛ الراشدي كذلك في كتابه هذا اجتهد إلى أن يعرفنا على ما ظهر وخفي من تفاصيل إقامته الدراسية في الأراضي البريطانية التليدة.
