No Image
ثقافة

"جبرين".. سيرة الحب والمكان

29 يناير 2024
29 يناير 2024

"فضّلتني دون جميع الحرّاس بالسؤال عن هذا المكان الذي تحوّل من قصر للدفء، احتضن بداخله الحب إلى ثكنة للعسكر وأوامر السلطة... لماذا تطلبين مني أنا دون سائر الرجال، أتحدث عن القصر وليس الحصن، عن البيت وليس السور والسجن؟(1)".

إنّ النص الذي يتأسس عبر استنطاق الأمكنة والحجر، يفتح العلاقة بين الموجودات على مصراعيها، ويضفي على الكون لمسة جمالية، تتجاوز المألوف، ويؤسس لألفة مع الحجر، ويُعطي للعلاقة البينية بين الفنون طابعا من نوع آخر، وتواصلا يتجاوز الكلمة إلى إيقاع المكان ذاته.

حين يتحدث الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار 1884-1962" عن المكان، يتجاوز بنيته الجامدة إلى روح تأتلف معه الأرواح، قائلا: "كيف تبدو بيوت الماضي في هندسة الحلم.. أمثال هذه البيوت هي التي سوف تتيح لنا استعادة ألفة الماضي من خلال أحلام يقظتنا. علينا أن ندرس بمزيد من العناية الكيفية التي تستعيد بها مادة الألفة الدافئة شكلها من خلال البيت.

يقول جان فاهل(2):

والبيت العتيق

أحس بدفئه الخمري اللون

يتسرب من الحواس إلى العقل (3)".

هكذا يتنفس الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" المكان بوصفه كائنا حيا، ينبعث منه الدفء، فيسكن فيه الإنسان. هل أن باشلار وحده من نظر للمكان هكذا أم أن السيابي في روايته "جبرين وشاء الهوى" أنطق المكان وأضاف إليه دفئا غرائبيا؟

ترتكز بنية الرواية السيابية على تيمة "المكان" بشكل رئيس من خلال روايته "جبرين وشاء الهوى" الصادرة عن مؤسسة بيت الغشام عام 2016، ذلك الارتكاز يُجبر المتلقي -عبر رحلة القراءة- على طرح سؤالين مهمين: كيف طوّع السيابي الحصن الحجري، وجعله مكانا للحلم، وملتقى للحب؟ وهل يمكن للمكان أن يكون معادلا موضوعاتيا للإنسان؟

يؤثث السيابي مفهوم "الوطن" عبر ثنائيات تُكمّل إحداها الأخرى تارة، وتتضاد تارة أخرى، الأولى: البيت، والأخرى: الحصن الذي يرمز للوطن بكل معانيه. فكيف تغلّب الثاني على الأول عبر سلسلة تحولات فكرية وعاطفية، جعلت من بطلي الرواية (الحارس والفتاة) ليسا مجرد حبيبين تجمعهما قصة حب، بل شكّلا نموذجين ذابا في تاريخ البلد عبر رموز مثّلت علامات فارقة على وطن كبير (الإمام بلعرب، وأخته "المرأة القوية").

ويمثل استحضار التاريخ وإعادة، واستنطاقه بلغة الحاضر، مدخلا مهما لفهم التاريخ من جهة، ولمراجعة الحاضر عبر قراءة تنبؤية من جهة أخرى.

للحصون قصة لا تنتهي مع السيابي، فهو يربط المكان بالإنسان عبر سلسلة تفاعلات إنسانية، تحكمها مشاعر تجاوزت كتلة الصخر إلى معنى سامٍ وعلاقة حب. إن الأمكنة التي جعلها السيابي أوعية لحوادثه، هي: (البيت، والحصن) وأثث كل منهما بمشاعر متناقضة، عاشها البطلان (الحارس والفتاة). فكلاهما عانا كثيرا في ظل قيمومة جردتهما من بناء الشخصية، فأصبح الفضاء باتساعه ضيقا عليهما؛ ولذا كان الكاتب ذكيا باختيار الحصن، مكانا لميلاد حبهما؛ لأنهما تعوّدا الأماكن المغلقة، ولكن الفرق كبير بين جدران البيت وأسوار الحصن.

يضفي الحصن طابعا رمزيا للوطن الكبير الذي يحتضن أبناءه، فإن ضاقت بيوت الآباء؛ فحضن الوطن في سعة من الحب والجمال. فرمزية الحصن، جعلت منه مكانا يتجاوز حدود عُمان إلى زنجبار؛ بوصفه المكان الذي احتضن البلدين في زمن ما، وتلك حقيقة شعرت بها "الفتاة" عندما زارت الحصن لأول مرة والتقت بحارس قلبها.

تبقى النهايات مفتوحة، يخفيها النص، ويتأملها القارئ عبر أسئلة لذيذة: "هل سنبدأ نحن الأربعينيين اللذين تعارفا في قصر الحب "جبرين؟(4)". فهل اجتمع الحبيبان؟ وهل لحق بها في المطار؟ وأسئلة أخرى تتجاوز تلك اللحظة؛ لنتأمل معها ذواتنا عبر رؤية الآخر في فضاءات أرحب.

هوامش:

(1) السيابي، جبرين، ص 7.

(2) شاعر فرنسي 1888-1974.

(3) غاستون باشلار، جماليات المكان، ص 68-69.

(4) جبرين، ص 158.

* بسام الخفاجي كاتب عراقي باحث في الأدب العربي