No Image
ثقافة

المغربي عمر العسري: الشعر يمشي معنا في الشوارع والأزقة

05 يوليو 2023
يراهن على قصيدة تستفز القارئ البسيط:
05 يوليو 2023

يُعدُّ الشاعر عمر العسري واحدا من أبرز الأصوات الشعرية في المغرب، رغم أنه لم يُصدِر سوى أربعة دواوين منذ عام 2009 وحتى عام 2021 هي «عندما يتخطاك الضوء»، و«يد لا ترسم الضباب»، و«من أي جهة يأتي الصياد» و«المقر الجديد لبائع الطيور». حظيت تلك الدواوين بكثير من الدراسات التي ركزت على ميل العسري إلى التجريب مما منح قصيدته حسا ومذاقا خاصين جعلاها لا تشبه قصيدة أحد آخر، حتى من المجايلين له في المغرب والعالم العربي.

العسري هو ناقد أيضا له كثير من الدراسات والأبحاث المنشورة، فهل يؤثر اشتغاله بالنقد على رؤيته للشعر؟ ولماذا بدأ بكتابة الشعر باللغة الفرنسية وعدل عن ذلك فيما بعد، وما طموحه للشعر، كل هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها العسري في ذلك الحوار.

-أبدأ معك من حجم ما أصدرته حتى الآن من دواوين، وهو أربعة، هل قلة النشر تعكس مقولة «الشعر عزيز»؟

•أعتقد أن لكل شاعر مشغله الكتابي، والنشر مرهون بقناعة ذاتية، أو عندما يشعر الشاعر أنه استوفى مشروعا واكتمل، وحان الوقت لنشره وتداوله. ومن الصعب جدا إقران النشر بزمن مضبوط، فكل كتاب شعري يتطلب رؤية ووعيا وتقنية، وهي مبادئ ومرتكزات تستأصل من حياة الشاعر وقتا طويلا أحيانا. لذلك يصعب الالتزام بالنشر كل سنة أوسنتين. الشاعر من خلال عمله في الشعر ينتج مفهوما، ويغير مفاهيم الشعر، وهي عملية لا تتأتى إلا بشروط معينة، قد يصعب الظفر بروح الشعر في كل مرحلة، أو من خلال التزام زماني ومكاني، لأن الشعر ليس جوابا مقنعا أو حجاجيا عن سؤال الوجود، لذلك يظل الجهد في الشعر يتركز على الكيفية التي تجعل التعبير بالكلمات شعرا.

- على مدار مشوارك مع القصيدة هل تبدلت رؤيتك للشعر من فترة إلى أخرى ولماذا؟

•أكيد، كلما غيرت زاوية النظر تغيرت رؤيتي إلى الشعر، لأنه لا يجب أن يصدر عن شاعر بسيط، وإنما عن شاعر مفكر، يسعى بمنجزه إلى ترجمة فكره الشعري، ويصل به إلى مراتب من التحقق والسمو. فلم يكن الشعراء على مر الزمان يؤدون شعرهم من دون خلفية تؤطرهم، أو معرفة يلتفتون إليها كلما اقتضت شروط الكتابة ذلك.

كما ليس هناك أشكال وتقنيات ثابتة في الشعر، فكل شيء ممكن في الشعر، لكن كيفية تناول الموضوعات واستخدام الأشكال والتقنيات في النص هي وحدها ما يقرر شعرية النص بهذه الموضوعات والأشكال أو عدمها. وعليه، تحتمل الكتابة كل شيء، أن تمزح بأي شيء، وأن توضع داخل كل شيء.

- قصيدتك لا تقوم على المجاز، لا تتخلص منه تماما، ولكنه يبدو كضيف خفيف الحضور، وسط شعرية تقوم على التفاصيل الخاصة. ما فلسفتك في التعامل مع المجاز؟

•هذه المسألة، في اعتقادي راجعة إلى كون الشعر يجب أن يبتعد عن الرؤية الطاووسية التي لا تستجيب للراهن. أنا أراهن على قصيدة خفيضة قريبة من الناس، تستفز القارئ البسيط، وتدعوه إلى الانتقال من الصورة إلى المعنى، وهو التحول الأقصى، والمدخل اللافت الذي أحاول أن أرسيه من زاوية الإنتاج والصيرورة، فليست الكتابة مجرد لفظ فحسب، وإنما يجب أن تكون مسبوقة بتصور يتيح إمكانية التجديد.

القصيدة الخفيضة لا تمنحك المعنى المجرد، ولكنها تقبض على الوجود في نبعه، ولعل هذا التصور باعتباره نوعا من التلقي الجديد، قد يحرك القوى الداخلة في أشكال المطابقة بين الخطاب ومرجعه، وهو الأمر الذي ينقلنا من تأمل الصورة إلى حداثة التلقي وتبين مسار المعنى الشعري وأثره على المتلقي.

-قصائد «المقر الجديد لبائع الطيور» كانت نوعا من الاحتفاء بمدينة الدار البيضاء.. كيف يمكن التعامل مع المدن شعريا؟

•تمنحني المدينة الشعر وتستجيب لآليات هندسة خيال تأسيسا عليها، فهي ليست، في الشعر، سوى مدينة مستقبلية لم تتحقق بعد، لأن واقع المدن الكبرى أبلغ من الكتابة. إن استدعاء المدينة في الشعر قد يتعدى كل الحقائق والتوقعات والاحتمالات. وكل محاولة تبيان الواقعيِّ والمُتخيَّل في المدن مرهون بالمستقبل، لأنَّ أغلب التفكير الحالي المُنصب على المدن شعريا هو تفكير مستقبلي، يستند إلى تنبؤات تخييلية وتنويعات مجازية.

لعل الهدف من استدعاء المدينة في «المقر الجديد لبائع الطيور» هو تأصيلُ وجود مدينة متخيلة في شكلها ومعمارها ووقائعها، وهذا تنويع في الأداء والتفكير والممارسة. فالمدن الكبرى تؤثر في المخيلة، والكيفية التي نفكر بها، وهذا يعني أن الاتصال الواقعي بالمدينة يمتد في تلك المتجسدات التخييلية عن المكان، وهو ما يترتب عنه نشوء علاقة تقدير متبادلة.

«المقر الجديد لبائع الطيور» سبر تحليلي معمّق لحوار الشعر مع المدينة، وهو ليس حوارا جديدا، فهناك كبار الشعراء الذين عمقوا رؤيتهم من خلال استدعاء المدينة، أمثال: عزرا باوند، وسان جون بيرس، والبياتي، وأدونيس، وأحمد المجاطي، وخليل حاوي، وغيرهم. وقد ترجموا مفاهيم الفردانية الليبرالية والاستقلالية الذاتية والحرية، وطوّعوها في نصوصهم الشعرية.

- إذا كان لكل شاعر مدينته فهل مدينتك هي الدار البيضاء ولماذا؟

•لا أريد أن أعيش في مدينة الدار البيضاء مثل ظل عابر، بل أريد العيش فيها بصدق مشمول بدفء حقيقي، وهذا الدفء يتحقق بالشعر الذي يمدنا بحاسة لمس المجهول في المعلوم، وتبصر اللامرئي في المرئي. فالدار البيضاء وغيرها من المدن التي زرتها ومنها القاهرة وعمان وباريس.. هي دم الفكرة عن المكان. ومواجهة المدن هو أشبه بمواجهة الذات للجمال. إنه «ليس شعورا بالأشياء، ولكنه شعور بالذات» (بيونج شول هان، خلاص الجمال).

- ألم تفكر في الكتابة عنها بشكل سردي؟

• أعتقد أن التقدير الذي أكنه للمدينة يحول دون الكتابة عنها بشكل سردي، فوقائعها وأحداثها أبلغ من الكتابة، وكل محاولة ستجدني غير مقتنع تماما، الدار البيضاء سرد متجدد وحكاية دائمة التغير والتبدل، وهذا حال المدن الكبرى والمتشعبة، لذلك وجدت في الشعر، على حد تعبير مونتين، كيف أتذوق نفسي من خلال المدينة، وهو تذوق مغموس في ماء له طعم ولون.

- بدء ديوانك «المقر الجديد لبائع الطيور» بتضمينات للشاعر اللبناني بسام حجار والفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير والشاعر الأرجنتيني أنطونيو بورشيا، هل الهدف منه عكس الرؤية العامة للديوان وهي محاولة قراءة وتفسير العزلة والندوب الدالة على قسوة الأيام؟

• هي مقتبسات وإشارات لا توجه الديوان بقدر ما تفتح أفقه على ما يجمع الشعر بالفكر والفلسفة، إنّ التفكير في الحداثة هو تفكير في الاعتيادي واليومي. وليس من الصدفة أنّ ينخرط الشعر والفلسفة في الحياة اليومية. لأن: «ما يمكن أن يُشار إليه لا يمكن أن يُقال».(فيتجنشتاين). يقف الشعر كما الفلسفة في خانة «المشار إليه» في أفق ثقافة سائدة. ولذلك فالشعر والفلسفة لا يحصران المعنى، وإنما يعيدان قراءة الآخر على مستوى التمثلات، وهذا جوهر الدينامية الحداثية؛ أي التفاوض مع الآخر والعناصر والأشياء. لذلك فإن وظيفة التضمينات والمقتبسات تعميق يسائل الخيال الأسطوري والعلمي والتاريخي من زاوية لغوية صرفة.

- لماذا ترى أنه ليس بالضرورة أن تقرأ الشعر أو الأدب لتكتب نصا شعريا.. هل التجربة الحياتية كفيلة وحدها بإنتاج شعر جيد؟

• ليس شرطا لكتابة الشعر هو الاطلاع على تجارب سابقة، أو النسج على منوال النصوص الشعرية العليا، وهو ما أصبح متحققا في بعض التجارب، أرى أن الشعر في كل شيء، وهو متحقق في العلوم والفنون البصرية، أصبح الشعر يمشي معنا في الشوارع والأزقة، إنه نتاج التجربة والخبرة. يمكن التمثيل بتجربة رونيه شار وشعرية التفاصيل، وهي مرتبطة بالمرئي والمتاح المنفلت، وكل شيء عصي ومستحيل. ولكي نرتقي بالكتابة يقتضي الأمر التنويع بين المشهدية وهي تسعى لمزج الشعر بالسرد، والتفاصيل باعتبارها أساس المشهدية. وهذا ما يفتح أفق الكتابة الشعرية، وقد يبعدها عن التراتيلية والطقوسية. كم نحن في أمس الحاجة إلى شعر يخرق شيئا قديما، ويخلق شيئا جديدا، مع الاعتناء باللغة لأنها إذا كانت «خارج الشعر، فهي لا تصلح إلا للعد والحكي»، على حد تعبير هوسرل.

- هل يمكن أن يكون الشعر بديلاً للسيرة الذاتية في بعض الحالات؟ بمعنى هل يمكن كتابة السيرة من خلال الشعر؟

• منذ القدم والشعر محكوم بمبدأ المزدوج والتنوع داخل الوحدة الشعرية التي تؤطره، فلم نقرأ نصوصا خارج هذا الأساس الكتابي، وحتى بإرجاعها إلى أبسط أشكال الكتابة الشعرية نجد انفتاحا على الذات أو الأنا، ولذا ففي القصيدة المعاصرة لا نرى الرؤية الشمولية فحسب، بل نعثر على الحد الأقصى من التنوع الذي يفسح المجال أمام مداخل عديدة.

فالذاتي مكون أساسي في الشعر، على أن الحد الأقصى الآخر المتحقق هو الابتكارات التي تصرف الشعر عما هو غير متوقع. والقصيدة، بإرجاعها إلى أبسط أشكالها هي ذات الشاعر وسيرته الشعرية، وإنه لتغيير كبير طارئ على الشعر بانتقاله من القصيدة الشاملة الملحمية، على حد تعبير أو كتافيو باث، إلى القصيدة العميقة المبهمة والمتعبة باليومي في آن.

الذاتي أو السيري في الشعر العربي المعاصر هو استجلاء للعلاقة الملتبسة بين الكتابة والأنا، وفاعلية هذا الاستدعاء لا يمكن إنكاره، لأن الكتابة ذاتية في مبدئها، ومفهوم الذات في الشعر يتجاوز الجانب الشخصي أحيانا في بناء القصيدة ليعني بناء لغة شعرية وخطاب شعري فردي بطريقة خاصة إيقاعا وتركيبا، ومتخيلا ورؤى.

إن الكتابة الشعرية بهذا التصور تستثمر مفهوم السيري، أي الجانب الشخصي من سيرة الشاعر ويُـنْطِقُه ضميرا متكلما، أو بضمير الغائب.. حيث ينتهي المسار بالشعر إلى الانفتاح على أشكال التعبير والقول بشكل يفتح أفق الشعر.

هذا يتوقف على مدى استثمار السيرة الشخصية وعلامات الاسم الشخصي للشاعر، مثل بعض الأحداث ومظاهر اليومي، أو الأماكن والمشاهد، الأشخاص والأوضاع، في صنع نسيج نصي متعدد الإيحاءات والأيقونات الخطابية.

يُضاف إلى هذا اعتبار السرد في الشعر مدخلا جماليا يكون حضورُه في تضاعيف النص الشعري - القصيدة، وطريقةً في اكتشاف أمكنة وفواعل الصراع والتناقض، وأحكام الرؤية وحدود الانفعال ضمن نسق مخصوص بذات الشاعر. هو نسق اللغة الشعرية المنبثق من الإيقاع والمتخيل الذي تتمثله بالأساس عن طريق الاستعارة والمجاز والتصوير الفني.

إن إعادةِ بَنْـيَنَة العلاقة بالعالم في القول الشعري وقولِ المشاهد الكبرى أو حتى التفاصيل الجزئية من خلال قصيدة هي بمثابة مسرحٍ تُلتقط وتُجمعُ فيها (وإليها) الإشارات والعناصر السِّيريَةُ، يُشكل الشاعر منها اللحظات ويختلقُ بها الحالات والعوالم. المُدركة والمفقودة. بالوعي والذاكرة، بالأحاسيس والإشراقات.

لقد اضطلعت الأنا بمهمة مفصلية في بناء الشاعر المعاصر لقصيدته الذي استثمرها كما في النماذج العليا للشعرية العربية كبرى، خاصه تلك التجارب الإنسانية التي وجهت الشعرية العربية للبوح بجوانب من السيرة الذاتية، وهو ما وضع النصَ الشعري على تخوم السرد الحاضر في كل شيء تقريبًا. والطافح على كل اللغات والتعبيرات. من هنا جاءت نماذج من الشعر المعاصر أيضًا التي انفتحت على أشكال فنية وشعرية مختلفة، وأفادت من الإمكانات التقنية التي توافرت لديها، حتى إن ظلت الوظيفة التخييلية هي المهيمنة والغاية القصوى.

- لماذا تميل إلى وضع التشكيل على الشعر؟ ألا يمنحه رصانة زائدة عن الحد قد تعيق تدفق القراءة؟

• أعتقد أن التشكيل يضطلع بوظيفتين؛ الأولى: جمالية، والثانية: كتابية. وبهما نحصل على نص شعري مبهج وحيوي، وقد يحفز القارئ على تجريب أداء الشعر، وفق منطق كتابي، ومن خلال هذه العملية تتحقق النقلة من نحوية الشعر، إلى نحوية الصورة الشعرية. لأن الشعر في هذا السياق اللغوي هو من صميم الإبداعية بكلا تلاوينها التعبيرية والأدائية والإيحائية والرمزية والصوتية.

- اشتغالك بالنقد هل أفادك أو عطل التدفق الشعري داخلك؟

• في البدء، لا أستطيع أن أفصل بين الشعر والنقد، وأعتقد أن الشاعر أول ناقد لشعره، فهو يمارس الكتابة وإعادة الكتابة، وينقد ما كتبه قبل أن يطلع الآخرين عليه. والمسألة لا تتحدد عندي من كون الشعر غير النقد، أو الناقد غير الشاعر، بل أحصر الأشياء فيما يوحد بينهما؛ لأن الكتابة الشعرية لا تخلو من رؤية معرفية وجمالية أعتبرها ترسانة نقدية قد يهتدي بها الشاعر في مشروعه الشعري، ويدافع عنها في آن.

- لماذا تراجعت عن الكتابة بالفرنسية بعد أن بدأت بها مشوارك الأدبي؟

• من الصعب جدا أن تفكر بلغة وتكتب بلغة أخرى، وتجد نفسك حيال معجمين ولسانين مختلفين، الأول يتيح لك اختيارات متعددة ومتشعبة، والثاني يمنحك بدائل محدودة، كتاباتي الأولى كانت باللغة الفرنسية، وكنت في هذه البدايات أترجم مشاعري من خلال فقرات صغيرة، غير أنها لم تستمر لأنني كنت أفكر باللغة العربية ذاتها وكأنني أترجم فقط، وهذا لم يستهوني بقدر ما علمني كيف أفصل بين لغتين مختلفتين، وكل واحدة تقتضي مزاجا خاصا، سواء على مستوى التركيب أو المعجم أو الأداء. وكانت هذه التجربة مقرونة بمرحلة تعلم اللغة، وهو ما دفعني إلى إعادة قراءة نصوص سردية وشعرية بلغة موليير. وحينها اكتسبت أشياء كثيرة.

- ما جيلك مغربيا وعربيا ومن الشعراء الأقرب إلى ذائقتك عالميا ولماذا؟

• عرفت الكتابة الشعرية العربية المعاصرة طفرة مثيرة، أدت إلى ظهور العديد من الأعمال خاصة تلك التي اقترنت بحس تجريبي، وبقيت مقومات هذه الكتابة غير ثابتة، ومنطلقاتها مقاعد غير مريحة ترفض التنميط، وتنحو إلى تفجير أشكال كتابية جديدة غير متداولة. وهذه الكتابة هي الأقرب إلى ذائقتي، خاصة، وأن وجهة نظر الشاعر العربي المعاصر في فترة ما بعد البنيوية قد تغيرت عن كل ما يعتبره من المسلمات سواء على مستوى المعايير الجمالية أو الموروث الأكاديمي.

فالشعر، في هذا المستوى، أصبح يتطلب اندماج الشاعر في روح الفنون والعلوم والقارئ على حد سواء، وأيضا محاولة استنباط معايير جديدة لتدبير أفكاره المكتوبة أو المقروءة، وعدم فرض معاير قديمة على شيء جديد ومستحدث. وهنا، بطبيعة الحال، تظهر أهمية المعرفة في العملية الكتابية، وتفاعل الشاعر والقارئ مع المتغيرات والمستحدثات شيء مستحب، وربما محتم، دائما حتى يتمكن من توصيل المعنى الذي ارتضاه إلى المتلقين.

لا تبتعد الكتابة المعاصرة عن مفهوم الفعل الإبداعي، حتى وإن كانت منفتحة على مجالات غير أدبية أو فنية، وهذا راجع إلى كونها فعلا تجريبيا مرتبطا بعمليتي الخرق والخلق، خرق ما هو سائد، وخلق أنموذج جديد. وفي هذا السياق أستدعي مقولة بيكاسو «كل فعل من أفعال الإبداع هو في المقام الأول فعل من أفعال الهدم».

إنه هدم للحدود بين الفنون الزمانية والمكانية، بين الفنون البصرية والكتابية، بين الفن والعلم بين الشفهي والكتابي. وكل هدم هو بغاية اكتشاف أشكال ورموز وإيحاءات جديدة يمكن أن تُشيَّد عليها أفكار جديدة محتملة الحدوث، أو مستحيلة التوقع.

لن يتحقق هذا المبتغى إلا برؤية كتابية تتغيا تجريب بدائل جديدة في الكتابة، وتؤمن بقاعدة الإحلال والإزاحة كشرط إمكان تحقق الإبداعية، فسمة الكتابة التجريبية المعاصرة هي الانفتاح، والتنويع والتكثيف، بغاية إكساب العملية الإبداعية أراضي جديدة وفتح أفقها.

ولكن للأسف الشديد، ما تزال بعض الكتابات لا ترقى إلى مستوى الانشغال بالوعي الكتابي الجديد، لأن فعل الكتابة أصبح في مواجهة الروافد الأخرى غير الكتابية، وما يكتسب أهمية في هذا السياق هو التلازم غير المشروط بين الكتابة والتجريب، أي مادة بناء الكتابة، على نحو يوسع مفهوم التجريب، ويمنع حصريا الوقوع في النمطية واليومي كما هو الحال في الكتابة الكلاسيكية.

ثمة ظروف محددة، إذن، تكون فيها الكتابة معادلا رؤيويا لتوسيع منطق الإبداع الأدبي، وفتح أفق الشعري على الصورة، والسردي على الهندسة المعمارية، والتشكيلي على الرقمي....إلخ. ومدها بالطاقات الممكنة والمتاحة، لأن الكتابة المعاصرة تنصت في رصدها للفنون والعلوم، وتنوِّع من تقنياتها، وتخضع لرؤية كاتبها الذي هيأ لها مشغلا كتابيا خصبا.

القارئ هو الآخر سيخضع لتغيير جذري يطال مقدرته على التلقي واستيعاب مثل هذه الكتابة. حيث يكتشف من خلالها تداخل وانخراط الأنواع الأدبية، وهو ما يحتِّم عليه أن يتزود بالمعرفة ويستند إليها حتى تضيء له حجم التداخل وصورته.

من هذا المنظور، تبدو الكتابة الأدبية الجديدة صنفا، أو نوعا أدبيا شديد المرونة والاتساع، يتطلب جهدا معرفيا للإنصات إليه واستيعابه، لأن النوع الواحد من هذا الصنف وهذه الكتابة قد يقع على حدود كتابات أخرى وفنون مفتوحة وعلوم كبيرة.

- هل ترى أن الشعر مظلوم في العالم العربي من حيث تراجع مقروئيته أو ابتعاد الجوائز عنه؟

• ليس الشعر مظلوما في العالم العربي، وإنما الطرق التي تسلكها معظم التجارب لا تستجيب لأسئلة الوجود والواقع والأنا والشيء.. لأن المنافذ التي ينبغي التفكير فيها اعتمادا على مبدأ التخييل، والشرط الرؤيوي الذي يكرس جهات النظر أصبحت شبه مغيبة. فالشعر الآن، يتنوع بعدد الاهتمامات وطبيعة الانخراط في الوقائع، وعلى الشاعر أن يجدد وينوع طرق استلهامه، ويعلل احتكاكه بالأفكار والمواضيع، لا أن يحاكي النصوص العليا.

إن كتابة الشعر، تستلزم الانضباط لمقتضيات التفكير المباشر الذي يسمح بتعرية تهافت المواقف، وتخليص الفكر الشعري من الخلفية الإيديولوجية، وتنويع زوايا الالتفات المعرفي بالنظر إلى الخصوصية الإبداعية. وبقدر ما يدافع الشعراء عن نصوصهم، فإنهم سينخرطون في العلاقة الملتبسة مع العالم.

يقول تشارلز سيميك: «على القصيدة أن تذكر القارئ بإنسانيته، بما هو عليه وما يستطيعه، أن توقظه، بطريقة ما، على حقيقة أن ثمة عالما أمام عينيه، وأن لديه جسدا، وأنه سيموت، وأن السماء جميلة». أعتقد أن مقولة سيميك تنبني على تصور معاصر، وعلى بُعد كتابي صرف يعيد الاعتبار للشعر، ويخلصه من المفاهيم التي كانت تقيد لا نهائيته.

- من الناقد الذي ترى أنه لمس تجربتك الشعرية بشكل قوي ولماذا؟

• الإجابة عن هذا السؤال يضعني في مقام الاعتراف والوفاء بالأسماء النقدية المغربية والعربية التي أنصتت إلى تجربتي، كل من موقع رؤيته القرائية والتأويلية. ولا يمكن ذكرها، في هذا السياق، بقدر ما أتوجه إليها بالشكر العميم، لأنها قاربت نصوصي الشعرية تبعا لمنطقي المهيمن والخافت، ووفقا لقاعدة متحركة تنسجم مع الرؤية التأليفية.

- أخيراً.. ما طموحك للشعر؟

• طموح أي شاعر هو الاشتغال بابتكار أشكال كتابية من داخل الشعر، لأن هاجس التجاوز هو ما يشكل تحولا كبيرا في تجربة ما. وما يستوقفني علاقة الشعر بحدَّي المشروع والمنجز، باعتبارها رهانا ملفتا ومتمركزا على المعرفة بالشعر وفيه. وخلخلة اللغة، وإعادة التفكير في البناء، وهو ما ينتج عنه كتابة شعرية مغايرة ومتحولة تتمثل أساليب مبتكرة تشحن الشعر بحياة جديدة من خلال أشكال مغايرة لمفهوم الذات والكتابة والوعي والرؤية في العملية الإبداعية.