المؤرخ شعبان يوسف :بهاء طاهر كان «حمامة» وسط «صقور» جيل الستينيات
أحد أصدقائه يقول: «أي منفى عاش فيه بهاء؟ إنه منفى 7 نجوم»
بهاء يشبه نجيب محفوظ في تفوقه على جيله والأجيال اللاحقة عليه
اطلاعه على الأدب بلغات عالمية منحه قدرة على متابعة ما يُكتب في الغرب
تعرض للهجوم بعدما انتقد مسرحية «مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور
كان يتلقى قصصاً للشباب ويقرأها بصوته في البرنامج الإذاعي الثقافي
في كتابه «أبناء رفاعة» دافع عن طه حسين في مواجهة من يتهمونه بالتفرنج
أبطال بهاء متأثرون مثله بالصراع بين الصعيد والقاهرة.. والشرق والغرب
يرسم المؤرخ المصري شعبان يوسف في كتابه الجديد «هكذا تكلم بهاء طاهر» صورة مختلفة ودقيقة للكاتب الكبير الراحل، صورة مبنية على معلومات عايشها شعبان بنفسه، وكان جزءا منها على مدار خمسين عاما أو يزيد، حيث بدأ بهاء حياته العملية بقوة، ونشر نصوصا مسرحية وقصصية جذبت إليه الأنظار كموهبة فريدة، لكنها كذلك أشعلت نار الغيرة في قلوب زملاء جيله.
في هذا الحوار يمنحنا شعبان يوسف المزيد من الحكايات والمعلومات حول بدايات بهاء طاهر، وانعزاله، ورفضه الانغماس في الشلل الثقافية والسياسية، ودوره في الإذاعة والمسرح، وكيف عاش «حمامة» وسط «صقور» جيل الستينيات.
أول نشر لبهاء طاهر كان مسرحية في مجلة «الآداب» البيروتية بعنوان «كأن».. ما الذي تشير إليه بدايته الطريق بالمسرح؟
عندما التحق بهاء طاهر بالبرنامج الثاني الإذاعي (البرنامج الثقافي الآن) عام 1957 بعد تخرجه من كلية الآداب قسم تاريخ، كانت الأجواء في مصر محتشدة بحالة مسرحية واضحة وكثيفة، وحدث ذلك مع صعود «الفرقة المصرية»، التي كانت تُعنى بشؤون المسرح، وتضم ممثلين كبارا من طراز حسين رياض وأحمد علام، وتوفيق الدقن، وسميحة أيوب، وأمينة رزق وغيرهم، وكان المسرح والإذاعة هما أكثر وسائل التخاطب والتوجيه والإرشاد للناس بعد الصحافة، وربما قبلها أيضا، وعندما تولى الأستاذ أحمد حمروش شؤون الفرقة في أكتوبر عام 1956، بعدما توسم فيه يحيى حقي خيرا، جاء الإنذار البريطاني لكي يهدد مصر في 29 أكتوبر، هنا احتشد حمروش مع فرقته، كي يقدموا ما ينفع الناس من عروض مسرحية، وأصدر حمروش قرارين، الأول أن يفتح المسرح مجانا للجمهور، والثاني أن يفتح المسرح نهارا لتفادي وقت حظر التجوال آنذاك، وانخرط المسرحيون من الكتّاب والمخرجين والممثلين في ذلك الجو الوطني، وعندما التحق بهاء طاهر بالإذاعة، كان من بين مهامه الإخراج الإذاعي للمسرح، ولأن بهاء من النوع الذي إذا عمل شيئا، فلا بد أن يتقنه، عمل بكل حواسه في الإخراج المسرحي، ثم كتب نصين من المسرحيات ذات الفصل الواحد، وفيما بعد أصبح ناقدا مسرحيا من أهم النقاد المسرحيين.
أول قصة نشرها بهاء طاهر كانت في مجلة «الكاتب»، مارس 1964، بتقديم الدكتور يوسف إدريس.. هل يمكن القول: إنه ولد عملاقا بهذا المعنى؟ وكيف استقبلت الأوساط الأدبية قصته؟
بالطبع وكما قال يوسف إدريس محتفلا بتلك القصة: إن بهاء طاهر كاتب مكتمل الموهبة، ولا تعاني كتاباته الأولى من علل البدايات، حيث إنه استطاع أن يصوغ إبداعا خاصا به في ظل الكتابة الواقعية السائدة آنذاك، وكان أحد ممثليها هو يوسف إدريس نفسه، ولكن قصة بهاء كانت ذات صبغة مختلفة، وقد خاض بعض كتّاب جيله في ذلك اللون من الكتابة مثل وحيد النقاش، ولكن النقاش انحاز للكتابة النقدية من ناحية، ثم الترجمة من ناحية أخرى، لذلك لم يكمل، حتى جاءت قصة بهاء طاهر وما بعدها من قصص لكي تفتح مجالا خصبا في الكتابة القصصية، ولأن بهاء كان منزويا، ولم ينخرط في أي تكتلات سياسية، أو شلل ثقافية، لم يحتفل به أحد من أبناء جيله في البدايات الأولى.
لماذا وصفتَه بأنه التلميذ الأكثر نجابة لنجيب محفوظ؟
نجيب محفوظ منذ أن بدأ الكتابة في أواخر عقد الثلاثينيات، وهو يحتفظ بسمات عديدة، أولها التوهج في كل ما يكتب، منذ رواياته التاريخية الأولى، ثم رواياته الاجتماعية، ثم رواياته الفلسفية كما اصطلح النقاد على تصنيف تطوره، رغم أنه تصنيف مجازي، أما السمة الأخرى فهي تجاوز نجيب محفوظ لكل الأجيال التي رافقته وتلته كذلك، وقد سار بهاء طاهر على شاكلته، وكان يشبهُه في تفوقه، فمنذ أن أصدر مجموعته القصصية الأولى «الخطوبة»، ثم مجموعاته الأخرى «بالأمس حلمت بك»، و«أنا الملك جئت»، و«ذهبت إلى شلال»، وكل مجموعة تأتي بجديد دوما. كان يتجاوز نفسه، ولا يكرر تقنياته. كذلك كانت سردياته القصصية والروائية حجة في حينها، فضلا عن أن نجيب ومحفوظ وبهاء طاهر كانت كتاباتهما متقاطعة تقاطعا حادا مع قضايا الواقع، ورغم ذلك لم تكن تلك الكتابة تفتقد جماليات السرد بأي شكل من الأشكال.
بهاء طاهر له ترجمات مرموقة منذ أن ترجم دراسة عن فن المسرح لإريك بنتلي..؟ هل اتجه إلى الترجمة لسد ثغرة في الثقافة المصرية؟.. وما رأيك في اختياراته؟
أكيد كانت ترجمات بهاء طاهر في النقد المسرحي توفر مساحة ناقصة في ذلك الوقت، فضلا عن ترجمات أخرى له في النصوص المسرحية، كما أنه ترجم بعض قصص أنطون تشيخوف، ونشرها في دوريات ثقافية، ولكنها لم تُنشر في كتب. كان بهاء يتقن اللغتين الإنجليزية والفرنسية، لذلك كان يتنقَّل بينهما في ترجماته، وقد ضمّنتُ بعض تلك الترجمات في الكتاب الذي أعددته وقمت بتقديمه تحت عنوان «بهاء طاهر ناقدا مسرحيا» وقد صدر عام 2012 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لكن لا تزال هناك ترجمات نقدية وإبداعية حتى الآن في بطون المجلات لم تُنشر في أي كتاب من كتبه.
هناك من يرى أن بهاء طاهر كان شخصا محافظا وأن تلك المحافظة قد انعكست على أدبه حيث تبرز لديه نظرة أخلاقية عالية.. ما رأيك؟
لا أعتقد أن بهاء طاهر كان محافظا، وربما كان من يعرفونه عن قرب يخلطون بين البُعد الأخلاقي الشخصي، وصفة المحافظة في أدبه. بالطبع كان رجلا ذا أخلاق عالية، وهذا أمر ليس له علاقة بالإبداع، لكن بهاء تحدث أكثر من مرة في كتابات نقدية أو حوارات، بأنه من الكتّاب الذين لا يزالون مقتنعين أن هناك دورا للأدب في المجتمع، وكان قادرا على اقتحام كل القضايا الممنوعة، ولو تأملنا رواية مثل «الحب في المنفى»، سنجده قد تحدث بشكل ليس محافظا ولا تقليديا سواء في القضايا السياسية أو الدينية أو الجنسية، فالبطل الصحفي الذي يعمل في إحدى العواصم الأوروبية، كان على علاقة عاطفية بمترجمة من ذلك البلد، وهناك مشاهد حميمة بينهما لكنها ليست حادة. بهاء يستطيع أن يصل بإحساس قارئه إلى ذروات معينة، دون أن يلجأ إلى ألفاظ أو مفردات عامية أو سوقية، إذ كانت لغته رصينة. أحيانا كنتُ أشعر أن هناك صلة عميقة بين جماليات التقنيات السردية في كتاباته، وبين صياغاته اللغوية الرصينة، تلك الصياغات التي تأخذ كلية القارئ بقوة، وفي الرواية نفسها، استطاع أن يشير إلى المتهم الرئيسي في خراب الصحافة، وذلك دون هتافات زاعقة.
ولو تأملنا كذلك روايته «قالت ضُحى» التي صدرت عام 1984، سنجد أن الرواية تعرضت لكافة أشكال الفساد في الواقع المصري، إلا أن ذلك كان يجري من خلال علاقة عاطفية ربطت بين بطل الرواية الذي لم يمنحه اسما، وبين ضحى، رغم أن الاثنين كانا ينتميان لطبقتين وثقافتين ومزاجين مختلفين، من ثم فالقارئ يتابع الأحداث وتطور الشخصيات دون أي ملل، أو شعور بجفاف المادة السردية في الرواية.
لماذا ترى أن كتابته في المسرح هي الأهم في هذا المضمار؟
كان في عقد الستينيات نقاد كبار على درجة كبيرة من الأهمية، أبرزهم فؤاد دوارة، وفاروق عبد القادر، ورشاد رشدي، وغيرهم على الدرجة نفسها من الثقافة والجدية، رغم اختلافاتهم الحادة، لكنهم جميعا لم ينغمسوا في آليات المسرح بشكل متشابك مثل بهاء، فهو بدأ مخرجا مسرحيا، فضلا عن أنه كان يُترجم مباشرة بعض النصوص وأخرجها بنفسه، ثم خاض تجربة الكتابة المسرحية بشكل ما، وهناك صفة يتمتع بها وهي «الجدية الصارمة» في كل ما يكتب، فضلا عن اطلاعه على الأدب بلغات عالمية، وهذه المعرفة أعطته قدرة على متابعة أحدث ما يُكتب في الغرب في مجال المسرح، أما السمة التي جعلته مختلفا بشكل قاطع، فهي أنه لم ينطلق في كتاباته النقدية من أبعاد أيديولوجية، فضلا عن أنه كان مستقلا، ولا يوجد أي ضاغط شخصي أو شللي أو سياسي يدفعه لكتابات ذات غرض يخدم تلك الأبعاد، إذ كان إخلاصه لقراءة العرض، يفوق أي اعتبارات أخرى لديه، ولذا كان يحيط في قراءاته بالعرض، بداية من أدبية النص المكتوب، ثم قدرة الممثل على تجسيد ما في النص، ثم الإضاءة، والديكور، وتقريبا تعرض للنقد أكثر من مرة بعدما كتب رأيه دون أي حسابات، وهذا حدث له عند نقده لمسرحية «مأساة الحلاج» لصلاح عبد الصبور، ورأى أن المخرج أفرط في جعل القضاة داخل العمل مجرد مهرجين، وبعدها كتب الفنان مصطفى القسط ردا على بهاء في مجلة «الكاتب»، محتجا على ما أورده بها من نقد سلبي، وكانت حجة الممثل أن عبد الصبور نفسه كان يريد ذلك، والمخرج التزم بما كان يريده، وبالتبعية فالممثل كان ينفذ ما أراده المؤلف، وما رآه المخرج، وهذه قضايا طرحها بهاء بسخاء، كما أنه تعرض أكثر من مرة لقضية التناقض بين ما يطلبه الجمهور، وما يطلبه الفن. كانت فترة الستينيات هي المساحة الزمنية التي تألق فيها بهاء كناقد مسرحي، ولكن بعد صدور مجموعته الأولى عام 1972، أقلع عن الكتابة النقدية للمسرح.
في رأيك هل كان بهاء كاتبا غيريا.. بمعنى أنه بشَّر بكثير من الأدباء من خلال إذاعة البرنامج الثاني؟ وإلام يشير هذا في شخصيته؟
بالفعل ظل بهاء لفترات طويلة من حياته مهتما بالكتّاب والأدباء الشباب، يتلقى قصصا لهم عن طريق البريد، ويقرأها بصوته في البرنامج الثقافي، دون أن يعرف منهم أحدا، كان بينه وبين كل هؤلاء «طابع البريد، وجودة النص» فقط لا غير، فلم يهتم بالبحث إن كان ذلك الكاتب أو ذاك يشغل وظائف ثقافية أو صحفية في جريدة أو تلفزيون أو خلافه، وهناك مئات الكتّاب الذين قدم قصصا لهم في برنامجه، لم يلتق بهم في الواقع أبدا، وهناك شهادات لكتّاب أقرّوا بهذا الأمر، وهذا يعود للبُعد الأخلاقي عند بهاء، ثم الحسّ بالمسؤولية لديه، كان يرى أنَّ للأدب دورا اجتماعيا أو ثوريا في الواقع، لذلك كان حريصا على تقديم الأدب والأدباء ممن يقدمون جديدا في ذلك المجال، وكان في وقت لاحق يحضر ندوات لمناقشة كثير من الأدباء الشباب، وأصدر كتابا عنوانه «في مديح الرواية» كتب فيه عن أعمال لأدباء من أجيال مختلفة.
هل تعد أن كتابه «أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية» هو علامة في الثقافة المصرية مثل كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر»؟
كتابه «أبناء رفاعة» على درجة كبيرة من الأهمية، لكنه لا يناظر كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»، حيث إن الزمنين - اللذين صدر فيهما الكتابان - مختلفان، وكتاب طه حسين تعرض لقضيتي الثقافة والتعليم في زمن الاحتلال البريطاني، بالإضافة إلى قضية تأكيد الهوية المصرية التي كانت تنطمس في ظل تهديدات مخيفة، أما «أبناء رفاعة»، فهو كتاب ذو أهمية خاصة في مجال الثقافة، فهو يدافع بقوة عن طه حسين نفسه في الاتهام الذي كان مشرعا في وجهه دوما، وهو أنه كان مؤمنا بـ«فرعونية مصر»، وكذلك الاتهام الثاني الذي يؤكد بأنه - أي طه حسين - يؤمن بأن الثقافة المصرية أقرب إلى ثقافة الغرب منها إلى الثقافة العربية، وقام بهاء طاهر بإثبات عكس ذلك من خلال سياحة دقيقة في غالبية كتابات طه حسين، حيث لم يتوقف عند كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» فقط بل تعداه إلى أعماله الأخرى، والكتاب يحتوي كذلك على كتابات مضيئة عن أدباء من طراز يحيى حقي ويوسف إدريس ويحيى الطاهر عبدالله.
لماذا ابتعد عن التشكيلات الثقافية والسياسية في الحياة الثقافية؟
أولا كانت هذه طبيعة بهاء طاهر الشخصية، كان يميل إلى الاستقلال، ثانيا كان مشغولا بالبحث والقراءة والإنتاج، والكتابة النقدية المنتظمة في مجلتي «المسرح» و«الكاتب»، وكانت الكتابة كما يلاحظ المتابع لكتابات بهاء، تلزمه بتخصيص وقت لحضور العرض المسرحي أكثر من مرة، ثم الكتابة عنه، تلك الكتابة مجهدة لكنها قدمت وجبات قوية ومفيدة بالفعل، لم تكن كتاباته تلبي الصحافة السريعة لكنها كانت رصينة، ثالثا كان بهاء يعمل في جهاز حسّاس للغاية، وهو الإذاعة، فكان ذلك بالتأكيد يشكّل عقبة سيدفع ثمنها كثيرا إذا حاد عن الخط العام، ورابعا كان بهاء يطرح أفكاره وتوجهاته السياسية في أعماله القصصية والروائية، بعيدا عن التحزب أو الانتماء لأي تنظيم.
قلت إن كثيرين من رفاق جيله «الستينيات» تجنبوا إدراجه في متن الجيل.. كيف حدث ذلك ولماذا؟ وهل كان مهتما؟
طبعا، وهذا كان معروفا وشائعا وقتها، وفي رسائل «عبد الحكيم قاسم» التي نشرها الأستاذ محمد شعير، صرّح عبد الحكيم لإبراهيم منصور بأنه لا يحب قصة «الخطوبة» لبهاء، وعندما اختلف معه منصور في رأيه، أعاد قاسم قراءة القصة أكثر من مرة، ومنها دخل عالم بهاء السردي كله، لدرجة اقتنع معها برأي نقيض، وقال لإبراهيم إنه كان يعد بهاء مجرد موظف أو مقدم برامج، ولا يجيد الكتابة الإبداعية، وهكذا كان يراه كثيرون، وأبعدت العزلة الوظيفية بهاء عن تلك الأجواء التسويقية لكتاباته، وبالطبع تأثر نفسيا بكل هذه الأجواء، لدرجة أنه أكد في مقال عام 1970 في مجلة «الهلال»، أنه لا ينتمي إلى جيل الشباب الحالي، فهو أكبر منهم عمرا. وأعتقد أن ذلك كان من منطلق غضب أو تأثر خفي.
من الحيل الفنية التي صنعها بمهارة بهاء طاهر في أعماله، بحسب تعبيرك، أنه وضع أبطاله دائما في مآزق اجتماعية تتعلق بالبحث عن جذور.. هل عمله في الخارج أم انتماؤه إلى صعيد مصر هو ما جعله أكثر انجذابا لتلك الفكرة؟
بالتأكيد انطوت كتاباته الأولى على ذلك الملمح، ففي قصته «الخطوبة» يذهب البطل ليخطب زميلته في العمل - وهي ابنة أحد الموظفين الكبار - فيجد نفسه يواجه أسئلة تتعلق بمعلومات أشاعها عنه شخص يدعى عبد الستار، ومن خلال حوار حاد دار بين البطل ووالد الفتاة، نعرف بعض السمات الخاصة عنهما لها علاقة بانتمائهما إلى صعيد مصر، كذلك عاد الحديث عن الجنوب بتوسع في رواية «شرق النخيل»، ونجد هناك مواجهة أو صراعا بين الصعيد الذي ينتمي إليه بطل الرواية، وبين مدينة القاهرة التي أتى ليدرس فيها، كذلك عاد لمناقشة القضية نفسها في رواية «خالتي صفية والدير»، فأحداثها كلها تدور في صعيد مصر، وفي الأقصر على وجه الخصوص، أما كتاباته التي تعرّضت للعلاقة بين الشرق والغرب في قصتيه «بالأمس حلمت بك»، و«أنا الملك جئت»، ثم في رواية «الحب في المنفى» على سبيل المثال، لا الحصر، فهذا بالتأكيد يعود إلى أن بهاء عاش ردحا طويلا من الزمن في جنيف كمترجم في هيئة الأمم المتحدة، وتأثر بالجو الذي أحاط به كثيرا.
هل كان بهاء طاهر مغضوبا عليه من الشلل الثقافية لأنه كان مستريحا ماديا ومتفرغا للكتابة؟
للأسف هذا كان صحيحا، فعندما عاد من جنيف، ونشر روايته «الحب في المنفى» عام 1995، أحدثت جدلا واسعا وعميقا في الحياة الثقافية، وكتب عنها في جريدة الأهرام الناقد الدكتور على الراعي مقالا عنوانه «رواية كاملة الأوصاف»، وهذه الأجواء أغاظت مجاليه، وقد سمعت بأذني أحدهم يقول: «أي منفى ذلك الذي عاش فيه بهاء؟ إنه منفى 7 نجوم»، وبالتالي يمكن القول إن هناك صراعا خفيا بين جيل الستينيات وبين بهاء كانت له صور مختلفة.
في مارس 1966 نشر بهاء طاهر قصته الثانية «الصوت والصمت» في مجلة «الكاتب»، وفي أكتوبر نشر الكاتب محمد إبراهيم مبروك قصته الشهيرة «نزف صمت صوت نصف طائر»، هل ترى أن مبروك قد تأثر بقصة بهاء، ولعب مثله بكلمات ذات مخارج صوتية واحدة يكثر فيها حرف الصاد؟
هذا وارد بالطبع، ولكنه قد لا يكون كلاما دقيقا، لأن جيل الستينيات كان مغرما بتلك المفارقات الصوتية، وسنجدها عند كثير منهم، لكنها هنا واضحة تماما، وربما تكون من باب توارد الخواطر، لكن قصة بهاء كانت أكثر نضوجا بالتأكيد، وأكثر إقناعا على المستوى الإبداعي.
لماذا تم تجاهل نشر أعماله في ملف مجلة القصة التي كانت تصدرها وزارة الثقافة والإرشاد القومي برئاسة تحرير محمود تيمور وغيرها من المجلات؟
تم تجاهل بهاء في غالبية الملفات عن القصة القصيرة، لأنه ترفَّع عن عرض نفسه أو إبداعه، وهذا يعود للبُعد الأخلاقي في شخصيته، وبالطبع لم يكن بهاء مدرجا في حسابات الجيل كما عبَّر عن ذلك عبد الحكيم قاسم أحد مراكز الجيل الكبرى.
مَن الحمائم ومَن الصقور في جيل الستينيات.. وأنت تحسب بهاء نفسه على أيهما؟
الناقد خليل كلفت من الصقور، فقد هاجم بهاء طاهر عندما أعادت مجلة «جاليري 68» نشر قصته «الخطوبة» ومدحها الناقد غالب هلسا، فهذا لم يعجب خليل كلفت، وكتب أن القصة مجرد تكرار سردي لعالم فرانز كافكا «والعياذ بالله»، وذلك لأن كتابات كافكا كانت شبه مكروهة من جيل آمن بالاشتراكية آنذاك، وهي ومعها كتابة بهاء لا تؤكد - بالنسبة لهم - إلا الهزيمة والعبث في أرواح قارئيها، كذلك تجاهل أستاذنا إبراهيم فتحي قصة بهاء، ولم يكتب عنها حرفا واحدا، رغم أنه كان يُعقِّب على كل قصص العدد. هذه المشاحنات الصغيرة في البداية، ذابت مع تطور بهاء نفسه، ونشره لنصوص لا يستطيع أحد تجاهلها، وأنا أعد أن بهاء بالتأكيد من حمائم ذلك الجيل، فلم أقرأ له كتابات نثرية عنيفة إلا نادرا.
هل أكسبه عمله بالأمم المتحدة شخصيته الدبلوماسية؟
شخصيته أصلا دبلوماسية، ووظيفته زادته انسجاما مع تلك الشخصية الدبلوماسية.
وكيف كانت علاقتك به؟.. ما الحكاية التي تتذكرها وتلخص تلك العلاقة؟
علاقتي به كانت طيبة للغاية، وهناك مواقف كثيرة بيننا، خاصة عندما كنت أعدُّ كتابي الأول عنه «بهاء طاهر ناقدا مسرحيا»، إذ كان حريصا على مراجعة المادة التي سيتضمنها الكتاب، واكتشفت أنه كان موسوسا، ويسألني كثيرا عن جدوى كل ما يتضمنه الكتاب، ومكثنا معا في اعتصام وزارة الثقافة أكثر من شهر، كان شبه مقيم معنا، يأتي من منزله وهو يتوكأ على عصاه دون أن يُشعِرُنا بأنه رجل تجاوز خمسة وسبعين عاما.