No Image
ثقافة

الصلاة.. في القرآن

18 أبريل 2022
18 أبريل 2022

الصلاة.. لسان المتعبِّد لمخاطبة إلهه، وركن ركين في الدين، ولا يمكن لدارس أحكامه أن يغض الطرف عنها. وفي الإسلام تعتبر عموده، وتأتي في الأهمية بعد الإيمان بالله، فهي الركن العملي للتوحيد، وجعل القرآن إقامتها مناط نجاة الإنسان: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ). وقد اهتم الفقهاء بالصلاة اهتماماً بالغاً، فأفردوا لها الأبواب في مؤلفاتهم، بل خصّوها بتآليف مستقلة. وهي مبحث مهم؛ ليس لمعرفة تأثيرها في المتعبدين فحسب، وإنما كذلك للوقوف على طبيعة النفس الإنسانية التي لا ترويها إلا تلك الشربة من المعين الإلهي، وأيضاً لتتبع تطور طقوسها عبر الدهور.

لقد اتفق المسلمون على هيئة الصلاة وأوقاتها، وتناقلوها بالتواتر. نعم.. نجد تأويلات للصلاة ذات نزعة باطنية في بعض المذاهب قديماً، أو ذات منزع لغوي لدى بعض القرآنيين حديثاً، وهي تأويلات تحتاج إلى تحليل، في ظل الرغبة لفهم آليات تفكير البشر في الظاهرة الدينية، وانعكاسها على النفس والاجتماع الإنساني. وقد تشكّلت الصلاة من خلال مصادر ثلاثة:

- المصدر القرآني.. وهو أول مصادر تشريع الصلاة، وقد بنى القرآن الصلاة فيه على ما سبقه، فقد كانت الأمم السالفة تصلي، والأنبياء يؤمرون بالصلاة. ويعتبر المسلمون أن الصلاة فُرضت إجمالاً في القرآن: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ)، وأما تفاصيل هيئتها وأوقاتها فقد جاءت عن طريق السنة. ولخالد الوهيبي كتاب بعنوان «صفة الصلاة»، تتبّع فيه صفتها لدى الإباضية، منتزعاً أدلتها من القرآن.

- المصدر الروائي.. روايات كثيرة تكلمت عن الصلاة، لكنها -كالقرآن- لا تذكر هيئة الصلاة بالتفصيل والترتيب، وهي بمختلف طرقها المذهبية تتفق على أنها فُرضِت ركعتين ركعتين، ثم زيدت أربعاً أربعاً في الحضر، وبقيت كما هي في السفر.

- المصدر الفقهي.. لم تتمايز المذاهب في الأحكام العامة للصلاة، ولكن المذهبية أبت ألا أن تصبغها بشيء من دهنها السياسي، عبر حركات ميّزت صلاة كل طائفة عن الأخرى كالرفع والضم، تحدثت عنها في كتابي «السياسة بالدين».

هذه المصادر الثلاثة لم تكن منفصلة عن بعضها في تلقي المسلمين للصلاة، بل معظمهم لا يكاد يفكر فيها، ويتصور أن للصلاة مصدراً واحداً فقط هو النبي: (صلوا كما رأيتموني أصلي). المقال.. يحاول استقراءها من خلال القرآن، عبر ثلاثة محاور:

أ. المحور الإيماني.. وله مستويان: الأول أن (الصلاة صلة بين العبد وربه)، وتحقيق هذه الصلةِ الغرضُ الأسمى للقرآن: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي). فالصلاة مدخل لتحقيق العبودية الخالصة لله: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ). أما المستوى الثاني فهو ارتباط الصلاة بالإيمان بالغيب، فهي ليست نابعة من الاحتياج الاجتماعي، وإن كانت هذه الرغبة معتبرة شرعاً، إلا أن هناك ما هو أعلى منها، وهو الإيمان بالغيب: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ). وحتى البُعد الاجتماعي فيجب أن يكون مبرأً من التوجه به لغير الله، فقد عاب الله على مَن يقوم إلى الصلاة مراءاة للناس: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا).

ب. المحور الأخلاقي.. الدين يرتكز على عمودين أساسيين: الإيمان بالله واليوم الآخر، والأخلاق؛ التي يعبّر عنها القرآن بالعمل الصالح: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)، وكثيراً ما ترد إقامة الصلاة في سياق ذكر الأخلاق: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ، أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ، وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)، وإقامة الصلاة من لوازمها الانتهاء عن كل خُلُق ذميم: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).

ت. محور الأحكام.. وهي إما أحكام تتعلق بالصلاة نفسها، مثل: غسل بعض أعضاء الجسد عند القيام إليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)، ومنع قربان الصلاة في حالة السكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ). وإما أحكام قُرنت بالصلاة؛ مثل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ).

القرآن.. لا يحدد مكاناً بعينه لإقامة الصلاة، فيصلي الإنسان أينما أدركه وقتُها. أما وقت الصلاة فقد ذُكِر في أكثر من آية؛ منها: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ)، الآية تأمر بإقامة الصلاة طرفي النهار: الفجر والغروب، والليل. و(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، هذه الآية تأمر بإقامتها من ميلان الشمس نحو الغرب حتى غسق الليل؛ أي ظلمته. وقد ذُكرِتْ صلاتا الفجر والعشاء نصاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ).

وقد خُصّت الصلاة من يوم الجمعة بالحض على السعي إليها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ويُلاحظ.. أن القرآن لم يذكر لها خطبة. كما اكتفى في سائر الصلوات بذكرها عموماً، مع الإشارة إلى «الصلاة الوسطى» دون أن يحدد ما هي: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى).

ورد في «سورة النساء» وصف جانب من هيئة الصلاة، بقصرها عند الخوف، وهي الحالة الوحيدة التي ذكر القرآن قصر الصلاة فيها، فالصلاة ركعتان، وقصرها ركعة واحدة: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ).

الآيتان السابقتان.. ذكرتْ من هيئة الصلاة السجودَ، وجاء في آيات أخرى ذكر القيام والركوع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)، فلا محلّ لهذه الأوضاع إلا في الصلاة، ولذلك.. أمر الله أن يتخذ من مقام إبراهيم مكاناً لإقامتها بالركوع والسجود فيه: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

هذا مجمل ما ورد في القرآن عن الصلاة، ولم ترد فيه بغير هذا المعنى إلا في قول الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، فالله وملائكته يلازمون النبي بالتأييد والنصرة، ويلازمه المؤمنون بالاتّباع والتسليم، وهذه الصلاة أُمِر بها المؤمنون في القرآن. أما الدعاء بجملة (صلى الله عليه وسلم) ونحوها، الذي يردده المسلمون عند ذكر النبي الأكرم فلم يرد في القرآن.

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»