ثقافة

السطو على الشعراء: سرقة الفراغ

04 يوليو 2021
أجراس
04 يوليو 2021

"بينما أتجول في جسدي،

فاجأتني اللصوص

فلم يجدوا

بين قلبي ومحفظة الجيب شيئا

سوى الكلمات

وأن الدواة التي كنت أسقي بها قلمي

سال منها دمي

فاستداروا

أفرغوا في الدواة رصاصاتهم

ثم ساروا!"

محمد علي شمس الدين

***

تعد السرقة واللصوصية من الممارسات التي ترافق حياة البشر في كل زمان ومكان. ويتميز الكثير من اللصوص والسراق بالذكاء والنباهة، الأمر الذي يمكنهم من تنفيذ مخططاتهم وتدبير الحيل المناسبة للسطو على الممتلكات والأموال التي يسعون للحصول عليها. كما يتصفون أحيانا بالغلظة والوحشية والفظاظة، ما يجعلهم يرتكبون الجرائم البشعة من أجل تحقيق رغباتهم. فيما يتصف بعضهم بالثقافة والمعرفة والدراية بالشعر والأدب والفقه، كما ذكرت كتب التراث العربي. يذكر القاضي أبو علي التنوخي في كتابه (الفَرَج بعد الشِّدَّة) قصة التاجر أحمد الحارثي الذي وقع مع قافلة له في قبضة أحد أمراء اللصوص ويدعى ابن سيار الكردي، الذي يصفه التنوخي بأن مظهره كان مظهر أمير وكان "على فهم وأدب، يروي الشعر ويفهم النحو". لذا فقد ارتأى التاجر أحمد الحارثي أن يستميل قلب هذا اللص الأرستقراطي عبر الشعر فمدحه ببعض الأبيات، فرد عليه اللص قائلا: "لست أعلم إن كان هذا من شعرك". فأراد اللص أن يختبر التاجر ليتأكد إذا ما كان شاعرا بحق، فطرح إليه بعض القوافي وطلب منه أن ينسج عليها أبياتا من الشعر في حينه، ففعل التاجر ونجح في الامتحان. فما كان من اللص إلا أن سأله عن الأمتعة التي سلبت منه فردها عليه.

وبالرغم من أن اللصوص في الغالب يختارون الأهداف الثمينة من الشخصيات والمحلات والأماكن التي يجنون منها المكاسب الكبيرة، فإنه يحدث أن بعض اللصوص تسوقه قدماه إلى منزل شاعر أو اختطاف حقيبته فينتهي به الأمر حاملا في يده قبضة من الأوراق والمخطوطات والقصائد التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

الشاعر اليمني الراحل عبدالله البردوني له قصة ظريفة مع اللصوص ذكرها في قصيدته (لص في منزل شاعر). فهو بطريقة ساخرة لا تخلو من المفارقة الهزلية يرحب باللص في بيته، ويترك له الخيار في تكرار الزيارة أيضا، بل يعتذر من السارق الذي نسي علبة سجائره قبل أن يهرب، بأنه لم يجد شيئا يسرقه من بيت هذا الشاعر الصعلوك الذي لا يملك سوى الفراغ والخيبة والمرارة. يقول البردوني في القصيدة:

ماذا وجدتَ سوى الفراغ، وهرّةً تَشْتَمُّ فأرة

ولهاث صعلوك الحروف، يَصوغُ من دمِهِ العبارة

يطفئ التوقّدَ باللظى، ينسى المرارةَ بالمـرارة

لم يبقَ في كُوبِ الأسى شيئاً، حَسَاهُ إلى القرارة

ماذا؟ أتلقى عند صعلوكِ البيوت، غِنَى الإمَارَة

يا لصُّ عفواً، إن رجعتَ بدون رِبْحٍ أو خَسَارَة

لم تلقَ إلاّ خيبةً، ونسيتَ صندوقَ السجـارة

شكراً، أتنوي أن تُشرِّفنا بتكرارِ الزيـارة!؟

وإذا كانت قصة البردوني فيها شيء من الظرافة، وفد انتهت بسلام، فإن ثمة قصصا لا تكون كذلك، بل تكون فيها الكثير من القسوة والوحشية والعنف، مثل ما حدث للشاعر العراقي محمود البريكان الذي يعد أحد رواد الحداثة العربية إلى جوار برد شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي، ولكنه كان أقلهم حظا في الظهور، نظرا لطبيعته الزاهدة وحبه للعزلة وقلة حضوره الإعلامي. في عام 2002م تعرض منزل البريكان للسطو ووجد مقتولا في منزله بالبصرة، وقد سرقت في الحادثة مخطوطاته الشعرية، الأمر الذي فتح الباب أمام الكثير من الأسئلة عن هوية القاتل وأهدافه، حتى وصف بأنه "قاتل استثنائي".

يقول الكاتب العراقي عبدالزهرة زكي: "أتوقّع أن الشعر لا يزال محفوظا، وإلا لماذا سُرق مع مبلغ مالي مما كان لدى الشاعر؟ كان السارق يقدّر حاجته في الأمرين: المال والشعر المخطوط. أي قاتل هذا الذي يسرق دفتراً أو دفاتر شعر مخطوط؟ من المستحيل أن يتلفها. آمل له فعلاً أن يكون استثنائياً بين أقرانه القتلة بهذا الجانب الذي يقدّر قيمة الشعر المسروق".

ولئن كان بعض الشعراء يتعرضون للسطو والسرقة في حياتهم فإن البعض يتعرضون للسرقة بعد وفاتهم، ومثال ذلك ما حدث لمحمود درويش وطاغور ومحمد عفيفي مطر.

في عام 2017م اقتحم مجهولون منزل عائلة محمود درويش، وقاموا بسرقة حقيبة تحوتي على مقتنيات شخصية ومخطوطات لدرويش، إلى جانب هدايا تلقاها محمود من بعض الشخصيات والزعماء، بالإضافة إلى خارطة فلسطين.

ولطالما اشتكى محمود درويش من اللصوص في حياته، ولكنهم لصوص من نوع آخر، لصوص يسرقون الأوطان والذاكرة والتاريخ ويزيفون الحقائق. إنه الاحتلال الذي يمثل أبشع أنواع السرقة واللصوصية، سرقة الوطن والتاريخ، وهو ما عبر عنه محمود درويش في قصيدته (لصوص المدافن):

لُصُوصُ المَدَافِنِ لَمْ يَتْرُكُوا لِلمُؤرِّخِ شَيْئاً يَدُلُّ عَلَيَّ.

يَنَامُونَ فِي جُثَّتي أَيْنَمَا طَلَع العُشْبُ منْهَا، وَقَامَ الشَّبَحْ.

يَقُولُونَ مَا لا أُفَكِّرُ. يَنْسَوْنَ مَا أَتَذَكَّرُ. يُعْطُون صَمْتِي

ذَرَائِعَهم. فاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً، لُصُوصَ المَدَافِنِ، فِي الوَقْتِ مُتَّسعٌ لِلضَّحِيِّة

لِتُجْرِي حِوَاراً عَنِ الوقْتِ مَع قَاتِلٍ قَدْ يَكُونُ الضَّحِيَّة

وَعُودُوا إِلَى أَهْلِكُمْ. رُبَّمَا احْتَاجَ أَطْفَالُكُمْ لُعْبَةً غَيْرَ قَلْبِيَ فِي بُنْدُقِيَّهْ.."

يقول الدكتور حسين ترّوش في كتابه (تمفصلات الذات وعلاقتها بالآخر في خطاب محمود درويش الشعري): "والأفعال التي قام بها هؤلاء اللصوص تنوعت للإحاطة بتاريخ الفلسطيني فوق أرضه وتزييفه بأشكال مختلفة، فقد طمسوا كل الدلائل التي تبرهن على علاقة الناس بهذه الأرض، ولكنهم لم يقفوا عن هذا الحد بل تناسوا التاريخ المكتوب وأولوا صمت الفلسطيني بأنه اعتراف منه بأكاذيبهم، ولكن الشاعر يدعوهم إلى البحث عن هويتهم الحقيقية وأن يكفوا عن تقمص تاريخ الفلسطيني القديم"

وفي عام 2008م ألقت شرطة بنجلادش القبض على رجل على صلة بسرقة ميدالية جائزة نوبل التي منحت للشاعر الهندي المعروف رابيندرانات طاغور الذي فاز بجائزة نوبل في الآداب عام 1913م. وكانت السرقة قد جرت في جامعة فيسفا بهارتي في ولاية البنغال الغربية بالهند، عام 2004م.

أما حادثة اقتحام منزل الشاعر المصري محمد عفيفي مطر فتمثل أحد أبشع أنواع الجرائم وحشية وقسوة، إذ شهدت الحادثة مقتل أرملته الأديبة نفيسة محمد قنديل التي عثرت الشرطة على جثتها بعد قتلها، في ظروف غامضة، في منزلها الذي تعيش فيه بمفردها بعد وفاة زوجها، بمعية خادمة تقدم لها الرعاية وتعتني بها. وقد اعترف الجاني بارتكاب الجريمة وحكم عليه بالإعدام!

وفي مصر أيضا قام أحد العاطلين باقتحام شقة الشاعر سيد يونس، بمدينة 6 أكتوبر، وسرقتها بعد أن قام بكسر باب الشقة، لعلمه بعدم وجود أحد في الشقة. وقد تمكن السارق من السطو على بعض الأموال والهروب بها قبل أن يجري إبلاغ الشرطة والقبض عليه.

الشاعر السوري أسعد جوان قرر الانتقال للعيش في منزل جديد، ولكنه لم تدم فرحته طويلا، إذ عاد في أحد الأيام ليجد باب منزله مخلوعا وقد نهبت ممتلكاته. ومن بين تلك المسروقات التي تكبد الشاعر فقدانها أكثر من 15 مخطوطة ذات أهمية بالغة.

أما الشاعر الفلسطيني الشاب مازن معروف فقد كانت حادثة السرقة التي تعرض لها سببا في تحوله من الشعر إلى السرد، إذ سرقت حقيبته التي كان يحتفظ فيها بمخطوطته الشعرية، فقرر على إثر ذلك أن يتجه للسرد. وكان هذا التحول فاتحة خير عليه إذ فاز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة في دورتها الأولى، عن مجموعته القصصية الأولى "نكات للمسلحين".

***

"منذُ سبعين عامًا لمْ أنمْ جيدًا

كنت أفتحُ نافذتي كلَّ ليلةْ

وأطلُّ على الشارعِ العامِّ

حيث اللصوصْ

واقفون لسرقةِ بيتيَ،

والآنْ صار عندي ثلاثُ نساءٍ

وعشرون طفلا،

كلُّهم يسهرون معي

في انتظارِ اللصوصْ!"

يوسف عبدالعزيز